جُوبهت خطط تركية لإنشاء "منطقة آمنة" في الشمال السوري بعمق 30 كيلومتراً على طول الحدود الجنوبية التركية، برفض إقليمي ودولي، وهو ما يصعّب مهمة أنقرة في التدخّل العسكري للمرة الثالثة ضد "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) التي يعتبرها الأتراك مصدر تهديد لأمنهم القومي.
ولم تتأخر ردود فعل اللاعبين الإقليميين والدوليين في سورية على تصريحات للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الإثنين الماضي، أشار فيها إلى أن بلاده "ستبدأ قريباً باتخاذ خطوات تتعلق بالجزء المتبقي من الأعمال التي بدأناها لإنشاء مناطق آمنة على عمق 30 كيلومتراً، على طول حدودنا الجنوبية (مع سورية)"، وفق وكالة "الأناضول" التركية.
عملية عسكرية تركية ضد "قسد"؟
واعتُبرت تصريحات الرئيس التركي توطئة لعملية عسكرية واسعة النطاق تستهدف "قسد"، إما في غربي الفرات حيث تسيطر على منطقتي تل رفعت ومنبج، أو في شرقي الفرات حيث عين العرب أو عين عيسى أو تل تمر.
وعززت تصريحات لوزير الخارجية التركي مولود جاووش أغلو، هذا الاعتقاد أمس، إذ قال إن بلاده "لن تقف مكتوفة الأيدي أمام الهجمات في شمال سورية، وستقوم بما يلزم من أجل ضمان المنطقة الآمنة".
جاووش أوغلو: تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي أمام الهجمات في شمال سورية
وأضاف جاووش أوغلو في حديث للصحافيين على متن الطائرة في رحلة العودة من إسرائيل إلى تركيا، أن "المخاطر الأمنية باتت تحد تركيا؛ سواء من منطقة نبع السلام (في منطقة شرقي الفرات) أو بقية المناطق، وتركيا أنشأت المنطقة الآمنة من أجل إزالة هذه التهديدات".
وتابع "إذا زادت التهديدات، علينا أن نقوم باتخاذ التدابير، وهذا أمر طبيعي، الولايات المتحدة الأميركية وحلف شمال الأطلسي يقولان إنهما يتفهّمان مخاوف تركيا، في حين أن المخاوف الأمنية لا تتطلب فقط تفهّماً، بل عمل ما يلزم".
وأشار وزير الخارجية التركي إلى أن "أميركا وعدتنا بإبعاد العناصر الإرهابية (في إشارة إلى المقاتلين الأكراد) 30 كيلومتراً عن الحدود، وما دام أنها لا تريد عمليات عسكرية وتفهم مخاوف تركيا، فعليها فعل ما يلزم. والأمر نفسه بالنسبة لروسيا، إذ لدينا توافقات معها ومسؤوليات مشتركة، وفي النهاية لم يطبق ذلك، وأخيراً الهجمات المسلحة زادت، وتركيا لا يمكن أن تبقى مكتوفة الأيدي، وعندما ستتم مهاجمتها، ستقوم بما يلزم".
رفض دولي لخطط تركيا في شمال سورية
وعبّرت الولايات المتحدة الثلاثاء الماضي، على لسان المتحدث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس، عن قلقها إزاء الإعلان التركي عن خطط للتدخل مجدداً في شمال سورية. وقال برايس: "ندين أي تصعيد، ونؤيد الإبقاء على خطوط وقف إطلاق النار الراهنة".
وأشار إلى أن بلاده "تتوقع من تركيا أن تلتزم بالبيان المشترك الصادر في أكتوبر/تشرين الأول 2019"، مضيفاً "نحن ندرك المخاوف الأمنية المشروعة لتركيا على حدودها الجنوبية، لكن أي هجوم جديد سيزيد من تقويض الاستقرار الإقليمي وسيعرّض للخطر القوات الأميركية المنضوية في حملة التحالف ضد تنظيم داعش".
برايس: نؤيد الإبقاء على خطوط وقف إطلاق النار الراهنة
وينص البيان المشار إليه والمبرم أواخر عام 2019 على انسحاب "قسد" بعمق 30 كيلومتراً عن الحدود التركية السورية. وقد أعقبه اتفاق مماثل بين موسكو وأنقرة وضع حداً لعملية "نبع السلام" في منطقة شرقي الفرات في أكتوبر من ذلك العام.
وفي مؤشر واضح على رفض الجانب الروسي لأي توغل عسكري تركي في شمال سورية، أجرى الطيران الروسي أول من أمس الأربعاء، غارات تدريبية في منطقة شرقي الفرات غير بعيد عن المناطق الخاضعة للنفوذ التركي وفصائل المعارضة السورية التابعة لأنقرة.
وفي السياق، نقلت صحيفة "الوطن" التابعة للنظام، عن السفير الإيراني في دمشق مهدي سبحاني قوله أول من أمس، إن بلاده "ترفض أي شيء يسبب انتهاك سلامة ووحدة وسيادة الأراضي السورية".
وكانت وزارة الخارجية في حكومة النظام قد بعثت برسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس ومجلس الأمن وصفت فيها تصرفات تركيا بأنها "غير شرعية وملغاة ولا ترتب أي أثر قانوني أو واقعي، بل وترقى إلى توصيفها بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية".
ويخطط الجيش التركي منذ أكثر من عام لتوسيع دائرة نفوذه في الشمال السوري على حساب "قسد" التي تشكل الوحدات الكردية ثقلها الرئيسي، وهي بنظر أنقرة مصدر تهديد دائم للأمن القومي التركي.
وتريد أنقرة السيطرة على شريط داخل الأراضي السورية بعمق 30 كيلومتراً على طول نحو 900 كيلومتر، وهي الحدود التي تربطها مع سورية، ومنها نحو 400 كيلومتر في شرقي الفرات.
وعملياً، تسيطر أنقرة على القسم الأكبر من الأراضي الخارجة عن سيطرة النظام غربي الفرات باستثناء منطقتي تل رفعت ومنبج في ريف حلب الشمالي والشمالي الشرقي (تسيطر عليهما قسد والولايات المتحدة، إضافة إلى قوات روسية)، بينما لا تسيطر أنقرة سوى على شريط بطول 100 كيلومتر بعمق 30 كيلومتراً في شرقي الفرات، يمتد من تل أبيض في ريف الرقة الشمالي إلى ما بعد رأس العين في ريف الحسكة الشمالي الغربي.
منطقة آمنة لإعادة نحو مليون لاجئ سوري
وتطمح أنقرة إلى إنشاء منطقة "آمنة" لتأمين عودة نحو مليون سوري لاجئ في تركيا خلال عام، لسحب ورقة اللاجئين من يد المعارضة التركية قبيل الانتخابات المقررة منتصف العام المقبل.
وتمتد هذه المنطقة من ريف إدلب الشمالي غرباً، مروراً بمنطقة عفرين ذات الغالبية الكردية من السكان والخاضعة للنفوذ التركي منذ عام 2018، ومن ثم ريف حلب الشمالي الذي تسيطر عليه تركيا منذ عام 2017، ومدينة منبج الواقعة غرب نهر الفرات.
وتمتد هذه المنطقة إلى شرقي الفرات، وتبدأ من منطقة عين العرب (كوباني) ذات الغالبية الكردية من السكان، وصولاً إلى منطقتي تل أبيض ورأس العين الخاضعتين للنفوذ التركي منذ عام 2019.
ومن غير الواضح ما هي خطط تركيا إزاء مدينة القامشلي ذات الغالبية الكردية من السكان وبلدات كردية أخرى تابعة لمحافظة الحسكة على طول الشريط الحدودي بين سورية وتركيا وصولاً إلى المثلث الحدودي بين سورية وتركيا والعراق.
عودة أوغلو: من غير المستبعد أن يتم الدخول في عملية تفاوض يتم فيها طرح العديد من الملفات على الطاولة
ضغط تركي على واشنطن وموسكو
من جهته، رأى الباحث في الشأن التركي والعلاقات الدولية، طه عودة أوغلو، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "تنفيذ عملية عسكرية تركية في شمال سورية من دون الحصول على الدعم الجوي، سيخلق مشاكل خطيرة".
واعتبر أن "رسائل التحذير الآتية من أنقرة قد تشكل عامل ضغط على موسكو وواشنطن، مما يؤدي إلى حل المشكلة من دون تصعيد، مع بعض الخطوات التي سيتخذها الجانبان الروسي والأميركي ضد وحدات حماية الشعب الكردية".
وأعرب عودة أوغلو عن اعتقاده بأن "الحل يتناسب مع طبيعة العلاقات التركية مع الولايات المتحدة وروسيا في السنوات الأخيرة"، مضيفاً: "لكن من غير المستبعد الدخول في عملية تفاوض يتم فيها طرح العديد من الملفات على الطاولة، وهذا ما يجرى حالياً".
ويبدو أن الخطة التركية بإنشاء منطقة آمنة في شمال سورية لإعادة لاجئين إليها، وتوطين النازحين من مختلف المناطق السورية، لا تصطدم برفض إقليمي ودولي فحسب، بل وشعبي سوري أيضاً. وقد دعا ناشطون إلى تظاهرة في بلدة دارة عزة شمال غربي حلب، اليوم الجمعة، تحت عنوان "العودة إلى الديار" لـ"التعبير عن تمسكنا بأرضنا وحقنا بالعودة"، وفق بيان صدر بهذا الشأن.
اختلاف بين الفاعلين الدوليين في سورية
بدوره، رأى الباحث في مركز "الحوار السوري" للدراسات، ياسين جمول، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "من الطبيعي أن يحصل الاختلاف بين الفاعلين الدوليين في سورية، فهذا ما أخّر تحقيق حلّ ناجز منذ سنوات".
وأضاف أن "جميع الفاعلين المؤثرين يبحثون عما يضمن مصالحهم، وهي مصالح متباينة أمنياً واقتصادياً وثقافياً، وأحياناً متباينة لحد التناقض، والشمال السوري لم يشهد الهدوء النسبي إلا بعد اتفاق موسكو بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأردوغان (في مارس/آذار 2020)؛ وكان ذلك بسبب توافق مصالح مؤقت".
الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يعارضان التوسع التركي في المنطقة على حساب الانفصاليين الأكراد
واعتبر جمول أن "الوضع اليوم مختلف عما كان حينذاك، فتركيا تجد اليوم فرصة لتحقيق مكاسب مع انشغال روسيا في حربها على أوكرانيا"، مضيفاً "الفرصة تجددت لتركيا مع طلب السويد وفنلندا الانضمام لحلف شمال الأطلسي، فهي فرصة لأنقرة للضغط على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لتأخذ منهما ضوءاً أخضر".
وأشار إلى أن "الغارات التدريبية الروسية الأربعاء الماضي قرب المناطق التي لمحت تركيا ببدء عملية جديدة فيها، رسالة واضحة لأنقرة بالرفض الروسي لأي عملية تركية هناك".
كما أشار جمول إلى أن "الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يعارضان التوسع التركي في المنطقة على حساب الانفصاليين الأكراد المدعومين من الغرب، لأن التدخل يعطي لتركيا قوة وثقلا أكبر في المنطقة"، مضيفاً: "أعتقد أن تركيا لديها الفرصة للحصول على موافقة ضمنية للعملية العسكرية شمال سورية من خلال اللعب على المتناقضات بين مختلف شركائها الدوليين".