توافق، اليوم الاثنين، الذكرى الخامسة والعشرون لتوقيع اتفاقية "الجمعة العظيمة" أو "اتفاقية بلفاست"، التي أنهت ثلاثة عقود من العنف والاقتتال في إيرلندا الشمالية.
وتكتسب الذكرى هذا العام أهمية إضافية لأنها تؤرّخ لربع قرن من "إحلال السلام"، وتأتي بعد أسابيع قليلة من إعلان رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، وثيقة "وندسور" التي تنهي الخلاف المستمر منذ سنوات بين جميع الأطراف حول بروتوكول إيرلندا الشمالية.
ومع أن الحزب الاتحادي الديمقراطي لم يبارك الوثيقة بعد، ولم يتراجع عن قراره بتعليق مشاركته السياسية، إلا أن شخصيات بارزة ستحضر الاحتفالات "التاريخية" هذا الأسبوع، من بينها الرئيس الأميركي جو بايدن، والرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، والزعيم البريطاني الأسبق توني بلير، اللذان لعبا دوراً أساسياً في التوصل إلى اتفاقية "الجمعة العظيمة" عام 1998، إضافة إلى الملك تشارلز الثالث الذي خسر بشكل شخصي اللورد لويس ماونتباتن، المعروف بـ"العم ديكي" عام 1979، وهو أحد أفراد الأسرة المالكة، وكان بمثابة المرشد الروحي بالنسبة إلى الملك تشارلز عندما كان أميراً، وقد اغتيل على يد متطوع في الجيش الجمهوري الإيرلندي.
وسيحضر الاحتفالات أيضاً الزعيم المحافظ سوناك، الذي لم يوفّر جهداً خلال الأشهر القليلة الماضية للتفاوض مع جميع الأطراف والتوصل إلى اتفاق، بالإضافة إلى زعيم حزب العمال المعارض كير ستارمر الذي لا يفوّت مناسبة إلا ويذكّر بأن اتفاقية "الجمعة العظيمة" هي الإنجاز الأبرز لحزبه، خصوصاً أن وتيرة المفاوضات تسارعت مع وصول "حزب العمال" إلى السلطة عام 1997 بقيادة بلير والجهود الحثيثة التي بذلها لإشراك حزب "شين فين" في المفاوضات بعد أن انسحب منها الحزب الاتحادي الديمقراطي، معترضاً على الاتفاقية.
يُذكر أن الجيش الجمهوري الإيرلندي قصف عام 1984 فندقاً كانت تقيم فيه رئيسة وزراء حكومة المحافظين آنذاك مارغريت تاتشر، ما أدى إلى مقتل أعضاء من حزبها.
ومع أن الاقتتال الطائفي الذي بدأ في الستينيات أدى إلى مقتل أكثر من 3500 شخص، معظمهم من المدنيين، واعتقال أكثر من 1971 شخصاً، معظمهم من الجمهوريين، إلا أن الاسم المتداول عن تلك الحقبة هو "الاضطرابات"، وكأن اللغة قادرة وحدها على تخفيف وطأة الأحداث الدامية وطيّ صفحة دموية من العنف والصراع بين الجمهوريين القوميين الكاثوليك المؤيدين لإيرلندا الموحدة، والنقابيين الاتحاديين البروتستانت المؤيدين للبقاء في المملكة المتحدة.
وتنص الاتفاقية التي جرى التوصل إليها في 10 إبريل/ نيسان 1998 من قبل الحكومتين البريطانية والإيرلندية وثمانية أحزاب سياسية من إيرلندا الشمالية على "الاحترام المتبادل والحقوق المدنية والحريات الدينية لكل فرد في المجتمع" على أن توافق بريطانيا على دمج الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان في قانون إيرلندا الشمالية.
وتنص أيضاً على تأييد حق جميع السكان المولودين في إيرلندا الشمالية في الحصول على الجنسية البريطانية أو الإيرلندية أو كلتيهما، واعتبار إيرلندا الشمالية جزءاً من المملكة المتحدة، وفقاً للاتفاقية، إلا أن هذا قابل للتغيّر من خلال الاستفتاءات التي يأذن بها وزير الخارجية البريطاني، على ألّا تقلّ المدة بين الاستفتاء والآخر عن سبع سنوات. في المقابل، وافقت الجماعات المسلحة على التخلي عن أسلحتها، وأُطلق سراح جميع المعتقلين، بمن فيهم المحكومون بالسجن المؤبد، فيما وافقت حكومة "ويستمينستر" على تقليص الوجود العسكري البريطاني هناك.
ومرّت الاتفاقية بمطبّات عديدة، كان أبرزها التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والترتيبات التجارية التي أعقبت "بريكست" والتي أدّت إلى مقاطعة الحزب الاتحادي الديمقراطي لمشاركته السياسية في الهيئة التشريعية المفوّضة. إذ إن إيرلندا الشمالية أضحت بعد "بريكست" الجزء الوحيد من المملكة المتحدة الذي يمتلك حدوداً برية مع إحدى دول الاتحاد الأوروبي.
وبالتالي، باتت الإجراءات التجارية ضرورية، ما دفع بعض الأحزاب الاتحادية، بما فيها الحزب الاتحادي الديمقراطي، إلى الاعتراض، لما تشكله إقامة نقاط تفتيش جديدة من تهديد للاستقرار ولاتفاقية السلام.
وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة التي تمثّلها الذكرى الخامسة والعشرون لاتفاقية "الجمعة العظيمة"، إلا أنها تطرح اليوم أكثر من الماضي ربما الكثير من الأسئلة الحساسة عن مدى واقعية هذا "السلام" ومدى قدرة الأحزاب والأطراف كافة على تجاوز ذكرياتهم وطيّ تلك الصفحة المفتوحة منذ عقود.
التقينا في "العربي الجديد" عضو الهيئة التشريعية المفوضة والناطقة الاقتصادية باسم حزب "شين فين"، كيفا آرشيبالد، للإجابة عن بعض تلك التساؤلات والأفكار. وبرغم التحديات التي عاشتها الاتفاقية خلال السنوات الـ25 الماضية، إلا أن كيفا تعتقد أن تلك التحديات بعيدة جداً عمّا "عشناه قبل عام 1998" وأن "الثمار التي جنتها الاتفاقية أكبر بكثير من الخسائر التي مُني بها شعب إيرلندا الشمالية خلال 30 عاماً من الصراع".
لم تستطع كيفا التصويت على الاتفاقية عام 1998، لأنها كانت في السابعة عشرة من عمرها، لكنها أيّدتها كما أيّدها والداها، لأنها "وفّرت مساراً ديمقراطياً سلمياً" في الطريق إلى إيرلندا موحّدة. كذلك فإنها "غيّرت مجتمعنا بشكل لافت، خصوصاً جيل الشباب الذي كبر بعد توقيع الاتفاقية والذي نجا من الذاكرة الثقيلة المتعلقة بالقتل والدم".
وتشير كيفا إلى أهمية الاتفاقية على الصعيد الاقتصادي، لكونها مثّلت "فرصة حقيقية للازدهار والاستثمارات"، وخلقت الكثير من فرص العمل التي لم تكن متوافرة في زمن والديها.
وتشير كيفا إلى مفارقة مهمة تتعلّق بمواقف الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي احتجّ بداية على اتفاقية "الجمعة العظيمة"، ثم أيّد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ثم عارض بروتوكول إيرلندا الشمالية، ودعم حكومة رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون برغبتها في تمزيق أجزاء هامة منه، من طرف واحد، ثم اعترض على وثيقة "وندسور" التي من المفترض أنها تراعي كل النقاط الخلافية التي طرحها البروتوكول السابق.
بينما كان موقف حزب "شين فين" متوازناً من كل تلك الأحداث المحورية بحسب كيفا، إذ صوّت الحزب ضد "بريكست"، لكنه دعم الاتفاق "الأصعب" الذي توصلت إليه حكومة جونسون مع الاتحاد الأوروبي بشأن الترتيبات التجارية لمرحلة ما بعد الانسحاب، واليوم يدعم حزبها وثيقة "وندسور" التي "قطعت أشواطاً مهمة في تحجيم وتسهيل المشكلات التي طرحها البروتوكول"، ومع ذلك ما زال الحزب الاتحادي الديمقراطي مصرّ على موقفه بتعليق مشاركته في السلطة، وهو "موقف متناقض".
وتقول كيفا إن الأسباب المعلنة للحزب الاتحادي الديمقراطي حول تعليق مشاركته السياسية ليست حقيقية، وتفترض أن "الانتصار التاريخي" الذي حققه حزب "شين فين" العام الماضي متغلباً على الحزب الاتحادي الديمقراطي تزامن مع مقاطعته العمل السياسي، وبالتالي هذا ما يلخّص أسباب تعليق مشاركته السياسية.
وتشير كيفا إلى أن إيرلندا الشمالية تعيش الكثير من التحديات والأزمات المتعلقة بغلاء المعيشة وارتفاع أسعار الطاقة وانهيار القطاع الصحي، وأكثر ما تحتاجه في الوقت الحالي، وزراء فاعلون وقادرون على اتخاذ القرارات وإحداث التغيير. وهذا بالضبط ما "يقيّد شروط إحلال السلام" بحسب كيفا، فاستمرار تعطيل العمل السياسي وسط كل الفوضى التي تعيشها البلاد، هو ما يشكّل خطراً على اتفاقية "بلفاست"، لا الترتيبات التجارية الجديدة كما "يزعم" الحزب الاتحادي الديمقراطي.