هل تتجه سياسة لي الذراع بين قطبي النزاع في تونس نحو خط اللاعودة؟ سؤال بدأ يسيطر على الأذهان خلال الأيام الأخيرة. فالرئيس قيس سعيّد وحزامه السياسي يرفضان فتح نافذة أمام رئيس الحكومة هشام المشيشي، الذي يطالب بتمكينه من قائمة الوزراء الذين يتهمهم سعيّد بالفساد وتضارب المصالح (علماً أن لا ملف قضائياً بحق هؤلاء)، وذلك بهدف الدفع به نحو الانسحاب والاستقالة، أو القبول بأن يصبح مجرد وزير أول (بمثابة رئيس حكومة في نظام رئاسي) يصمت وينفذ. ورغم أن المعركة تبدو في ظاهرها قائمة بين رأسي السلطة التنفيذية، إلا أن تحليلاً أعمق للمشهد، يكشف أنه يكمن وراء ذلك منافسة أكبر وأشرس وأهم بين رجلين سيستمران لفترة أطول من عمر الحكومة الحالية. لقد فشلت، حتى الآن، كل محاولات بناء الثقة بين سعيّد ورئيس البرلمان راشد الغنوشي، رغم مرور نحو سنة ونصف السنة على الانتخابات الرئاسية الأخيرة. لا يزال الأول مُصراً على اقتناعه السابق، الذي لخصه بالقول إن "الوحي لم يتنزل بمون بليزير"، في إشارة إلى الحي الذي يوجد به مقر حركة "النهضة"، حتى أنه يعتبر "النهضة" بمثابة الخطر والعائق الذي من شأنه أن يمنعه من القيام بدوره كرئيس يمارس سلطة واسعة، ولا يجعله يتحكم بشكل مريح في مفاصل النظام السياسي، مع علمه بأن تونس نظامها برلماني لا رئاسي مثلما يرغب الرئيس.
سعيّد يريد أن يتحكم بمفاصل النظام السياسي في تونس
في المقابل، ينظر الغنوشي بعين الريبة إلى ساكن قرطاج. لم يطمئن إليه منذ البداية. لم تعجبه "نزعاته" التي ظهرت منذ اللحظة الأولى. رأى فيه شخصاً معانداً، وهو لا يحب المعاندين. كما اعتبره شخصاً غامضاً، ما جعله عاجزاً عن أن يبني معه اتفاقاً، ولو وقتياً ومرحلياً. وهو ما جعل الغنوشي متوجساً من سعيّد، إلى درجة الاعتقاد بأنه يرغب بأن ينفرد بالقرار، وأن يكون وحده الممسك بدفة الحكم، ويرفض أن يشاركه أحد في قيادة البلاد، بحجة أن تونس بها رئيس واحد، وأنه المحبوب من الشعب.
اليوم لم يعد سعيّد وحده في هذا التنازع على السلطة، وإنما انحازت إليه كتلة سياسية (حركة الشعب وحزب التيار الديمقراطي) متجانسة في هدفها الأساسي، وفي مصالحها الظرفية. القاسم المشترك بين مكوناتها هو العداء لـ"النهضة". لقد أصبح التصدي للحركة أداة مهمة لتغذية الاستقطاب الثنائي، وتحشيد المناصرين وتأليب الرأي العام، ووضع مؤسسات الدولة والحكم في حالة تنافر وصدام. لهذا لم يعد الصراع قائماً فقط بين شخصين يختلفان في المزاج والأفكار والأحلام، وإنما أصبح اليوم صراعاً حاداً بين قطبين يتجهان بسرعة نحو الصدام المباشر.
ما صدر عن المكتب التنفيذي لحركة "النهضة"، خلال الأيام القليلة الماضية، قد يتحول إلى ورطة سياسية مُكلفة للبلد وللجميع. إذ أعلن مكتب الحركة، في بيان، أنه "سيتشاور مع كلّ الأحزاب والقوى الوطنية لتحديد يوم مُعيّن للنزول إلى الشارع، في مسيرة جماعية مساندة لحكومة هشام المشيشي، وحفاظاً على التجربة الديمقراطية". التظاهر ممارسة ديمقراطية لا غبار عليها، لكن في ظروف معينة تتسم بالتنمر، وتسودها أجواء مشحونة بخطاب الكراهية والخوف المتبادل، قد يصبح قرار من هذا القبيل بمثابة صب الزيت على النار. وبدل أن يكون ذلك خطوة إيجابية في اتجاه حماية التوازن السياسي، يمكن أن يتحول إلى منعرج خطير، من شأنه أن يفتح الباب أمام نقل الصراع السياسي من المؤسسات إلى التطاحن المباشر بين المواطنين.
فشلت، حتى الآن، كل محاولات بناء الثقة بين سعيّد والغنوشي
لهذا السبب تعالت أصوات عاقلة، مثل ما ورد على لسان مرشح حركة "النهضة" السابق للانتخابات الرئاسية، النائب السابق لرئيسها، عبد الفتاح مورو، الذي لم يتردد في التحذير من الوقوع في هذا المحظور، داعياً إلى التريث، وتجنب ردود الفعل غير المحسوبة. وما أقدمت عليه رئيسة "الحزب الدستوري الحر" عبير موسي ليس سوى مؤشر عن سيناريو محتمل يمكن أن يدخل البلاد في مأزق حاد. فقد أعلنت، من جهتها، الدعوة إلى ما سمته "التعبئة العامة" للتصدي إلى الإسلاميين، ومنع ما ادعت أنه محاولة "توظيف أجهزة الدولة من قبل المشيشي للبقاء في السلطة".
في مثل هذه الأجواء يصبح الشارع هو الوسيلة والحكم. ورغم أن هذا السيناريو، قد يتم التخلي عنه في اللحظات الأخيرة، إلا أن الحكمة تقتضي التعامل مع الحالة الراهنة بذكاء شديد، وبنظرة مستقبلية، في ضوء ما تواجهه التجربة الديمقراطية التونسية من مخاطر.