"مشان الله.. برجوكم تعملوا مقاومة شعبية سلمية.. مشان الله وينها.. وينها المقاومة الشعبية السلمية اللي لازم نعملها". هذه كلمات الرئيس محمود عباس المتوسلة واليائسة، الموجهة للفصائل والشعب في خطابه في اجتماع "القيادة" الاستثنائي، الذي عقد في مدينة رام الله في 29 إبريل/نيسان 2021.
اتفقت الفصائل الفلسطينية مجتمعةً غير مرة على ضرورة وأهمية إطلاق مقاومة شعبية ضد الاحتلال الإسرائيلي، كان آخرها في اجتماع أمناء الفصائل العامين، الذين اجتمعوا لدراسة الرد على "صفقة القرن" وخطة الضم والتطبيع العربي-الإسرائيلي، عبر الربط التلفزيوني بين رام الله وبيروت بتاريخ 3 سبتمبر/أيلول 2020. من أهم قرارات الاجتماع الاتفاق على إطلاق وتشكيل قيادة موحدة للمقاومة الشعبية، وقد صدر بالفعل البيان رقم (1) عن القيادة الموحدة بتاريخ 13 سبتمبر 2020، لكنه كان البيان الأول والأخير.
قد تكون الانتفاضة الأولى أفضل مثال عن المقاومة الشعبية/المدنية الفلسطينية، من حيث الأدوات، وسعة الانتشار، ونسبة المشاركة الشعبية، بالتالي القدرة على التأثير. اللافت في التوقيت، أنه بينما كان الجنوب أفريقيون في طريقهم لإنهاء نظام التمييز العنصري في بلادهم، الذي بدأ أيضاً في عام 1948، كان الفلسطينيون ممثلين بمنظمة التحرير الفلسطينية، بقصد أو بدونه، يشرعون النظام العنصري في بلادهم، عبر توقيعهم اتفاق "أوسلو" المشؤوم، في أسوأ استثمار ممكن للانتفاضة الأولى. إذ أعفوا إسرائيل من وصم العنصرية، ومن كلفة الاحتلال، ليديروا شؤون الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة نيابةً عن الاحتلال، من خلال إنشاء جهاز السلطة الفلسطينية. اللافت أيضاً بعد 45 يوما فقط عن عقد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، الذي قدم إسرائيل للعالم كدولة طبيعية وشرعية، بل وطالبة للسلام بمباركة عربية وفلسطينية، وبطلب من الرئيس الأميركي بوش الأب، ألغت جمعية الأمم المتحدة العامة قرارها رقم 3379 الصادر عام 1975، الذي ساوى بين الصهيونية والعنصرية.
بعد "أوسلو" وتأسيس السلطة الفلسطينية، حاول الفلسطينيون تغيير الواقع الذي فرضته اتفاقيات أوسلو مرات عديدة، عبر هبات وانتفاضات كثيرة، مثل هبة النفق عام 1996، والانتفاضة الثانية 2000-2005، وهبة السكاكين 2015-2016، وغيرها. أيضاً، تعرض قطاع غزة لهجمات واعتداءات إسرائيلية عديدة، أعنفها اعتداءات 2008-2009، 2012، 2014، 2021، وآخرها في شهر أغسطس/آب الحالي.
رغم تطور أدوات المقاومة المسلحة لكنها بقيت في دائرة مفرغة وغير قادرة على تحقيق إنجازات أقلها رفع الحصار عن القطاع، كذلك بدت أكبر الحركات المسلحة؛ "حماس"، في الإقرار بعدم قدرة المقاومة المسلحة وحدها على تحقيق الإنجازات، ولوحظ تراجع مقاومتها المسلحة من المستوى الاستراتيجي إلى المستوى التكتيكي.
فشل الفلسطينيون في محاولاتهم لتغيير الواقع التي فرضته اتفاقيات "أوسلو" رغم التضحيات الكبيرة، بل أنتجت الانتفاضة الثانية وعسكرتها واقعاً أسوأ بكثير. لم يدرك عباس والفصائل الفلسطينية المتغيرات الجوهرية التي طرأت منذ أوسلو، جاعلةً من فرصة انطلاق مقاومة شعبية مؤثرة وقابلة للاستمرار شبه معدومة.
أهم تلك المتغيرات إنشاء السلطة الفلسطينية، والوظائف الأمنية الموكلة لها (خاصة بعد الانتفاضة الثانية وبعد الانقسام)، وأداء قيادة السلطة والفصائل وفسادهم، وبالتالي عدم ثقة الجماهير بهم. أشكال المقاومة الشعبية ما بعد الانتفاضة الثانية كانت مشتتة، وذات أهداف مناطقية محصورة غالباً في مناطق محددة، مثل المقاومة الشعبية في بعض القرى في مناطق "ج" المحاذية لجدار الفصل العنصري. مع ذلك، استعادة المقاومة الشعبية في قرى بعض أراضيها المصادرة لأغراض استيطانية أو عسكرية، وتمكنت قرى أخرى من تغيير مسار الجدار مستعيدةً جزءاً من الأراضي التي ضمها الجدار. ونجحت بعض الهبات الشعبية ذات الأهداف المحددة، مثل هبة المقدسيين في صيف عام 2017، ضد قرار الاحتلال تركيب بوابات إلكترونية على مداخل المسجد الأقصى في البلدة القديمة في مدينة القدس.
أيضاً، استمرت مسيرات العودة التي انطلقت على أطراف قطاع غزة في مارس/آذار 2018، حتى ديسمبر/كانون الأول 2019، وحصلت على صدى إعلامي وتضامن دولي كبيرين. وهنا نلاحظ أن القاسم المشترك بين كل الهبات الشعبية الناجحة أنها حصلت في مناطلق لا تتواجد فيها السلطة الفلسطينية، كما انطلقت لهدف مرتبط بالمنطقة التي انطلقت منها. الوحدة التي أظهرها الفلسطينيون في هبتهم الشعبية على امتداد فلسطين التاريخية في مايو/أيّار 2021، والتضامن الشعبي العالمي الواسع والسريع معهم، أكدت وحدة الفلسطينيين بأنها قادرة على تغيير ميزان القوة مع الاحتلال لصالحها، وذلك لقدرتها على تحييد قوته العسكرية. مع ذلك، يجب الاستعداد لمقاومة شعبية طويلة المدى، وعدم التراجع عن شعبيتها مهما بلغت الخسائر البشرية والمادية.
صدر كتاب عن جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأميركية عام 2011 بعنوان "لماذا تعمل/تنجح المقاومة المدنية" للكاتبتان Erica Chenoweth وMaria J. Stephan، شمل دراسة كل أو معظم حركات المقاومة المدنية في القرن المنصرم ومطلع القرن الحالي (1900-2006)، يستنتج منها أن المقاومة المدنية/الشعبية نجحت بتحقيق هدفها أو أهدافها أكثر مرتين مقارنة بالمقاومة العنيفة أو المسلحة. والأهم من ذلك أن فرص تحقيق الاستقرار والديمقراطية بعد نجاح حركات المقاومة المدنية أعلى بكثير من فرص المقاومة القائمة على العنف.
من كل ذلك، إن كانت السلطة والفصائل جادين في تبني المقاومة الشعبية من أجل تغيير الوضع الراهن، عليهم القيام بكل الخطوات والشروط التي تضمن انطلاق مقاومة شعبية واسعة وقابلة للاستمرار، وأهمها:
(1) استعادة ثقة الجماهير: إن ثقة الجماهير شبه المنعدمة في القيادة تتطلب من القيادة اتخاذ قرارات جريئة وملموسة، تظهر جدية واستعداد القيادة لتحمل أعباء المقاومة مع الشعب، بل في المقدمة منه.
هنا لا بد من التذكير بنتائج استطلاع المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية رقم 67، التي كشفت عن تأييد 63% المقاومة الشعبية، أما عن سبب ضعف المشاركة فيها، قالت النسبة الأكبر (39%) إن ذلك يعود إلى ضعف ثقة المواطنين بالقيادة والفصائل، واعتبرت نسبة من 27% السبب عدم فعالية المقاومة الشعبية، فيما اعتقد 25% أن مسؤولية مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة تقع على عاتق السلطة الفلسطينية.
(2) إعادة بناء وتفعيل مؤسسات منظمة التحرير، كي تكون ممثلة لكل الفصائل والفلسطينيين في كل أماكن تواجدهم وفي مقدمتهم فلسطينيو 48. وهنا لا بد من الإشارة عند سؤال الرأي العام الفلسطيني في شهر يونيو/حزيران الماضي عن الأجدر بتمثيل وقيادة الشعب الفلسطيني، اعتبر 33% حركة حماس هي الأجدر، مقابل 23% ترى حركة فتح هي الأجدر، أما النسبة الأكبر (38%) قالت لا أحد منهما، حسب استطلاع المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية رقم 84.
(3) إعطاء صلاحيات واسعة للبلديات والمجالس المحلية، وتشكيل لجان شعبية من الفصائل وكافة شرائح المجتمع، في أحياء المدن والقرى، من أجل قيادة العمل الشعبي المقاوم. مساندة البلديات في حفظ الأمن الداخلي، وتنسيق التضامن الشعبي في علاج آثار المقاومة الشعبية على المواطنين.
(4) تهميش دور مؤسسات السلطة تدريجياً لصالح مؤسسات المنظمة والفصائل والمجتمع المدني استعداداً لحلها، يرى 59% من الفلسطينيين أن استمرار وجودها يشكل عبئاً عليهم وعلى قضيتهم، أو حل أجهزتها الأمنية؛ على الأقل؛ وجمع أسلحتها وتسليمها لطرف ثالث مثل الأمم المتحدة، يمثل ذلك رسالة لكل العالم بجدية تبني المقاومة الشعبية، كما قد يفشل محاولة إسرائيل تكرار سيناريو الانتفاضة الثانية. كذلك يساهم في استقطاب المزيد من الإسرائيليين اليهود، كي يشاركوا الفلسطينيين نضالهم ضد الاحتلال ونظامه العنصري. أيضاً يرفع تكلفة إسرائيل الأمنية، عبر إجبارها على نشر المزيد من جنودها وآلياتها، خاصة في الضفة الغربية، ما يزيد أيضاً من نقاط المقاومة الشعبية، وبالتالي يضمن مشاركة شعبية أوسع كماً ومساحةً.
هنا لا بد من التذكير باضطرار الاحتلال خلال هبة مايو/أيّار 2021 إلى سحب الكثير من جنوده وآلياته من الضفة الغربية إلى مناطق الـ 48، من أجل مواجهة الهبة الشعبية هناك، التي فاجأت الاحتلال، بعض القرى والمدن التي شملتها الهبة لم يحدث فيها هبة أو أحداث مشابهة منذ قيام إسرائيل عام 1948.
(5) قيادة وإدارة العمل الشعبي المقاوم من قبل منظمة التحرير، لكل الفلسطينيين وفي مقدمتهم فلسطينيو 48. مثل وضع برامج يومية قائمة على المسيرات المحلية في المدن والقرى، تتوج بمسيرة مركزية أسبوعية في كل محافظة، يتم خلالها إغلاق الطرق التي يستخدمها جيش الاحتلال ومستوطنوه. كذلك إطلاق حملة مقاطعة البضائع الإسرائيلية والعصيان المدني.
(6) دعوة جمعية الأمم المتحدة العامة لإعادة تفعيل قرارها رقم 3379، الذي اعتبر الصهيونية (إسرائيل) مساوية للعنصرية، فقد أصبحت إسرائيل اليوم أكثر عنصرية من وقت تبني القرار المذكور عام 1975، خاصة بعد إقرارها قانون القومية العنصري عام 2018. وذلك أيضاً بالتوازي مع دعم حركة مقاطعة إسرائيل وفرض العقوبات وسحب الاستثمارات (BDS).