أربع سنوات لا تسعف المُسن الفلسطيني نعيم الشرافي المقيم في الدوحة، لإعطاء مشهد تفصيلي كامل لرحلة لجوء عائلته من بلدة هربيا قضاء مدينة غزة، بعد هجوم عصابات الهاغاناه الصهيونية على البلدة.
لكن رغم مرور 75 عاما على النكبة التي حلت به وبالشعب الفلسطيني، إلا أنه ما زال يحمل في ذاكرته شيئا من تلك المشاهد المأساوية. أكثر تلك اللحظات التي لا يمكن أن تمحى من ذاكرة الشرافي مواليد السابع من أغسطس/آب عام 1944، حين حمله والده بهلع وحمل أيضا شقيقته "هنية" - توفيت قبل 5 أعوام- وبدأ يركض مع باقي أفراد العائلة والبلدة باتجاه شاطئ البحر، لكي ينجو من القنابل التي كانت تسقط بشكل عشوائي في كل مكان.
يقول المُسن الذي كان يعيش مع عائلته المكوّنة من سبعة أفراد (أربع شقيقات وثلاثة أخوة) في منزل واسع تحيطه أرض زراعية واسعة يملكها والده: "وأنا متمسك بصدر والدي الذي كان يركض ما زلت أتذكر تسارع دقات قلبه، وأمي التي كانت تبكي وتركض وهي تمسك بكل أيدي أخوتي الآخرين.. حين وصلنا إلى شاطئ البحر كانت الشمس قد اختبأت خلف البحر، دخل الليل، لا أتذكر شيئا عن تلك الليلة، لكن في الصباح وجدت نفسي مع عائلتي وسكان البلدة الذين تجاوز عددهم 200 شخصا، في أحراش تقع على حدود غزة".
المشهد الثالث الذي يتذكره العجوز عن الأيام الأولى من الهجرة، هو استقبال سكان شمال غزة لهم، وتوزيعهم الماء على الهاربين من نيران الهجوم الصهيوني.
كان والد الشرافي يعمل في مهنة الزراعة وهي المهنة الرئيسية للفلسطيني في ذاك الوقت. وورث والده أرضه الزراعية عن أجداده الذين عرفوا بزراعة البصل والثوم.
يروي المسُن الحكاية بينما كان يقلب شاشة هاتفه الذكي، على الأخبار والمقاطع المصورة للعدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، والذي راح ضحيته 35 شهيدا ومئات الجرحى، ودُمر خلاله أكثر من 70 منزلا.
"حين ينتهي العدوان الأخير بقصف المقاومة الفلسطينية لتل أبيب ويصل الطرفان لهدوء مقابل هدوء وتكون الكلمة الأخيرة لغزة، ربما يكون هذا العنوان المناسب لذكرى النكبة الفلسطينية الـ75، وهو أحد الأدلة على أن العودة إلى أراضينا المحتلة قد اقتربت"، يقول الشرافي.
وبلغ عدد الشهداء الفلسطينيين والعرب منذ النكبة وحتى اليوم، داخل وخارج فلسطين، نحو مائة ألف شهيد، فيما بلغ عدد الشهداء منذ بداية انتفاضة الأقصى عام 2000 وحتى نهاية العام الماضي حوالي 11.540 شهيداً.
وكان عام 2014 أكثر الأعوام دموية، حيث سقط 2.240 شهيداً، منهم 2.181 استشهدوا في قطاع غزة. فيما بلغ عدد الأسرى في سجون الاحتلال حتى نهاية مارس/آذار 2022 نحو 4.700 أسير، منهم 150 أسيراً من الأطفال، بالإضافة إلى 29 أسيرة.
حين استجمعت عائلة الشرافي قواها من الماء الذي شربته، مضت في طريقها وقطعت مع مئات المهجرين عشرات الكيلومترات، لتستقر أخيرا في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة. بنى الوالد بيتا صغيرا من الطين، ليبدأ فصلا جديدا من حكاية التهجير.
وفي أواخر الخمسينيات حين بدأت وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين في إنشاء المخيمات الثمانية لقطاع غزة، اختار والده أن يسكن مؤقتا في مخيم جباليا شمال غزة، بعد ما أمضى قرابة عقد في بيت الطين في دير البلح.
يكمل الشرافي: "لا أنسى تلك اللحظات الصعبة، كنت فتى راشدا حين عشنا في مخيم جباليا، كنا نتقاسم رغيف الخبز أنا وأخوتي الستة.. اللجوء ليس طردنا من بلدتنا، بل ما عاشه الفلسطينيون في السنوات الأولى من جوع وأمراض نفسية وجسدية أودت بحياة العشرات منهم وتحديدا من الأطفال الذين لم يصمدوا أمام الجوع".
ومع احتلال كامل الأراضي الفلسطينية بما يشمل قطاع غزة والضفة الغربية، عام 1967، بدأ الفصل الثاني من حكاية اللجوء.
كان وقتها الشرافي شابا بالغا، حينها قرر الهجرة بصحبة صديق له إلى دولة قطر، وبذلك تمزقت العائلة، الوالد والوالدة بقيا في منزلهما في المخيم، فيما تفرق الأبناء، الكبير هاجر إلى لبنان، وآخر إلى الكويت.
وبحسب الإحصاء المركزي الفلسطيني فقد هاجر أكثر من 200 ألف فلسطيني بعد حرب حزيران 1967، إلى الدول المجاورة ودول الخليج، وبهذا تعرض الفلسطينيون إلى التهجير على دفعتين خلال 19عاما.
استقر الشرافي في الدوحة، تزوج وعمل في سلطة الموانئ القطرية؛ أنجب المُسن 6 أبناء، جميعهم يحملون شهادات علمية، يقول: "سميت الأول إيهاب نسبة لشاب كان مقاتلا مشهورا من بلدتي هربيا المحتلة". ويضيف: "الشيء الوحيد الذي أقدمه لفلسطين هو أن ابنائي جميعهم طلبة علم، فالاحتلال الإسرائيلي ليس عسكريا فحسب، إنما احتلال فكري لذلك يجب أن يُقابل بالوعي".
بعد سبعة عقود ونصف العقد، يرى المُسن أن فكرة تحرير فلسطين ودحر الاحتلال، أصبحت أمرا واقعيا وليس من باب التمني، فالمتتبع لحالة إسرائيل وما تشهده بشكل متزامن من زعزعة حقيقية في أمنها الداخلي والخارجي بالإضافة لقدرة الفلسطيني على المواجهة والتحدي على الجبهات والأصعد كافة، قد تكون أدلة منطقية على أن ما تبقى هو مسألة وقت.
يختم المُسن قصته: "لدي شعور بأنني سأشهد أيام التحرير، كنت أتمنى من الغرفة المشتركة للفصائل في غزة، بدلا من أن تسمي الجولة الأخيرة ثأر الأحرار، أن تسميها ثأر الأحرار والأجداد".