تعتبر القضية الفلسطينية من أعقد القضايا الدولية وأقدمها، إذ تعود بنا إلى بدايات القرن الماضي، أيّ قبلَ الاحتلال/ الانتداب البريطاني على أرض فلسطين وشعبها. ونظرًا لقدمِ القضية وتعقيدها فقد صدرت قراراتٌ دوليةٌ عديدةٌ بشأنها، وقدّمت دولٌ كثيرةٌ مبادراتٍ سياسيةً تسعى إلى حلّ عقدها، لكن؛ وعلى الرغم من كلّ ذلك ما زالت القضية على حالها، بل يمكن القول أنّها ازدادت تعقيدًا، كما ارتفع منسوب جرائم الاحتلال ودوريتها، إلى جانب تمسك شعب فلسطين الأصلي بالدفاع عن حقوقه الأصيلة في الأرض والعودة وتقرير المصير.
يتبنّى المجتمع الدولي حتّى اليوم رؤية الدولتين كمشروعٍ سياسيٍ لحلّ القضية الفلسطينية، الذي ينطلق من إقامة دولتين متجاورتين على أرض فلسطين التاريخية، إسرائيل دولةٌ يهوديةٌ، وفلسطين لشعب فلسطين الأصلي، استنادًا إلى جملةٍ من القرارات الدولية، أهمّها قرار التقسيم 181؛ الصادر في 29/11/1947، وقرار 242، الداعي إلى انسحاب قوات الاحتلال من الأراضي المحتلة في عام 1967، والصادر في 22/11/1967، وقرار 194 المعروف بقرار العودة، الذي ينص على عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى مدنهم وقراهم وممتلكاتهم التي هجروا منها قسرًا، صدر القرار في 11/12/1948.
كان توقيع اتّفاق أوسلو في 13/9/1993 مقدمةً لحلٍّ سياسيٍ، أو بالأصح هذا ما افترضته قيادة منظّمة التحرير الفلسطينية، لكن سرعان ما دفنت قوات الاحتلال مسار أوسلو بجرائمها المتكررة، واعتداءاتها الدورية، وانتهاكاتها الدائمة الساعية إلى استكمال سيطرتها على أرض فلسطين التاريخية، مع الإبقاء على دور السلطة الوطنية الفلسطينية الأمني، على اعتبارها خط دفاعٍ أولٍ.
لم يكتفِ الاحتلال الصهيوني بكلّ ذلك؛ بل حاول إلقاء مسؤولية توقف/ تعثّر مشروع السلام على الفلسطينيين، من خلال ادعائه المتكرر بعدم وجود شريكٍ فلسطينيٍ للسلام، التي أعلنها معظم رؤساء حكومات إسرائيل المتعاقبة؛ ربّما باستثناء حكومتي إسحاق رابين وشمعون بيريز.
لم يسقط الفلسطينيون الحلّ السلمي من حساباتهم، رغم اضطرارهم إلى النضال بجميع الأشكال لاسترداد حقوقهم المستلبة صهيونيًا
لكن وقبل الدخول في موقف شعب فلسطين الأصلي من السلام، وماهية رؤيتهم له، لا بدّ من المرور سريعًا على موقف الاحتلال ومجتمعه من السلام، وتحديدًا أتباع الديانة اليهودية منه، الذي جعلهم قانون يهودية الدولة العنصري وحدهم أصحاب الحقّ في تقرير المصير على أرض فلسطين، بعد إقراره من قبل الكنيست في 19/7/2018. نجد في استطلاع الرأي الذي أجراه معهد الديمقراطية الإسرائيلية بين 18- 20/9/2022، أنّ 58% من أتباع الديانة اليهودية الموجودين داخل فلسطين يرفضون قطعًا حلّ الدولتين. كما أظهر استطلاع المركز نفسه لعام 2021 تأييد 34% من يهود إسرائيل لحلّ الدولتين، مقابل تأييد 14% منهم لحلّ الدولة الواحدة ذات المواطنة المتساوية. كما نشرت مجلة +972 نتائج استطلاع مجموعة المعرفة الجيولوجية على الخرائط بين 500 يهودي، مفاده أنّ 16.2% منهم يؤيدون عودة اللاجئين الفلسطينيين، بشرط عودتهم في ظروفٍ سلميةٍ. أيضًا؛ نشر موقع "ذا جيرسيلوم بوست" نتائج استطلاعٍ أجراه موقع "وول نيوز" يوضح أنّ 58% من يهود إسرائيل يؤيدون قانون القومية.
وعليه لا تقف حكومات الاحتلال وحدها ضدّ إعادة حقوق الفلسطينيين، بل يدعمها قسمٌ كبيرٌ من أتباع الديانة اليهودية داخل فلسطين كذلك.
موقف الشارع الفلسطيني من السلام
يمكن رصد موقف الشارع الفلسطيني من مسار السلام عبر نتائج استطلاعات الرأي المختلفة والمتعددة، ولتكن البداية من موقف فلسطيني 48، الذين رصد موقفهم استطلاع معهد الديمقراطية الإسرائيلية، إذ أيدَ 60% منهم حلّ الدولتين في عام 2022، في حين أيدَ 69% منهم حلّ الدولتين، مقابل تأييد 56% منهم لحلّ الدولة الواحدة ذات المواطنة المتساوية لجميع مواطنيها، في عام 2021.
في حين نجد في استطلاع المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية رقم 88 لعام 2023، أنّ 71% من الفلسطينيين؛ الموجودين في كلٍّ من الضفّة الغربية وقطاع غزّة، يعتقدون أنّ حلّ الدولتين لم يعد ممكنًا عمليًا بسبب التوسع الاستيطاني، في حين أيدَ 26% منهم التخلّي عن خيار الدولتين لصالح المطالبة بخيار الدولة الواحدة ذات الحقوق المتساوية لسكان فلسطين الحاليين والأصليين على كامل أرض فلسطين التاريخية، كما اعتبر 43% أنّ الطريقة الأنسب لإنهاء الاحتلال تتمثّل في المفاوضات والمقاومة الشعبية بنسبة 21 للأولى و22 للثانية، في حين أعتبر 52% منهم العمل المسلّح الخيار الأنسب لاستعادة الحقوق الفلسطينية.
أما فلسطينيو الشتات، في دول الطوق وحول العالم، فلا يوجد استطلاع رأيٍ دوريٍ يرصد آراءهم ومواقفهم المتعلقة بالقضية الفلسطينية وحلّها، وذلك لأسبابٍ عديدةٍ يصعب ذكرها الآن، لكن من الممكن التنبؤ بها من خلال دورهم المركزي في النضال التحرري بعد نكسة 1976، ومن خلال تمسكهم المستمر بحقّ العودة وتقرير المصير، فضلاً عن دعمهم وتأييدهم لجميع أنواع النضال التحرري.
عودةٌ إلى بدايات القضية
بالعودة إلى وثائق مرحلة الاحتلال/ الانتداب البريطاني لفلسطين، نجد أنّ تقرير لجنة شو 1930، قد حدد مشكلة سكان فلسطين الأصليين من هجرة اليهود إليها بالنقاط التالية:
1- الخشية من سيطرتهم على كامل الأرض العربية، وتحويل السكان الأصليين إلى أقليةٍ في وطنهم.
2- الخشية من سيطرة اليهود السياسية والاقتصادية؛ بدعمٍ بريطانيٍ، على مقدرات البلد، ما سوف يؤدي إلى إفقار السكان الأصليين وانتشار البطالة بينهم.
3- نفوذ الحركة الصهيونية في بريطانيا، وتأثيرها على حكومتها.
كما نص تقرير لجنة وودهيد 1938 على: رفض سكان فلسطين الأصليين، العرب، مبدأ التقسيم، كما لم يتحمس اليهود له، فضلاً عن استحالة تقسيم فلسطين بطريقةٍ عادلةٍ ومقبولةٍ من قبل الجانبين، وعليه لن يُكتَب للتقسيم النجاح.
ثم عقد مؤتمر لندن، المائدة المستديرة، عام 1939، للتباحث بشأن القضية الفلسطينية، بمشاركة ممثّلين عن كلٍّ من فلسطين ومصر والسعودية والأردن واليمن والوكالة اليهودية ومندوبين بريطانيين. حينها تجسد موقف الوفد العربي، بما فيه الوفد الفلسطيني، بإقامة حكومةٍ فلسطينيةٍ يتمثّل فيها اليهود وفقًا لنسبتهم العددية، ويُمنَح اليهود ضماناتٍ دستوريةٍ؛ استقلال داخلي واسع النطاق في المناطق ذات الغالبية اليهودية.
كان توقيع اتّفاق أوسلو في 13/9/1993 مقدمةً لحلٍّ سياسيٍ، أو بالأصح هذا ما افترضته قيادة منظّمة التحرير الفلسطينية
رغم الموقف الفلسطيني والعربي الساعي إلى حلّ القضية الفلسطينية، لم يخلص المؤتمر إلى نتائجٍ مرضيةٍ، بسبب الرفض الصهيوني للمقترح الفلسطيني، وبناء عليه أصدرت الحكومة البريطانية في أعقاب المؤتمر الكتاب الأبيض، الرابع، في 27/5/1939، والذي نص على: " إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ ديمقراطيةٍ تشمل كلّ فلسطين الانتدابية غربي نهر الأردن، ويتمثّل فيها جميع سكانها من عربٍ ويهودٍ على قاعدة التمثيل النسبي"، بعد عشر سنواتٍ.
رفضت الحركة الصهيونية المقترح كلّيًا وأعلنت مقاومته، في حين لم يتلقَ سكان فلسطين الأصلين المقترح بالرضا الكامل، لأسبابٍ موضوعيةٍ أهمّها: تأجيل استقلال فلسطين لمدّة عشرة أعوامٍ كاملةٍ، وعدم تضمين المقترح عفوًا عامًا عن الفدائيين الفلسطينيين. اللافت هنا هو عدم اعتراض الوفد الفلسطيني على الهجرة اليهودية عامّةً، وعلى السماح بهجرة 75 ألف يهوديٍ إلى فلسطين في الأعوام الخمسة التالية، على أن تتوقف الهجرة كلّيًا بعدها إلّا في حال موافقة العرب على غير ذلك، إلى جانب ذلك عدم اعتراضهم على التبادل الحر للأراضي.
على صعيد موقف القوى الفلسطينية، قبلت اللجنة التنفيذية عام 1929 إقامة حكومةٍ فلسطينيةٍ على قاعدة التمثيل النسبي لجميع السكان، فلسطينيين ويهود، مع حقّ المندوب السامي البريطاني استخدام الفيتو عند الحاجة، مع شرط تقييد الهجرة اليهودية وبيع الأراضي لليهود، وهو الموقف الذي استمر في ثلاثينيات القرن الماضي. ثم في عام 1937؛ وبعد صدور تقرير لجنة بيل الملكية، الذي نص على تقسيم أرض فلسطين الأصلية إلى دولتين فلسطينيةٍ ويهوديةٍ، طالبت اللجنة العربية العليا بـ "وقف الهجرة وبيع الأراضي، وإقامة حكومةٍ وطنيةٍ ديمقراطيةٍ، ترتبط مع بريطانيا بمعاهدةٍ تحفّظ جميع الحقوق المشروعة لليهود".
خلاصة كلّ ذلك لم يرفض الفلسطينيون الوجود اليهودي، بقدر ما رفضوا محاولات السيطرة اليهودية وإقصاء سكان فلسطين الأصليين، وسعى الفلسطينيون كثيرًا إلى بناء نظام ديمقراطيٍ عادلٍ لا يميز بين مواطنيه في الحقوق والواجبات.
تأسيس منظّمة التحرير
تبنّت منظّمة التحرير عند تأسيسها في 28/5/1964 الميثاق القومي، الذي أكد على ارتباط فلسطين ببعدها الإقليمي/ العربي، وعلى حقّ شعب فلسطين الأصلي في المقاومة وتحرير الأرض، وتقرير المصير والعودة، وعلى رفض تقسيم فلسطين بحدودها القائمة في عهد الاحتلال/ الانتداب البريطاني، في حين لم يشر إلى موقف المنظّمة من المهاجرين اليهود، مكتفيًا بالإشارة إلى اعتبار يهود فلسطين جزءًا أصيلاً من شعب فلسطين الأصلي.
في 17/7/1968 تبنّت منظّمة التحرير الميثاق الوطني، بعد إجراء بعض التعديلات الجوهرية على الميثاق السابق، أهمّها اعتبار كلّ اتباع الديانة اليهودية المقيمين في أرض فلسطين إقامةً عاديةً حتّى بدء الغزو الصهيوني فلسطينيين. في حين أعاد الميثاق الوطني التأكيد على ذات القضايا الأساسية المشار إليها سابقًا في الميثاق القومي. لكن لا يمكن هنا القفز على مواقف القوى السياسية الفلسطينية، وأهمّها حركة فتح، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
نص تقرير الجبهة الشعبية السياسي التأسيسي عام 1969 على "إن هدف حركة التحرر الفلسطينية هو إنشاء دولةٍ وطنيةٍ ديمقراطيةٍ، يعيش فيها العرب واليهود كمواطنين متساوي الحقوق والواجبات".
في حين لم تتبنَّ حركة فتح رسميًا مشروعًا سياسيًا واضح المعالم، انطلاقًا من أولويّة تحرير فلسطين، لكنها دعمت خيار الدولة الديمقراطية الواحدة القائمة على المواطنة المتساوية بين سكان فلسطين الأصليين وأتباع الديانة اليهودية المقيمين فيها، من خلال كتابات مؤسسي الحركة وقادتها وتصريحاتهم العديدة، المنشورة في أهمّ المنابر والمجلات والصحف الصادرة باللغة العربية خاصّةً.
في نهاية ثمانينيات القرن الماضي شهدنا تأسيس كلٍّ من حركتي حماس والجهاد، اللتين تمثّلان اليوم جزءًا مهمًا من الجسم السياسي الفلسطيني، وعليه لا بدّ من المرور على مشروعهما السياسي، وخطابهما بشأن القضية الفلسطينية.
أعلنت حركة حماس عن ميثاقها في 18/8/1988، الذي تبنّت فيه العقيدة الإسلامية، وأكدت على أنّ "فلسطين أرض وقفٍ إسلاميٍ، لا يجوز التفريط بها أو بجزءٍ منها"، ونصت مادته السادسة على "في ظلّ الإسلام يمكن أن يتعايش أتباع الديانات جميعًا في أمن وأمان على أنفسهم وأموالهم وحقوقهم، وفي غياب الإسلام ينشأ الصراع"، كما نصت المادة الثالثة عشرة على "تتعارض المبادرات، وما يسمى بالحلول السلمية والمؤتمرات الدولية لحلّ القضية الفلسطينية مع عقيدة حركة المقاومة الإسلامية، فالتفريط في أيّ جزءٍ من فلسطين تفريطٌ في جزءٍ من الدين"، كما رفضت في المادة السابعة والعشرين تبنّي منظّمة التحرير الفلسطينية لفكرة الدولة العلمانية، لتناقضها مع عقيدة الحركة الدينية.
لم يرفض الفلسطينيون الوجود اليهودي، بقدر ما رفضوا محاولات السيطرة اليهودية وإقصاء سكان فلسطين الأصليين
ثم أصدرت الحركة في 1/5/2017 وثيقة المبادئ والسياسات العامّة، التي أكدت على حدود أرض فلسطين التاريخية الكاملة، وأكدت على أهمّية التعايش والتسامح مع كلّ الأديان، وعلى حقّ سائر الأديان بالعيش في أمنٍ وأمانٍ، كذلك شددت الوثيقة على تمسكها بحقّ العودة، ورفضها تصفية قضية اللاجئين، كما نص البند رقم (16) "تؤكد حماس أنَّ الصراع مع المشروع الصهيوني ليس صراعًا مع اليهود بسبب ديانتهم؛ وحماس لا تخوض صراعًا ضدّ اليهود لكونهم يهودًا، وإنَّما تخوض صراعًا ضدّ الصهاينة المحتلين المعتدين"، كما رفضت في البند (17) "اضطهاد أيّ إنسان أو الانتقاص من حقوقه على أساسٍ قوميٍ أو دينيٍ أو طائفيٍ"، في حين ركز البند (20) على التسويات السياسية بـ "لا تنازلَ عن أيّ جزءٍ من أرض فلسطين"، ثم يتابع "إن حماس تعتبر أنّ إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلةٍ كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من يونيو/حزيران 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغةٌ توافقيةٌ وطنيةٌ مشتركةٌ". أما فيما يتعلق بطبيعة النظام السياسي الفلسطيني بعد التحرير فلم تعلن الوثيقة تبنيّها مشروع الدولة الإسلامية، كما لم تنقد فكرة الدولة العلمانية.
في حين نشرت حركة الجهاد الإسلامي وثيقتها السياسية في فبراير/شباط 2018، التي أكدت على أنّ أولويّة الحركة هي تحرير فلسطين، كما أكدت على حدود فلسطين في مرحلة الاحتلال/ الانتداب البريطاني، كما ذكرت الوثيقة أنّ "لا حقّ لليهود في أرض فلسطين"، كما شددت على حقّ الفلسطينيين في العودة إلى فلسطين، كذلك نصت على "كلّ يهودي خارج هذا الكيان، وأيّنما كان وجوده، لا يوالي (إسرائيل)، ولا يساندها في اغتصابها لأرضنا وحقوقنا، ولا يعادينا، لا نعده عدوًّا لنا، فمعيار موقفنا من الآخرين، هو الموقف من فلسطين، بغض النظر عن المعتقد أو الأصل". وفيما يتعلق بنهج التسوية "ترفض الحركة الاعتراف بالكيان الإسرائيلي، أو الصلح، أو التفاوض معه، لأنّ حقّنا في فلسطين ليس حقًّا نسبيًا، بل هو حقٌ مطلقٌ غير قابلٍ للتجزئة أو المساومة".
وعليه طرحت غالبية القوى السياسية الفلسطينية رؤيتها للسلام في فلسطين، على قاعد استعادة الحقوق المستلبة، وضمان حقوق جميع سكان فلسطين الدينية والاجتماعية، على قاعدة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، دون أيّ تمييزٍ، باستثناء حركة الجهاد الإسلامي، وبدرجةٍ أقلّ حركة حماس.
السلام في الذهنية الفلسطينية
لتحديد الموقف الفلسطيني من العملية السلمية لا بدّ من التمييز بين مرحلتين أساسيتين، الأولى مرحلة الاحتلال/ الانتداب البريطاني، والثانية مرحلة ما بعد النكبة، إذ فرضت النكبة جملةً من المتغيرات الميدانية، نتيجة جرائم الاحتلال الصهيوني العديدة بحقّ أرض فلسطين وشعبها، أخطرها جرائم التطهير العرقي والتهجير القسري والتمييز العنصري.
إذ طبع المرحلة الأولى خطابٌ سلميٌ واضحٌ، ومقاومةٌ شعبيةٌ في معظمها، تدعو إلى التعايش المشترك، على أسسٍ ديمقراطيةٍ متكافئةٍ تحترم المعتقدات الدينية. لكن لم يلق هذا الطرح آذانًا صاغيةً لدى الحركة الصهيونية أولاً، والمجتمع الدولي ثانيًا، خصوصًا من قبل الولايات المتّحدة الأميركية والمملكة المتّحدة.
أما المرحلة الثانية؛ فقد بات هاجسها الدفاع عن النفس، والعودة إلى أرض فلسطين المحتلة، بعد كثافة الجرائم الصهيونية المشار إليها، وهو ما تطلّب تنمية النضال الخشن/ العسكري، في ظلّ تعنت الاحتلال، ورفضه تطبيق القرارات الأممية، ومنها القرار 194، رغم اشتراط نص قرار قبول عضوية إسرائيل في الأمم المتّحدة تطبيقه! وهو ما أدّى إلى نشوء حركة التحرر والنضال الفدائي من خارج فلسطين، على التوازي مع تقديم تصورٍ سياسيٍ لفلسطين بعد التحرير، ديمقراطيٍّ في معظمه لا يميز بين سكان فلسطين الأصليين والحاليين من أتباع الديانة اليهودية. أيّ لم يكن النضال التحرري الفلسطيني بديلاً عن الحلّ السلمي، بقدر ما كان؛ وما زال، ردًا ضروريًا على جرائم الاحتلال، وعلى تعنته المستمر.
وعليه يمكن القول أنّ الفلسطينيين عامّةً؛ باستثناء حركة الجهاد وبدرجةٍ أقلّ حركة حماس"، وعلى امتداد الأعوام الماضية؛ وربّما القادمة، لم يسقطوا الحلّ السلمي من حساباتهم، رغم اضطرارهم إلى النضال بجميع الأشكال لاسترداد حقوقهم المستلبة صهيونيًا، غير أنّ طرحهم قوبل برفض قادة الاحتلال الصهيوني مرارًا وتكرارًا، كما لم يلقَ طرحهم دعمًا دوليًا واضحًا في ظلّ تشابك المصالح البريطانية- الصهيونية أولاً، والأميركية- الصهيونية ثانيًا. وقد استندت رؤية الفلسطينيين للسلام ولحلّ القضية الفلسطينية على:
- فلسطين بحدودها الانتدابية وحدةٌ جغرافيةٌ وسياسيةٌ واحدةٌ.
- بناء دولة مواطنةٍ كاملةٍ ومتساويةٍ بين جميع سكان فلسطين الأصليين والحاليين.
- حماية الحقوق الدينية ورموزها ومراكزها.
- عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى مدنهم وقراهم التي هجروا منها قسرًا.
- حماية الهويّة والتراث الفلسطيني الثقافي والسياسي.
- ارتباط فلسطين بمحيطها الإقليمي ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا.
- العدالة الاجتماعية والاقتصادية، ورفض التمييز الاجتماعي أو الاقتصادي على أسسٍ عرقيةٍ أو أثنيةٍ أو دينيةٍ.
كما تشير بعض الوثائق التاريخية إلى قبول الفلسطينيين باللامركزية الإدارية، التي تمنح المناطق ذات الغالبية اليهودية حقّ الإدارة الذاتية غير السياسية، اجتماعيًا وثقافيًا وتنظّيمًا.
لم يكن النضال التحرري الفلسطيني بديلاً عن الحلّ السلمي، بقدر ما كان؛ وما زال، ردًا ضروريًا على جرائم الاحتلال
أيّ تتجسد رؤية الفلسطينيين للسلام في خيار دولة فلسطين الديمقراطية الواحدة، وربّما يصح القول العلمانية أو المدنية أيضًا، دولةٍ لجميع سكان فلسطين الأصليين والحاليين، دولة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات. وهو الخيار الذي عادت إلى طرحه بعض المجموعات الفلسطينية الناشئة، والأوساط الأكاديمية المحلية والعالمية، خصوصًا بعد توغل جرائم الاحتلال، وثبوت استحالة تقسيم أرض فلسطين إلى دولتين متجاورتين، وهي الخلاصة ذاتها التي أشار إليها منذ قرابة مائة عامٍ تقرير لجنة وودهيد عام 1938، فهل تلقى رؤية الفلسطينيين للسلام في الوقت الراهن دعمًا دوليًا شعبيًا ورسميًا؟