في الوقت الذي تتواصل فيه استعدادات جيش الاحتلال الإسرائيلي للتوغل براً في قطاع غزة، ويواصل سلاح الجو المجازر اليومية في حرب الإبادة الإسرائيلية للمدنيين، يقف المستويان السياسي والأمني حائرين وعالقين في وحل غزة ورمالها، حتى قبل دخولها، بشأن ما سيحصل لاحقاً لو حققت دولة الاحتلال أهدافها المعلنة بالقضاء على حركة حماس والمقاومة.
خيارات كثيرة وُضعت على طاولة المسؤولين أفضلها سيئ بالنسبة لإسرائيل، ما يزيد حيرتها: ماذا عن اليوم الذي تضع فيه الحرب أوزارها؟ الرئيس الأميركي جو بايدن الذي زار إسرائيل الأسبوع الماضي، متضامناً معها في الحرب وداعماً لها، دعاها إلى وضع خطة للمدى الطويل بشأن الواقع في غزة ما بعد الحرب، وألا تعيد الخطأ الذي ارتكبته الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001.
تحتار إسرائيل بين إقامة منطقة عازلة على حدود غزة، وضع قوات دولية، إقامة إدارة مدنية، تسليم غزة إلى السلطة الفلسطينية أو إلى مصر، وبين إعادة احتلال غزة، وبين إقامة نظام جديد فيها، وبين خيارات أخرى يعتبر أفضلها سيئاً بالنسبة لها. وكل هذا على فرض أنها ستتمكن من تحقيق أهدافها باستئصال "حماس"، وهي مهمة تبدو مستحيلة في نظر الكثير من الإسرائيليين حتى.
الخارجية الإسرائيلية: ندرس "تسليم مفاتيح" قطاع غزة لطرف ثالث
الجمعة الماضي، كشف وزير الأمن في حكومة الاحتلال يوآف غالانت، خطة المراحل الثلاث من الحرب على قطاع غزة. وقسّم غالانت الحرب إلى ثلاث مراحل، أولها "حملة عسكرية بالنار ثم بالمناورة (في إشارة إلى التوغل البري)، هدفها تدمير النشطاء وتدمير البنية التحتية، وذلك من أجل تدمير حماس".
وبعد ذلك، على حد قوله، "سيستمر القتال بقوة منخفضة أكثر". أما المرحلة الأخيرة بحسب غالانت فهي "إقامة نظام حكم أمني جديد في قطاع غزة، ورفع مسؤولية إسرائيل بالكامل عن الحياة في القطاع، وإنتاج واقع أمني جديد لسكان إسرائيل".
تحوم تصريحات غالانت والمسؤولين الإسرائيليين حول إنشاء واقع جديد في غزة، لكنهم فعلياً لا يعرفون ماذا يريدون، حتى لو تمكّنوا من تحييد المقاومة. فما هي الخيارات التي تمتلكها إسرائيل، من وجهة نظر مسؤوليها ومحلليها، والتي طُرحت في الأيام الأخيرة؟
تُسمع في الأروقة الإسرائيلية أصوات تطالب بالعودة إلى احتلال غزة من جديد والعودة إلى مستوطناتها التي أخليت بعد خطة فك الارتباط عام 2005. لكن إسرائيل غير قادرة على إدارة القطاع وتحمّل مسؤولية أكثر من مليوني فلسطيني. كما أكد أكثر من مسؤول إسرائيلي في الآونة الأخيرة لوسائل إعلام عدم رغبة إسرائيل بالعودة إلى غزة. ويبدو أن إسرائيل تبحث بالأساس عن حل وسط، لجهة ثالثة تقوم بإدارة القطاع.
يدعم هذا التوجه ما نقلته وكالة "بلومبيرغ" عن مسؤولين إسرائيليين أول من أمس السبت، قولهم إن من بين الخيارات التي تمت مناقشتها في إسرائيل إقامة حكومة مؤقتة في القطاع، مدعومة من الأمم المتحدة وبمشاركة دول عربية.
ولكن هذا الأمر مرتبط بالحصول على دعم من دول عربية وهو أمر غير مؤكد. حتى صيغة هذا الخيار لم تكتمل بعد ولا بزال في مراحله الأولى وقد يتأثر بالتطورات في المنطقة، وما يمكن أن يحققه الاجتياح البري الإسرائيلي.
كما يدعم ذلك ما نقلته وكالة "فرانس برس" السبت أيضاً عن مصدر في وزارة الخارجية الإسرائيلية، كشف فيه أن إسرائيل تدرس من بين السيناريوهات المحتملة "تسليم مفاتيح" قطاع غزة لطرف ثالث قد يكون مصر، من دون أي ضمانة بأن القاهرة ستقبل بهذا السيناريو المؤجل منذ عقود.
"تغيير تاريخي"
ورأى الباحث في معهد السياسات والاستراتيجية في جامعتي رايخمان وتل أبيب، ميخائيل ميلشتاين، أن إسرائيل لا تقف أمام اجتياح "ولكن أمام تغيير تاريخي للواقع في غزة أو على الأقل أمام إمكانية لتغيير تاريخي وإعادة رسم جديد للساحة الفلسطينية وربما مع تأثير على المنطقة"، بحسب "بودكاست" نشره موقع القناة 12 الإسرائيلية، أمس الأحد.
وأبدى ميلشتاين اعتقاده أن الحديث عن القضاء على "حماس"، هو "شعار كبير يحتاج إلى مضامين. والسؤال كيف سيبدو الأمر على أرض الواقع؟ القضاء على "حماس" يعني بداية محو قيادتها. بعدها تنفيذ عملية معقدة أكثر قد تشمل اعتقالات أو قتل عشرات الآلاف في غزة، ممن يعملون أو لديهم علاقات في "حماس".
أيضاً يجب الانتباه إلى العقارات الكثيرة التي تملكها الحركة، ومن ضمنها روضات ومدارس، وإلا فإن "حماس" ستبقى موجودة في الحيز العام ولا يمكن إخراج أفكارها من الناس.
احتلال غزة
الأسوأ بالنسبة لإسرائيل، بحسب العديد من المحللين والباحثين، هو حكمها المباشر لقطاع غزة، بمعنى العودة إلى عام 1967. سيتوجب على إسرائيل في هذه الحالة توفير خدمات مدنية لأكثر من مليوني شخص وتحمل مسؤوليتهم. وفي هذا السياق أشار بايدن من خلال حديثه لبرنامج "60 دقيقة"، بحسب ما ذكر ميلشتاين، إلى أن هذا الخيار ليس مقبولاً وسيكون سيئاً.
ترك فراغ في غزة
سيناريو آخر يخشاه الاحتلال الإسرائيلي، هو ترك فراغ في غزة، في حال حقق الأهداف التي أعلن عنها غالانت بالقضاء على "حماس" وإلحاق دمار هائل في القطاع وقتل عدد كبير من السكان.
تخشى إسرائيل أن الانسحاب من غزة سريعاً بدلاً من البقاء فيها والتعامل مع واقع بعد الحرب، ونصب الخيام، سيترك فراغاً يتيح المجال لجماعات وجهات تكون بالنسبة لإسرائيل أسوأ من "حماس"، تصل من سيناء وشمال أفريقيا والعراق وغيرها. وبالنسبة لإسرائيل هذا خيار سيئ جداً.
إعادة السلطة الفلسطينية
على الرغم من بعض الأصوات الإسرائيلية التي تنادي بإعادة السلطة الفلسطينية إلى غزة، وبالتالي إعادة العجلة إلى عام 2007، فإن هذا الخيار لا يبدو واقعياً. قبل أيام قليلة صرّح وزير الخارجية الإسرائيلي ايلي كوهين في لقاء للقناة 14 الإسرائيلية أن هذا الخيار غير قائم. يضاف إلى ذلك معارضة أوساط واسعة في حكومة الاحتلال الحالية طيلة الفترة الماضية تعزيز مكانة السلطة في الضفة الغربية المحتلة ودعمها.
كما يرى مسؤولون ومحللون اسرائيليون بأن السلطة اليوم بالكاد تبسط سيطرتها على الضفة الغربية المحتلة، وغير مرحب بها في جنين ومناطق أخرى وبالتأكيد ليس في غزة. وربما تكون العديد من أجهزة السلطة، في نظر البعض، لا ترغب بالعودة إلى غزة.
الأسوأ بالنسبة لإسرائيل هو الحكم المباشر لقطاع غزة، بمعنى العودة إلى عام 1967
مع هذا، يبقى الوضع ليس كارثياً بالنسبة لإسرائيل في الضفة الغربية ومع السلطة، إذ يستمر التنسيق الأمني، كما أنه لا توجد انتفاضة شعبية على الرغم من التصعيد في الآونة الأخيرة. لكن هناك باحثين وخبراء أمنيين إسرائيليين يرون أن الوضع قد يتدهور في الضفة، ما قد ينجم عنه مشكلتان أساسيتان.
في حال اجتاح الاحتلال الاسرائيلي غزة وتسبّب ذلك في المزيد من وقوع أعداد كبيرة إضافية من الشهداء في صفوف الغزيين، فإن ذلك قد يؤدي إلى تظاهرات للإطاحة بسلطة الرئيس محمود عباس في الضفة. وربما يحدث أيضاً أن يقرر جزء من الأجهزة الأمنية الفلسطينية التوقف عن التنسيق الأمني أو توجيه أسلحتهم ضد إسرائيل. هذا قد يقود إلى انتفاضة جديدة ولن يكون في صالح الاحتلال.
إقامة نظام جديد في غزة
من الخيارات المطروحة في دولة الاحتلال، إقامة نظام جديد في غزة. وكثر الحديث من قبل عدة مسؤولين ومحللين عن إقامة إدارة مدنية فلسطينية تعتمد على قوى محلية مثل رؤساء سلطات محلية ووجهاء عشائر ومنظمات الإغاثة، وقد ينضم إليهم ممثلون عن حركة "فتح" والسلطة الفلسطينية، يضاف إلى ذلك حضور مصري قوي، وجود قوة دولية للأمم المتحدة أو قوة مصرية وبدعم دولي.
ويسود اعتقاد في إسرائيل أن هذا الخيار بإقامة حكم محلي مدني قد يواجه الكثير من الصعوبات أيضاً. وفي الحديث عن القوة الدولية، طرح مسؤولون إسرائيليون أيضاً في الآونة الأخيرة، إقامة منطقة عازلة بين غزة والمستوطنات الإسرائيلية على حدودها، تنتشر فيها قوة دولية، ويكون ذلك على حساب غزة، بمعنى تقلّص مساحة القطاع.
السيطرة على محور فيلادلفيا
يرى الكثير من الأوساط الإسرائيلية أنه بغض النظر عن الواقع الذي سيكون عليه اليوم الذي يلي الحرب، لا بد أن تسيطر إسرائيل على محور فيلادلفيا، أي خط الحدود بين غزة وسيناء، والذي يرى الاحتلال أنه يشكّل الوريد الأساسي لإدخال كل ما تريده حركة حماس إلى القطاع.
لكن جميع هذه الخيارات تبقى سيئة بل وسيئة جداً بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي، ما يجعله يغرق في وحل غزة حتى قبل انطلاق عمليته البرية، فيما تبقى كل تلك الخيارات أمراً افتراضياً، ذلك أن المقاومة باقية حتى اليوم وتتوعد الاحتلال بالمزيد.