يكثّف الروس حراكهم في الآونة الأخيرة في محافظة السويداء، في الجنوب السوري، وسط محاولات لإقناع الأهالي بتسوية وضع نحو 40 ألف شاب من السويداء، يرفضون الالتحاق بالخدمة العسكرية، خصوصاً أن القسم الأكبر منهم منضوٍ في حركة "رجال الكرامة". مع العلم أن روسيا صاغت حضوراً رمزياً في المحافظة، بتسييرها بضع آليات عسكرية في المدينة، بعد اندلاع تظاهرات يونيو/حزيران الماضي التي طالبت بإسقاط النظام، لكن ذلك لم يمنعها من الدخول على خط تقديم المقترحات لإيجاد تسوية للأزمة.
في السياق، أنهى وفد روسي، أول من أمس، زيارته إلى محافظة السويداء من دون التوصل إلى اتفاق محدد مع وجهاء المدينة بشأن المتخلفين عن الخدمة العسكرية في جيش النظام السوري. وذكرت مصادر محلية لـ"العربي الجديد" أن الوفد التقى يوم الخميس الماضي ببعض مشايخ الهيئات الدينية الدرزية بغية الاستماع إلى اقتراحاتهم ومطالبهم، وإبلاغهم أن روسيا تعمل على إعداد تسوية لأبناء المحافظة. ووفقاً للمصادر نفسها فإن الوفد زار منزل الشيخ حكمت الهجري في بلدة قنوات، ومنزل الشيخ يوسف جربوع، فيما اعتذر الشيخ حمود الحناوي، المقيم في قرية سهوة البلاطة جنوب المحافظة، عن استقبالهم نتيجة ظرف صحي.
وأوضحت المصادر أن الوفد الروسي غادر السويداء من دون أن يعقد اجتماعاً في فرع أمن الدولة كما كان مقرراً، على أن يعود للمحافظة خلال الأيام المقبلة لمواصلة النقاش حول بنود التسوية المطروحة.
وحول ما تم نقاشه مع الشيخين الهجري وجربوع، أوضحت المصادر أنّ الوفد الروسي اكتفى باطلاعهما على ما دار في اجتماع مضافة "دار عرى" في بلدة عرى الذي جرى قبل أيام، وذلك بعد الامتعاض الذي ساد من استبعاد المشايخ من ذلك الاجتماع. وأكدت المصادر أن المحرك الأساسي لمبادرة الوفد الروسي هو فرع أمن الدولة في محافظة السويداء بقيادة العميد سالم الحوش. ولفتت إلى أن هذا الاستفراد من قبل الفرع في ترتيب عملية التسوية، يثير امتعاضاً مجتمعياً، وحتى من قبل جهات مرتبطة بالنظام السوري مثل فرع حزب البعث، متوقعة أن ما يجري سيقود المبادرة الروسية إلى الفشل.
من جهتها، ذكرت شبكة "السويداء 24" المحلية أن الوفد الروسي كرر خلال اجتماعه مع المشايخ الطرح نفسه الذي قدمه في "دار عرى" قبل أيام، حيث قال إن روسيا تعمل على إنجاز تسوية للفارين والمتخلفين عن الخدمة والمطلوبين بقضايا أمنية، على غرار التسويات التي أشرفت عليها في درعا. وأوضحت أن الوفد ادعى أنه يقوم بالزيارات لسماع مطالب ووجهات نظر زعماء الطائفة الدرزية ومشايخها، حتى ينقلها إلى قيادته، وأن روسيا تسعى لحفظ الاستقرار في المنطقة بالتنسيق مع القيادة السورية.
وكان الوفد الروسي اجتمع في "دار عرى" بالأمير لؤي الأطرش، يوم الاثنين الماضي، الذي اتسع دوره بعد أن ترأس وفداً من فعاليات السويداء، للقاء وجهاء من محافظة درعا المجاورة، مطلع الشهر الحالي، لإنهاء التوتر على خلفية أحداث القريا ـ بصرى الشام. وهي الأحداث التي وقعت بين "اللواء الثامن" المدعوم من روسيا وبين عناصر من مليشيا "الدفاع الوطني" في السويداء، والتي تورطت فيها "رجال الكرامة"، الفصيل المسلح الأكبر في السويداء، وأدت إلى مقتل 15 فرداً من عناصرها.
لم يختر الروس التواصل مع حركة "رجال الكرامة" في السويداء
وأفاد مصدر كان حاضراً اللقاء بأنه "تلقى دعوة من الأمير لؤي الأطرش على الغداء، على شرف قائد القوات الروسية في المنطقة الجنوبية، فاعتقدت أن الأمر لا يتعدى عن لقاء ودي، إلا أن الوفد الروسي ما إن جلسنا حتى طرح إجراء تسوية للشباب المستنكفين عن الخدمة العسكرية والفارين من القوات النظامية".
وأضاف أن "الضابط الروسي لم يطرح الكثير من التفاصيل حول التسوية، في حين قال إنهم سيقومون بتشكيل لجنة خاصة بالأمر، يكون قاضي الفرد العسكري (المختص بالنظر في المخالفات والجنح التي تكون من اختصاص القضاء العسكري ويحق له التحقيق بصفته قاضي نيابة وقاضي حكم) بينهم، وأن العمل سيتم بالتنسيق ما بينهم (أي الروس) وبين الأطرش، على أن تعلن تفاصيل هذه التسوية خلال الأيام القليلة المقبلة". في المقابل، أفادت شبكة "السويداء 24" يومها أن الجنرال الروسي طرح مثالاً على ما حمله، وهي التسويات التي تشرف عليها القوات الروسية في محافظة درعا. وأشارت الشبكة إلى أن رئيس فرع أمن الدولة في السويداء العميد سالم الحوش، ومسؤول فرع الأمن العسكري بالسويداء العميد أيمن وشخصيات أمنية أخرى، بالإضافة إلى بعض الوجهاء ورجال الدين، شاركوا في الاجتماع.
واللافت أن الروس لم يختاروا لطرح ما في جعبتهم الطرف المعني مباشرة وأكثر من غيره بملف الشبان الرافضين الالتحاق بالخدمة العسكرية، أي حركة "رجال الكرامة"، على الرغم من تراجع دورها بعد اغتيال قائدها وحيد البلعوس في عام 2015. مع العلم أن البلعوس كان قد أخذ على عاتقه مهمة منع النظام من سوق الشبان إلى الخدمة العسكرية بالقوة. أما أبو يحيى حسن الحجار، الذي خلف البلعوس بعد اغتياله، فقال بُعيد أحداث القريا، إن دخوله الاشتباك إلى جانب مليشيا "الدفاع الوطني"، هو "من أجل محاربة أعداء وطن حاربوا الجيش العربي السوري وقتلوا من شبابنا، ولا يهمنا مع من أقاموا تسوية"، في إشارة إلى روسيا.
ويقول مروان حسن (34 عاماً)، وهو فار من القوات النظامية مع العلم أنه أنهى خدمته الإلزامية ونحو 5 سنوات احتفاظ (احتياط)، في حديث مع "العربي الجديد"، إن المشكلة هي في عدم فهم الروس والنظام لماذا نحن تركنا الخدمة؟ ولا أعتقد أنهم قادرون على الفهم إنْ حاولنا أن نسمعهم صوتنا، لأنهم يقيسون الأمر بحسب مصالحهم، وعندما نتحدث عن أننا غير مقتنعين بكل هذه الحرب والهدف منها، يسمعوننا شعارات الوطنية ويحدثوننا عن المؤامرة الكونية والإرهاب. وأضاف "في المقابل لا يتحدثون عن الفساد في الجيش وسوء واقع الخدمة العسكرية، وابتزاز الضباط للعساكر في أكلهم وإجازاتهم، وعن رواتبهم التي لا تكفيهم ثمن سجائر، فتهدر عمرهم دون أي جدوى".
من جهته، يقول فادي (26 عاماً)، والذي طلب عدم ذكر اسم عائلته لأسباب أمنية، في حديث مع "العربي الجديد" إنه "في ظل الواقع الحالي في سورية من حرب داخلية، أنا وكثير من أصدقائي نرفض أي تسوية لا تنص على تسريح جميع الشباب، وإنهاء طلبات الاحتياط بشكل تام، وأن يؤجل بحث وضع الشباب المطلوبين للخدمة الإلزامية إلى أن يتم إنهاء الأزمة السورية، وتشكيل جيش وطني محترف يعتمد على المتطوعين، ووضع قانون جديد لخدمة العلم، حيث تكون الخدمة العسكرية عبارة عن بضعة أشهر وبشكل دورة عسكرية فقط، الهدف منها إكساب الشباب معرفة عسكرية، وقدرة على استخدام أحد أنواع الأسلحة في حال كان هناك حاجة إلى نفير عام إذا ما تم الاعتداء على البلد من دولة أخرى".
ورأى أن "التسوية الجديدة التي تم طرحها من الروس والأمن، هي محاولة فاشلة جديدة، لأنها لا تعالج أصل المشكلة"، معتبراً أن "الهدف منها الضغط على أهالي السويداء، وإشغالهم بقضية تمسّ كل عائلة، حيث يقل وجود عائلة ليس من بين أفرادها شاب مستنكف عن الخدمة العسكرية، ولفت نظرهم عن سوء الواقع المعيشي المتدهور بشكل متواتر، إضافة إلى رعاية الأمن لعصابات الخطف والقتل، الأمر الذي بدأ يثير استياء الأهالي بشكل كبير، وذلك أكثر من حل المشكلة".
من جهته، يرى السفير السوري السابق في البرازيل، صقر الملحم، وهو من أبناء محافظة السويداء ومقيم في ألمانيا، أن اختيار الروس للأمير لؤي الأطرش لطرح تسويتهم، يعود إلى أنه بات للأمير الامتداد الشعبي والاجتماعي الكبير، بسبب غياب أي قيادة علمانية أو دينية للجبل. ويشير في حديثٍ لـ"العربي الجديد" إلى أن الروس يحاولون اختراق الجبل عبر مجموعة من الوجوه البارزة في المحافظة مثل لؤي الأطرش، بينما لم يتمكنواً مثلاً من إقناع أبو عمر عاطف، وهو من الشخصيات الاجتماعية في السويداء، بهذه الخطوة نظراً لتجارب سابقة مع الروس لم يلتزموا فيها بوعودهم.
وبحسب الملحم، فإن الروس لن ينجحوا في التوصل إلى تسوية بخصوص ملف الشبان الذين يرفضون الخدمة في قوات النظام. ويعود السبب إلى أنهم يتّبعون تكتيك النظام، الذي يفهمه مجتمع السويداء، عبر إفقار الناس في المحافظة وإحراق محاصيلهم الزراعية، والسماح بانتشار الجرائم وتجارة المخدرات بالتعاون مع مجرمي إيران. ويرى أن عدداً قليلاً من الشبان ربما يقتنعون بوعود الروس.
بدوره، يتفق المحلل السياسي حافظ قرقوط، وهو من أبناء محافظة السويداء، مع رأي الملحم بخصوص استجابة بضعة شبان للتسوية الروسية. ويقول في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إن وجود رؤساء الأفرع الأمنية برفقة الروس يوضح مآل تلك التسوية، إذ لا يمكن لسوري عاقل أن يضع رأسه في فكي وحش مفترس. ويضيف أن "تقديم الأطرش كأحد رعاة الصلح أخيراً بعد أحداث القريا ـ بصرى الشام، كان تمهيداً لما يطرحه الروس الآن، لكن الروس لم يفهموا ولن يفهموا أن أبناء السويداء لديهم آلية تفكير مغايرة عن تفكيرهم الأمني، ولن يقعوا بفخ غباء الروس السياسي برعايتهم لجرائم حرب". ويعتبر أن الروس "عاجزون عن تغطية المشروع مادياً، مع امتعاض غالبية أبناء السويداء من استغلالهم للحاجة المادية والأمنية وتحويل الشباب بحكم الضرورة إلى مرتزقة".
ويكشف قرقوط أنه سبق لـ"دار عرى" أن رعت شيئاً من هذا الاقتراح الروسي وفشل، ولهذا فإن الأطرش يدرك أنه سيفشل في تغطية هذه التسويات الأمنية، مهما تم تغليفها بصور لطيفة. ويضيف أن كل التسويات التي قام بها الروس في سورية كانت حبراً على ورق، لأنهم جزء من تركيبة أمنية، لا يمكن أن تقود إلى سلم أهلي. ويعتبر أن السويداء تعاني من أزمات أمنية حادة، جزء كبير منها كان برعاية الروس أنفسهم، كما حصل في أحداث القريا ـ بصرى الشام. ولا يمكن وضع هذه الجريمة جانباً من قبل أهالي السويداء، ونسيان دورهم بها من خلال رعايتهم لمرتكبيها.
أما عميد كلية إدارة الأعمال السابق في الجامعة العربية الدولية مهيب صالحة، فيعتبر أن نجاح التسوية الروسية يتوقف على حيثياتها ومضامينها. ويبدي اعتقاده في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "درجة التجاوب ستكون كبيرة، إذا تضمنت التسوية جعل الخدمة العسكرية ضمن الجبل وداخل المناطق الإدارية للمحافظة (السويداء)، بهدف حمايتها من أي عدوان، أو المساهمة في ضبط الأمن المنفلت وفوضى السلاح، بضمانات روسية ورواتب مقنعة". لكنه يستدرك في الوقت نفسه، بأن من شأن هذا الطرح، أي بناء تشكيل عسكري جديد خاص، تقوية نزعة الإدارة الذاتية للجبل. وهو ما يرفضه النظام وموالوه في السويداء من المليشيات المسلحة الحليفة لإيران، كونه سيفضي إلى وقوع صراع بين الجانبين وانقسام في السويداء، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الهدف الروسي هو إبعاد إيران عن الجنوب السوري، وفق الالتزامات الممنوحة من روسيا لإسرائيل والولايات المتحدة.
وحول مسألة "إنشاء تشكيل عسكري في السويداء"، ترددت أخيراً أنباء عن عزم روسيا تشكيل لواء خاص في الجبل، في إطار تسوية وضع الشبان الذين يرفضون الخدمة العسكرية في قوات النظام، على غرار "اللواء الثامن" بقيادة أحمد العودة، التابع لـ"الفيلق الخامس" الذي تدعمه روسيا. لكن ناشطون من السويداء، ومن بينهم رائد صادق أبو صلاح، أكدوا أن لا صحة لهذه الأنباء. وأكد أبو صلاح في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن فكرة إقدام روسيا على تشكيل عسكري خاص بالسويداء في الوقت الحالي مستبعدة، نظراً لما سيفرزه ذلك من أبعادٍ تتعلق بالاقتتال الداخلي مع وجود مليشيات محلية تسيطر عليها إيران والنظام.
لا نيّة لروسيا لتشكيل فصيل عسكري خاص بالسويداء
وكانت إيران قد وجّهت قبل نحو أسبوعين، إشارات لتأكيد حضورها القوي في السويداء، من خلال زيارة قام بها وفد إيراني ضمّ شخصيات دينية ومدنيين إلى السويداء، بحجة تهنئة النائب في مجلس الشعب نشأت الأطرش، رغم مرور أشهر عدة على فوزه بالانتخابات. وجال الوفد على فعاليات دينية واجتماعية في السويداء.
ويحمّل أهالي السويداء إيران مسؤولية مقتل 15 شخصاً من أبنائهم في الاشتباك الذي وقع في القريا مع فصيل أحمد العودة. وهو اشتباك بدأته مليشيا "الدفاع الوطني"، المدعومة من إيران و"حزب الله"، بعد تحضيرات استمرت أسابيع، شملت توزيع السلاح على عناصر جدد من بلدة القريا تحديداً، وتخريج دورة من 500 عنصر. في المقابل، أقام فصيل أحمد العودة حفلاً مماثلاً في مدينة بصرى الشام المواجهة للقريا، وتمّ فيه تخريج نحو ألف شاب، التحقوا بـ "اللواء الثامن".
ولا يبدو تحرك الروس في السويداء معزولاً عن ترتيبات يسعون إليها، مرتبطة بالمنطقة الجنوبية المتاخمة لإسرائيل، بموجب التزامهم ضمان أمنها، بحسب لقاء القدس المحتلة، في يونيو/حزيران 2019، والذي جمع مستشاري الأمن القومي لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا. ووضع اللقاء خطوطاً عريضة لتسوية أزمات المنطقة، انطلاقاً من مصالح إسرائيل، ومن بينها إبعاد المليشيات الإيرانية عن حدودها وضمان أمنها. بالتالي، إن بقاء نحو 40 ألف شاب رافضين للخدمة لدى قوات النظام، موزّعين ضمن فصائل عسكرية محلية مسلحة يشكّل قلقاً، لا للنظام فقط، بل للروس أيضاً، الذين يريدون السيطرة على السلاح، في منطقة ينظرون إليها على أنها تخضع لسيطرة النظام، وإن كان تواجد مؤسساته فيها رمزياً. بناءً عليه، فإن الأيام القليلة المقبلة ستوضح مصير التسوية التي يطرحها الروس، والتي لا تعدو الآن جس نبض وبالون اختبار.