ثماني سنوات على ضم القرم: حين بدأ ابتلاع أوكرانيا

18 مارس 2022
صورة لبوتين في سيمفوروبول بالقرم في 5 مارس (فرانس برس)
+ الخط -

لم يكن الهجوم الروسي على أوكرانيا، المستمر منذ 24 فبراير/ شباط الماضي، أساس الخلاف بين كييف وموسكو. في الأساس هناك نقطة مفصلية دفعت الأحداث إلى التحوّل العنيف الذي تشهده في الفترة الحالية: ضمّ شبه جزيرة القرم الأوكرانية في 18 مارس/ آذار 2014.

في شبه الجزيرة، التي تضمّ غالبية ساحقة من الأوكرانيين من أصول روسية، يرى كثر أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان يمهّد عملياً لـ"إحياء الإمبراطورية الروسية".

لم تتعلّق الحرب أصلاً بمنطقة دونباس، التي أُعلن عن قيام جمهوريتين مستقلتين من طرف واحد فيها، ولا بـ"الدفاع عن الحدود الإدارية" للمنطقتين في مواجهة الجيش الأوكراني.

بوتين كان واضحاً بتكراره مراراً أن انضمام أوكرانيا إلى حلف الأطلسي، سيدفعها إلى الاستنجاد بالمادة الخامسة من ميثاق الحلف، لتحرير القرم من الروس. هنا جوهر النزاع.

القرم الروسية والسوفييتية

في التاريخ الحديث، تُعتبر القرم جزءاً طبيعياً لروسيا القيصرية، ثم الاتحاد السوفييتي، لسببين جوهريين. السبب الأول، هو الموقع الاستراتيجي لشبه الجزيرة في البحر الأسود، والتي كانت تُشكّل نقطة انطلاق للروس نحو المياه الدافئة في البحر المتوسط، فضلاً عن أن السيطرة عليها يسمح لموسكو ببسط سيطرتها على أجزاء واسعة من البحر، خصوصاً أن أسطول البحر الأسود الروسي يتخذ من مدينة سيفاستوبول الرئيسية في القرم مركزاً له.

والسبب الثاني، إدراك موسكو أن أوكرانية القرم تعني انخراطاً مسلّحاً غربياً في البحر الأسود، بما يجعل سوتشي أولاً، ثم باقي المدن الروسية ثانياً، شمالي القوقاز، تحت المراقبة العسكرية الغربية، فضلاً عن تأثر الإمدادات النفطية والغازية الروسية من البحر إلى أوروبا، في حال انتشار قوات غير روسية في البحر.

أما في التاريخ القديم، فإن شبه جزيرة القرم كانت ساحة لتطاحن الإمبراطوريات والشعوب والإثنيات، خصوصاً السلافية والتركية واليونانية والخزرية والتتار، قبل أن يفرض الروس سيطرتهم عليها في عام 1783.

وفي الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، احتلت ألمانيا النازية القرم بين عامي 1941 و1944، قبل أن يحررها السوفييت. واشتهرت المنطقة بتنظيم مؤتمر يالطا، بين 4 فبراير/ شباط 1945 و11 منه، الذي شارك فيه الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل، بالإضافة إلى الجنرال الفرنسي شارل ديغول.

ومع أنها متجذّرة في الأدبيات الروسية، إلا أن السوفييت قرروا في 19 فبراير 1954، ربط القرم بأوكرانيا إدارياً، ضمن جمهوريات الاتحاد السوفييتي، معللين السبب بـ"القواسم المشتركة والعلاقات الاقتصادية والثقافية الوثيقة بين منطقة القرم وجمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفييتية".


بوتين: قرار إعادة توحيد شبه جزيرة القرم كان صحيحاً

وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، واستقلال الدول الاشتراكية السابقة، توجّس سكان شبه الجزيرة من التحولات، قبل الاتفاق مع كييف على البقاء في إطار دولة أوكرانية مستقلة، لكن التوترات استمرت على خلفية محاولة كييف ضبط الإيقاع السياسي للقرم، ومنعها من الحصول على حكم ذاتي.

وأدى ذلك إلى حصول اضطرابات سياسية عدة، في ظلّ إمساك كييف بالمفاصل الأساسية للقرم. غير أن التبدلات العميقة التي طغت في الأوساط الأوكرانية، بدءاً من شتاء 2004 ـ 2005، مع قيام "الثورة البرتقالية" ضد تزوير الانتخابات الرئاسية، التي فاز بها المرشح المفضّل من روسيا فيكتور يانوكوفيتش، قبل أن تنتهي الاحتجاجات بتكريس المحكمة العليا فوز منافسه فيكتور يوتشنكو.

وفي فبراير عام 2014، عادت التوترات مع تأجيل يانوكوفيتش، الذي انتُخب رئيساً في عام 2010، توقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، ما دفع الأوكرانيين للنزول إلى الشارع وإطاحته، ثم رفع شعارات معارضة لروسيا ومطالِبة بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.

في غضون ذلك، تحرّكت المناطق الأوكرانية التي يوالي بعض سكانها روسيا، ومنها شبه جزيرة القرم ومنطقة دونباس. وتسارعت الأحداث، فأعلن البرلمان الأوكراني حلّ برلمان شبه جزيرة القرم في 15 مارس 2014، عشية استفتاء تمّ في اليوم التالي وأدى إلى إبداء 96.77 في المائة من سكان القرم رغبتهم في الانضمام إلى دولة روسيا، وهو الأمر الذي تمّ بموجب عملية روسية في 18 مارس من العام نفسه.

وفي 9 مايو/ أيار 2014، زار بوتين القرم، ملقياً خطاباً مشحوناً بالعواطف والتاريخ، لتأكيد روسية شبه الجزيرة، وسط رفض عالمي لخطوة موسكو.

بعدها، باشر بوتين خطوات إدارية واقتصادية لربط القرم بروسيا، وآخرها كلامه، أمس الخميس، عن أن موسكو "تعزز مشاريع البنى التحتية في شبه جزيرة القرم والبرامج الخدمية وتسعى لتعزيز الاقتصاد"، وشدّد على أن "قرار إعادة توحيد شبه جزيرة القرم كان صحيحاً، ويكفي النظر لما يحدث في دونباس لإدراك ذلك".

إلا أن الغرب فرض عقوبات على روسيا بسبب فعلتها، لا تزال قائمة حتى اليوم، وهي غير تلك التي فُرضت وتُفرض مع بدء الغزو الروسي لأوكرانيا.

وفي الذكرى الثامنة لإقدام روسيا على عملية الضمّ، التي تحل اليوم الجمعة، متزامنة مع دخول الحرب الروسية على أوكرانيا يومها الـ23، لا تزال روسيا تضع الاعتراف الأوكراني بسيادتها على شبه الجزيرة ضمن شروطها لوقف إطلاق النار، وسط تشكيك في واقعية ذلك حتى لو تسنى لموسكو إسقاط الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالقوة، وزرع حكومة موالية لها في كييف.

وبعد مرور ثماني سنوات على ضم القرم في 18 مارس 2014، لم يعترف بالسيادة الروسية في القرم سوى عدد من الدول غير المؤثرة والنائية عن الساحة، مثل سورية وأفغانستان وكوريا الشمالية وكوبا، بالإضافة إلى بيلاروسيا، التي اعترف رئيسها ألكسندر لوكاشينكو بانضمام القرم إلى روسيا تحت ضغوط موسكو في نهاية العام الماضي.

ومن اللافت أن اعتراف لوكاشينكو بالسيادة الروسية في القرم جاء في حوار تلفزيوني مع الإعلامي الروسي الموالي للكرملين دميتري كيسيليوف، بعد محاولة التهرب من الإجابة المباشرة أولاً.

مع العلم أنه سبق للرئيس البيلاروسي أن ربط اعترافه بالقرم جزءاً من الأراضي الروسية باعتراف آخر الأوليغارشيين (طواغيت المال) الروس بذلك وبدئهم توريد منتجاتهم إلى القرم.

مخاوف من العقوبات في القرم

وبحلول اليوم، لم تفتتح حتى أكبر المصارف الحكومية الروسية، مثل "سبيربنك" و"في تي بي"، فروعاً لها في القرم، خشية من فرض عقوبات أميركية وأوروبية عليها، وسط تساؤلات حول ما إذا كانت العقوبات الغربية الحالية غير المسبوقة على المصارف الروسية ستعجل عملية توسعها في شبه الجزيرة.

وذكرت صحيفة "كوميرسانت" الروسية، أمس الخميس، أن نائب وزير التنمية الاقتصادية الروسي سيرغي نازاروف وجّه رسالة إلى رؤساء عشرة مصارف كبرى، من بينها تلك الخاضعة للعقوبات الجديدة، اقترح فيها النظر في توسيع أعمالهم في القرم، معتبراً أن "تطبيق العقوبات لا يخلق مخاطر جديدة فحسب، وإنما أيضاً فرصاً جديدة".


تطبيق العقوبات لا يخلق مخاطر جديدة فحسب، وإنما أيضاً فرصاً جديدة

وعلى عكس السنوات الماضية، قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عدم التوجه اليوم إلى القرم ولا إلى الحفل الموسيقي بمناسبة ذكرى الضم في موسكو، وفق ما أوضحه المتحدث الرسمي باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف، مرجعاً ذلك إلى أن الرئيس يقضي أغلب الوقت في العاصمة على خلفية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، متلقياً تقارير بانتظام.

وفي هذا الإطار، يعتبر الصحافي الأوكراني فيتالي بورتنيكوف أن بوتين أخطأ في حساباته عندما راهن على نيل اعتراف دولي بـ"احتلال" القرم، متوقعاً أن يعجل عزل روسيا بفرض العقوبات الغربية الجديدة عملية عودة شبه الجزيرة إلى السيادة الأوكرانية.

ويقول بورتنيكوف في حديثٍ مع "العربي الجديد": "أخطأ بوتين في حساباته عندما توقع أن العالم سيتقبل، طال الزمن أم قصر، احتلال القرم التي أصبحت في الواقع في وضع بلدان البلطيق (لاتفيا وليتوانيا وإستونيا) بعد دمجها في الاتحاد السوفييتي بالقوة في عام 1940. لم تعترف العديد من الدول بذلك الضم، ولكنها لم تقم أيضاً بأي أعمال حازمة لمساعدة شعوب البلطيق في استعادة استقلالها".

وحول تقديره للموقف الحالي للمجتمع الدولي من قضية القرم، يضيف: "لا تزال القرم أرضاً أوكرانية على الخرائط السياسية في العالم أجمع، ما يعني، وفق اعتقادي، أن العالم يترقب تدهور وضع النظام السياسي الروسي لاستعادة العدالة. بمجرد ضم القرم ومدينة سيفاستوبول إلى روسيا، بدأ العد التنازلي لعودتهما إلى السيادة الأوكرانية وليس للاعتراف بروسية القرم".

احتمالات عودة القرم لأوكرانيا

ويتوقع بورتنيكوف أن يساهم عزل روسيا اقتصادياً نتيجة للعقوبات الغربية في استرداد القرم، قائلاً: "هناك سبيلان لا ثالث لهما لتسوية قضية القرم، أولهما اختفاء النظام البوتيني، وثانيهما اختفاء الدولة الأوكرانية. أعتقد أن بوتين يدرك ذلك جيداً، ولذلك يقوم جيشه بتدمير أوكرانيا، بينما يطالب دبلوماسيوه كييف بالاعتراف الطوعي بضم أرض أوكرانية"، ويعتبر أن بوتين يقوم عبر مواجهته أوكرانيا بتدمير نظامه، قائلاً إن انهياره "سيؤدي إلى البت في مسألة عودة القرم بلا حرب وبلا بوتين".


أخطأ بوتين في حساباته عندما توقع أن العالم سيتقبل احتلال القرم

من جانب آخر، يشير مدير عام مركز المعلومات السياسية في موسكو أليكسي موخين إلى أن روسيا لم تبحث يوماً عن نيل اعتراف دولي بسيادتها في القرم، معتبراً أن عملية الضم تمت مع مراعاة الإجراءات القانونية.

ويقول موخين في حديثٍ مع "العربي الجديد": "تحل ذكرى انضمام القرم إلى روسيا في السنة الحالية بأجواء غير احتفالية، ولكن تلك العمليات التي بدأت بالقرم قبل ثماني سنوات مستمرة حتى الآن".

ويقلل من أهمية ما يقول إنها ادعاءات أوكرانية وغربية بأن ضم القرم لم يكن إجراء مشروعاً، مضيفاً: "وافقت روسيا على انضمام القرم إليها وفقاً للقانون، وأجري استفتاء تقرير المصير، ولم يصدر أي حكم قضائي دولي بعدم مشروعية هذه العملية. القرم اليوم هي نموذج لما كان يمكن لأقاليم أوكرانية أخرى أن تكون عليه".

وكانت روسيا قد ضمت القرم بعد موجة من الاضطرابات في كييف وموافقة مجلس الاتحاد (الشيوخ) الروسي على استخدام القوات الروسية في أوكرانيا وإجراء استفتاء تقرير المصير في شبه الجزيرة ذات الأغلبية الناطقة بالروسية.

وبعد إعلان استقلال جمهورية القرم عن أوكرانيا بشكل أحادي الجانب، وقّعت القرم على اتفاقية الانضمام إلى روسيا في مثل هذا اليوم من عام 2014، وسط تنديد غربي وأوكراني.

وفي حوار سابق مع "العربي الجديد"، اعتبر رئيس لجنة شؤون السياسة الخارجية في الرادا العليا (البرلمان الأوكراني)، أولكسندر ميريجكو، أن عودة القرم ودونباس (إقليمي لوغانسك ودونيتسك) إلى سيادة كييف واستعادة وحدة الأراضي الأوكرانية هي مجرد "مسألة وقت"، من دون تحديد تصوّره لكيفية حدوث ذلك وموعده.