في 24 أغسطس/آب الماضي، عادت المعارك إلى إقليم تيغراي بين القوات الإثيوبية ومقاتلي جبهة تحرير تيغراي لتكون إيذاناً بسقوط الهدنة الهشة التي استمرت لخمسة أشهر فقط بعد توقف الحرب في مارس/آذار الماضي.
لكن بعد مواجهات استمرت نحو أسبوعين، أعلنت قيادة "جبهة تحرير شعب تيغراي" هدنة أحادية الجانب ومشروطة، وذلك عبر رسالة مفتوحة وجّهها زعيم الجبهة ديبريتسيون جبريمايكل إلى مجلس الأمن الدولي، الجمعة الماضي.
وجاء في الرسالة: "إن رفع الحصار عن الإقليم وسحب جميع القوات الإريترية، أمر أساسي لتأمين الوقف المستدام لإطلاق النار، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى الإقليم، وإعادة الأراضي المعترف بها دستورياً إلى تيغراي، وإعادة الخدمات الأساسية إلى الإقليم".
وذكر جبريمايكل أن محادثات السلام يجب أن تشمل تعيين لجنة موثوق بها من الوسطاء الدوليين رفيعي المستوى، المقبول بهم من الطرفين، والاتفاق على جدول زمني من أجل تطبيق أي اتفاقية، مؤكداً أن السلام خيار استراتيجي ومسألة وجود لحكومته.
سقوط الهدنة الهشة
ووفق متابعين، فإن الهدنة الهشة التي لفظت أنفاسها أخيراً في 24 أغسطس مثّلت استراحة محارب لطرفي الصراع في إثيوبيا. وأذكت مجموعة من المطالب النزاع العسكري الحالي بين "جبهة تحرير شعب تيغراي" والجيش الإثيوبي.
وتتمحور في مطالب الجبهة التي تراها الحكومة أنها غير ممكنة، والمتعلقة برفع الحصار عن الإقليم، وخروج القوات الإثيوبية من منطقة غرب تيغراي، وعودة المساعدات من دون قيود والخدمات، بما فيها الاتصالات والتحويلات التي قُطعت من قبل حكومة أديس أبابا أواخر عام 2020، حين بدأت الحرب.
وقال مصدران، دبلوماسي وأجنبي، لوكالة "فرانس برس"، الخميس الماضي، إن القتال تكثّف على حدود تيغراي الشمالية، بينما استهدفت قوات مؤيدة للحكومة وجنود من إريتريا المجاورة التي دعمت الجيش الإثيوبي في المرحلة الأولى من الحرب مواقع المتمردين. ولم تتمكن الوكالة من التحقق من صحة الادعاءات من مصدر مستقل.
وحول هذه التطورات، اعتبر الصحافي الإثيوبي زاهد زيدان في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن الحكومة الإثيوبية التزمت الصمت بخصوص الرد على الهدنة المشروطة المقترحة من قبل "جبهة تحرير شعب تيغراي"، ولا يزال التعتيم الإعلامي سيد الموقف بالنسبة إلى العملية العسكرية الأمنية التي يخوضها الجيش الإثيوبي ضد الجبهة منذ أواخر أغسطس الماضي.
عبد الشكور عبد الصمد: طلب تيغراي التدخل وفق البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة
وأشار زيدان إلى أن الجيش الإثيوبي حقق تقدماً عسكرياً في بعض المناطق، وتمكن من السيطرة على أربع مدن رئيسية في الإقليم، بعد أن شن ضربات عسكرية متتالية من ثلاث جهات في الإقليم، ما دفع مسلحي الجبهة إلى التراجع، وهو ما يمثل أيضاً ضغطاً عسكرياً حكومياً على الجبهة، بإعلانها الهدنة المشروطة على لسان جبريمايكل.
وفي السياق نفسه، اعتبر الباحث السياسي الإثيوبي عبد الشكور عبد الصمد في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن "الحرب الأخيرة حرب اختبار إرادات، والغرض انتزاع مواقف قبل بدء المفاوضات بين الجانبين، بما أن الجولة الأولى من الحرب (نوفمبر/تشرين الثاني 2020) لم تُحسم بسبب قوة الضغط الدولي، والأوضاع الإنسانية والتغطية الإعلامية التي رافقتها ضد الحكومة الإثيوبية وجيشها، كما أن الجولة الثانية (24 أغسطس الماضي) لم تشهد أيضاً تقدماً كبيراً".
وعلل ذلك باحتمال "وجود رغبة مستترة حتى يرى كل طرف ما لدى الآخر بعيداً عن أي فاعل ومؤثر"، مشيراً إلى أن "هناك تكتماً حكومياً وصمتاً إعلامياً حول مبادرة قيادات جبهة تحرير شعب تيغراي، بشأن اقتراح هدنة مشروطة لمجلس الأمن الدولي قبل جلسة مقررة اليوم الاثنين، بالإضافة إلى طلب التدخل وفق البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهو أمر له أهمية كبيرة".
وحول خريطة الصراع بين الجيش الإثيوبي ومسلحي "جبهة تحرير شعب تيغراي" المستمر، قال عبد الصمد، إن "الحرب تدور على طول حدود إقليم تيغراي (يحده من الشمال إريتريا ومن الغرب السودان ومن الشرق إقليم عفر ومن جنوبها إقليم أمهرة)، وتتركز تحديداً في منطقة رايا وسقوطا والحدود مع إقليم عفر. وتشهد منطقة حمرا وولقايت تمركزاً عسكرياً للجيش الإثيوبي وقوات إقليم أمهرة الخاصة، وتفيد معلومات بوجود نخبة قوات إريترية فيها".
وكشف أنه "مع بداية العمليات الجارية دار حديث عن نقل أعداد كبيرة من الجيش الإثيوبي إلى إريتريا، للقيام بهجوم مضاد من الشمال، تحديداً من الشمال الغربي والشمال الشرقي باتجاه إقليم تيغراي، وهناك تدخل فعّال لسلاح الطيران الإثيوبي في العمليات للإجهاز على تحركات مسلحي جبهة تحرير شعب تيغراي".
وأوضح عبد الصمد أن "منطقة غرب تيغراي (حمرا وولقايت) تعتبر قانونياً ضمن إقليم تيغراي، بينما يعدّها إقليم أمهرة منطقة تابعة له. والمنطقة من أهم نقاط الخلاف بين الجانبين، وتكمن أهميتها في أنها تعطي منفذاً لإقليم تيغراي مع دولة السودان، وتخضع لسيطرة الجبهة منذ أكثر من 40 سنة، خصوصاً خلال فترة النضال ضد إمبراطور إثيوبيا منغستو هيلا مريام (دام حكمه بين عامي 1974 و1991)".
فرص التسوية
وتبدو فرص التسوية بين الأطراف المتصارعة في إقليم تيغراي شبه مفقودة، ولم تنجح الجهود الدولية، خصوصاً الأميركية في فرضها. وحول ذلك، توقع عبد الصمد جلوس الطرفين إلى طاولة المفاوضات، استجابة للضغوط الدولية التي تمارس من قبل وسطاء دوليين.
ورأى أن "المتغير الجديد هو أن الأطراف الداخلية التي كانت متحمسة للحسم العسكري بدأت تبدّل مواقفها، بينما تبرز علامات استفهام حول الطرف الإقليمي الذي يتركز عليه الضوء (إريتريا)، وما إذا كان ستستجيب للضغوط الدولية والرغبات المحلية لوقف دوره العسكري ومشاركته ضد القتال على جبهة تيغراي".
بدوره، رأى رئيس تحرير موقع "نيلوتيك بوست" (موقع إثيوبي مستقل)، منير نور الدين، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن "المعوقات الأساسية لإنهاء الصراع ونجاح المفاوضات بين الجانبين، هي تعدد أطراف الصراع، وهي في الحقيقة أكثر بكثير مما هو واضح للعلن".
وقال إن "جبهة تيغراي تطالب بخروج القوات الإريترية وعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه في منطقة غرب تيغراي المتنازع عليها مع إقليم أمهرة المجاور قبل اندلاع الحرب (نوفمبر 2020)، بينما ترى الحكومة الإثيوبية ضرورة الدخول في المفاوضات من دون شروط تعجيزية، وهو ما يوحي بأن الأمر أصبح كالحصول على البيضة قبل الدجاجة".
منير نور الدين: أسوأ سيناريو هو استمرار الصراع مع هُدن متقطعة
وأوضح نور الدين أن "الحرب الإثيوبية المستعرة لها تأثيرات كبيرة على الاقتصاد الإثيوبي، الذي يعاني من تراكم العديد من العوامل المحلية والدولية، فأزمة الانتقال السياسي الذي تعيشه البلاد منذ أكثر من خمس سنوات، أثّرت أيضاً بمجمل الوضع الاقتصادي. فحرب تيغراي مدمّرة اقتصادياً بكل المقاييس، وأدت إلى تدمير جزء كبير من البنية التحتية، والتكلفة المباشرة أيضاً، المقدّرة بالمليارات، رفعت من مؤشر التضخم في البلاد إلى مستويات قياسية وبنسبة 35 في المائة، وهناك اعتقاد بأنه لا يمكن إثيوبيا أن تتحمل تكلفة اقتصادية أخرى بعد الجولة الحالية من الصراع".
وحول سيناريوهات الحرب في إقليم تيغراي ومآلات مستقبل الصراع بين الجانبين، رأى نور الدين، أن "أسوأ سيناريو هو استمرار الصراع مع هُدن متقطعة بين الحين والآخر، وتجدد الصراع كلما شعرت أطرافه بحاجتها إلى دبلوماسية الحرب. وهذا السيناريو مكلف وتتعدى عواقبه الإطار الجغرافي المحدود للقتال حالياً. أما سيناريو الحسم العسكري، فيبدو أنه صعب التحقيق للطرفين، إن لم يكن مستحيلاً راهناً، فلدى كل طرف عوامل القوة وأوراق الضغط التي تمنع الحسم العسكري. ويتمثل السيناريو الأخير بإمكانية نجاح جهود رأب الصدع الجارية خلف الكواليس برعاية واشنطن عبر مبعوثها الجديد (مايك هامر)، وعبر جهات إقليمية ودولية عدة، وفي النهاية ستثمر خلق نوع من التسوية التي تفتح الباب لمفاوضات طويلة الأمد، والتي قد تؤدي في مرحلة من المراحل إلى إطلاق عملية الحوار الوطني الشامل، إلا إذا لم يختر الجميع خيار دفع مفاوضات السلام نحو المجهول".