التطبيع الثقافي بعد 75 عاماً على النكبة: طريق مسدود أمام الصهاينة

14 مايو 2023
من مسيرة في لندن ضد العدوان على غزة، تموز/ يوليو 2014 (Getty)
+ الخط -

في الرابع من أيار/ مايو 1948، خرج من يبنا - بلدتي الأصلية - العدد الأكبر من سكّانها، ومعهم سكّان القرى المجاورة التي لجأت إلينا بعد سلسلة من المجازر، قادتها عصابات الأرغون والهاغاناه في وسط فلسطين وشمالها، والتي بثّت الرعب في قلوب المدنيّين. لذا، غادروا جنوباً مع الجيش المصري، فراراً بمحاذاة سكّة الحديد، وانتهى بهم الحال في مخيّم البريج وسط غزّة ومخيّم يبنا في جنوبها، على أمل أن يعودوا بعد أيام مع الجيوش العربية المنتصرة المظفَّرة، التي لم تظفر بشيء، لا في نكبة 1948 ولا في نكسة 1967، بل أورثتنا، نحن أبناء فلسطين، شتاتاً، ولجوءاً، وخياماً، وبطاقات تموينية، وقصصاً عن فلسطين يرويها الأجداد للأحفاد، وهم يتحسّسون مفاتيح بيوتهم.

لم تخطر في بال أيّ لاجئ فلسطيني في مخيّمات الشتات أو الداخل فكرة الاعتراف بهذا الكيان، فضلاً عن التعايش معه، ولم يكن الكيان (في أفكار المؤسّسين الصهاينة الأوائل)، حتى بداية السبعينيات من القرن الماضي، أصلاً متقبّلاً لفكرة التعايش السلمي مع الجوار، بل كان في حالة من العطش لمزيد من الأراضي والتوسّع لتحقيق حلم دولةٍ من النيل إلى الفرات، حتى أتت اتفاقية كامب ديفيد لتُقدّم لنا مصطلحاً جديداً: تطبيع العلاقات.

والتطبيع في علم السياسة هو عودة العلاقات الدبلوماسية أو السياسية أو التجارية بين بلدين إلى الحالة الطبيعية بعد حالة من القطيعة والحرب. والتطبيع في علم الاجتماع هو أن يرى المجتمع أفعالاً كان يعتبرها شاذّة كأفعال طبيعية وفي السياق المقبول. أمّا التطبيع مع الكيان، فهو التعامُل مع كيان بلا أدنى شرعية، مبنيّ على الاستعمار الإحلالي، مارق ومعادٍ لمحيطه؛ باعتباره شرعياً، ووجودُه طبيعيٌّ، وأن نعترف بهذا الوجود من خلال التعامل الرسمي أو غير الرسمي.

لا يزال حجم التطبيع وتأثيره ضئيلين جدّاً

ولنكُن أكثر تحديداً ونقُل: أمّا التطبيع الثقافي مع الكيان، فهو هو أن نتشارك المنصّات وجاهياً أو رقمياً بأيّ فعل ثقافي أو فنّي مع "مواطني" الكيان، أو المتصهينين، أو منتجاتهم الثقافية، أو الفنّية، في إطار عام من الرضا، بدعوى أنّ وجودهم أصبح واقعاً طبيعياً، تماماً كما يحدث اليوم على منصّات تدّعي نصرة الشعب الفلسطيني وحقوقه، وهي في الأصل منصّات يتشارك فيها العرب مع الصهاينة النشر والحديث والترويج لحلول موتورة تأكل حقّ الشعب الفلسطيني وتمنح الصهاينة حقّاً في الوجود على هذه الأرض. ومن أشهر هذه المنصّات التي انخدع بها الكثير منصّة "970+" التي يرأسها معارض سعودي، في حين أنها تضمّ تحت مظلّتها صهاينة يؤمنون بحقّ الكيان في الوجود، ويؤمنون بحقوق ما للفلسطينيّين، ليس من بينها بالطبع حقه بتحرير أرضه.

لقد بدأت المقاطعة الثقافية والفنية، حينما عزف أهل فلسطين في النص الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي، عن التعامل مع المعماريين والفنانين من الباوهاوس، الذين وصلوا من ألمانيا وأوروبا، بالرغم من أنَّ "الممثل السامي" المستعمر قد شقّ الشوارع في يافا في مجزرة تاريخية ومعمارية وإرثية كبيرة، لتدمير جزء من بنية المدينة التاريخية لشق شارع فيصل الذي منح هؤلاء المعماريين فرصة لتنفيذ أفكارهم المعمارية قبل أن تتبلور في شكل أكبر في المدينة البيضاء التي شيدت على أنقاض قرية الشيخ مؤنس، وفي مضمار آخر تشكلت حالة وعي مشابهة حينما قاطعت دور النشر والطباعة الفلسطينية طباعة الكتب والمنشورات الصهيونية قبل النكبة، وقد كان من غير المقبول فلسطينياً حضور الصهاينة للأمسيات الشعرية أو الفنية، وهناك حوادث طرد لا حصر لها في هذا المضمار.

إنّ أخطر ما ذهبت إليه بعض جموع محاربي التطبيع أن صنّفوا الصهاينة بين يمين ويسار، وحابوا اليساريّين ومنحوا من ارتمى في أحضانهم صكوك غفران من التطبيع الثقافي والفنّي، وهناك عشرات الصكوك التي وُزّعت على صانعي السينما العرب والفلسطينيّين ممّن صافحوا ما يوصف بأنه يسار (غير صهيوني)، وهي نكتة مدعاة للبكاء، حيث نجح العدو الصهيوني في أن ينتزع اعترافاً من بعض الفلسطينيّين بحقّ هؤلاء في الوجود في أرضهم كمستعمرين.

وإنّ أفضل الأمثلة في هذا السياق هو صانع الأفلام الفلسطيني النابلسي أحمد البظ الذي شارك في "مهرجان كان" العام الماضي باسم فلسطين، في حين أنّه يعمل في مدينة القدس بتصريح عمل من الكيان مديراً لمنظّمة تُدعى ActiveStills Collection وتدّعي أنها "يسارية غير صهيونية"، وتُصنّف نفسها معاديةً لحصار غزّة والاحتلال الإسرائيلي، في نكران تامّ لقضايا اللاجئين الفلسطينيّين وحقوقهم، وحق تقرير المصير، بالإضافة إلى المسألة المبدئية الأساسية: حقّ هذا الكيان في الوجود.

أمّا في الكتابة، فتدعو صحيفة "هأرتس" (ومعنى الكلمة هو الوطن بالعبرية) أعمدة لكتّاب عرب وفلسطينيين تصفهم بالبراغماتيين لينشروا على صفحاتها، كما حدث سابقاً مع الأكاديمي الفلسطيني عامر زاهر، الذي استغل الظهور على هذه الجريدة، في مقال تهريجي، خلال حملة الترويج الانتخابية للمرشح الرئاسي الأميركي السابق بيرني ساندر.

بعد مرور 75 عاماً على نكبة الفلسطينيّين، وبرغم الترويج الإعلامي الذي يحصل عليه المطبّعون والمتصهينون العرب والعجم، فإنّ حجم هذا التطبيع اليوم لا يزال متواضعاً جدّاً. فعلى الرغم من كلّ هذه الميزانيات التي تُنفَق من أجل تجنيد وجوه عربية شابّة لتدافع عن حقّ الكيان في الوجود، إلّا أنّ حجم التطبيع الحقيقي وتأثيره لا يزالان ضئيلين، بل هو من دون تأثير يُذكر، فكلّما دقّ أحدُهم جدران الخزان في حملات مواجهة التطبيع على وسائل التواصل الاجتماعي، تداعت شعوب الأمّة مُوحَّدةً في رفض التطبيع مع الكيان أو الاعتراف بوجوده، وبدأت سلسلة انسحابات تشبه تأثير الدومينو؛ حيث لا يريد أحد أن يظهر بمظهر المطبّع، إذ سيكون لذلك ردّ فعل سلبي من الجمهور ضد المنتجات الثقافية والفنّية للمطبّعين، تماماً كما حدث حين انسحب علاء أبو دياب من عرض كوميدي في "معهد العالم العربي" حتى لا يضع رأسه على مقصلة التطبيع.

وحملات #امسك_مطبّع الشعبية ليست عنّا ببعيد؛ حيث انتصر شباب وشابات فلسطينيّون في نشر الوعي والتجذير من نصير ياسين ومسابقته الشهيرة التي اشترك فيها ما يقارب 11 ألف مشترك عربي انسحب جلُّهم وبقي معه فقط ما يناهز الأربعين مشاركاً في أحد أفضل المَشاهد التي تُثبت، بما لا يدع مجالاً للشك، أنّ الطريق مسدود أمام الصهاينة والمطبّعين والمتصهينين لتزييف وعي الشعوب العربية أو تخديرها بكذبة التعايش مع المشروع الصهيوني.


* صانع أفلام فلسطيني مقيم في بلجيكا

المساهمون