تتوجّه الأنظار، بعد تشكيل الحكومة التونسية وتمتّعها بالأغلبية المريحة في البرلمان، إلى برنامج العمل الذي سيلتزم بتنفيذه الحبيب الصيد وفريقه الوزاري خلال المرحلة المقبلة. ويعدّ البرنامج المسألة الجوهريّة التي ستُحاسب الحكومة على ضوئها، إذ سيقيّم أداؤها بشكل حازم، ليس فقط من المعارضة داخل البرلمان أو خارجه، ولكن الأهم من التونسيين الذين تبدو عليهم علامات الإرهاق والخوف من المستقبل.
ولم يتأخر الصيد في تحديد الملامح العامة لبرنامج حكومته عند عرضها على البرلمان، بعدما حرص على استشارة الأحزاب والمنظمات الاجتماعية الكبرى وبعض الإعلاميين والشخصيات الوطنية، منذ تعيينه رئيساً للحكومة. وسبق له أن عرض على مختلف هذه الأطراف، مسودة أولى، حاول أن يلخّص فيها أبرز اهتماماته، وذلك بعدما أنهى النسخة السابقة من تشكيل الحكومة. وطلب يومها من الجميع تزويده ملاحظاتهم واقتراحاتهم.
ويبدو أنّ من بين العوامل التي دفعته إلى هذه الاستشارة الواسعة، مطالبته من أحزاب عدّة، منذ اللحظة الأولى، بتحديد أولوياته ورؤيته لكبرى الملفات الساخنة المطروحة على الساحة المحليّة، ومن بينها "الجبهة الشعبية" وكذلك حزب "آفاق تونس". وعلى الرغم من أخذه الملاحظات بعين الاعتبار، لكنّ ما عرضه الصيد على النواب لم يقنع الكثيرين، بما في ذلك الأحزاب المشاركة في الحكومة. ويعتبر بعض ممثليها أنّ البرنامج الذي قدّمه الصيد، تنقصه الجرأة والوضوح الاستراتيجي، وغابت عنه إثارة القضايا الكبرى المطروحة على الساحة المحلية بأسلوب عميق ومدعوم بالأرقام والقرارات البديلة.
وفي هذا السياق، اعتبر النائب عن الجبهة الشعبية، وزوجة محمد البراهمي، مباركة عواينية، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أنّ "برنامج حكومة الصيد استنساخ لبرنامج نظام بن علي الاستبدادي، الذي اندلعت بسببه الثورة التونسية". وتشير إلى أنّ "تركيبة حكومة الصيد هي توليفة من بقايا النظام التجمعي الفاشل وحكومة الترويكا، وبالتالي لن تتمكن الحكومة من أخذ القرارات الجريئة والثورية".
ويمكن ملاحظة قسمين رئيسيين في برنامج الصيد. يتعلّق الأول بأولويات عاجلة سيتم التركيز عليها، خلال المائة يوم الأولى، التي تخضع خلالها الحكومة للاختبار. وفي مقدمة الإجراءات العاجلة التي سيتم اتخاذها "استكمال مقوّمات الأمن والاستقرار". ويعتقد رئيس الحكومة أن ذلك يتحقق من خلال تصويت البرلمان على قانون مكافحة الإرهاب، وتعزيز الضمانات التشريعيّة لحماية الأمنيين وتحسين ظروف عملهم"، مؤكداً أنّه "لا مكان للمنظمات الموازية للدولة ولا مجال للمسّ بمؤسّسات الدولة مع ضمان حقّ التظاهر والاحتجاج السلمي من دون إغفال أهمية حماية هيبة الدولة".
وتطال الأولوية الثانية الحدّ من الأسعار التي تقضّ مضاجع المواطنين، وخصوصاً ذوي الدخل المحدود. وتعهد الصيد في هذا السياق بمواجهة الاحتكار والتهريب والسوق الموازية، في موازاة تعهده بمعالجة أزمة النظافة، والقضاء على ظاهرة الفضلات التي سمّمت الحياة اليومية لمعظم التونسيين. كما تعتزم الحكومة إتمام إنجاز المشاريع المعطلة في مختلف محافظات البلاد، إلى جانب زيادة منحة العائلات ذات الدخل المحدود وتسوية أوضاع المزارعين.
ويتعلّق القسم الثاني من برنامج الحكومة بما يسمى بالإصلاحات الهيكلية في مجالات حيويّة، وهي الاستثمار، والتنمية الجهوية، والمنظومة الجبائية، والقطاع المالي، والنهوض بالمشاريع الكبرى في الولايات الداخلية، وإنقاذ المؤسسات العمومية، وترشيد منظومة الدعم وإصلاح أنظمة التأمين على المرض والصحة.
وتعهّد الصيد على المستوى الهيكلي باستحداث مجلس أعلى للحوار الاجتماعي بهدف "الحفاظ على مناخ السلم الاجتماعي والتفرغ للعمل والإنتاج".
ويعتبر كثيرون أنّ هذه الوعود هي مجرد تعبير عن نوايا حسنة، تنقصها الآليات الكفيلة بتحقيقها، في موازاة انتقاد خطاب الصيد الذي رآه البعض "فضفاضاً" ولا يرتقي إلى مستوى البرنامج الحكومي في مرحلة دقيقة وخطيرة لا تزال تمر بها البلاد. ولم يتردّد أحد كوادر "الجبهة الشعبية"، حمة الهمامي، في القول، إنّ الجبهة لن تكتفي بعدم منح الثقة لحكومة الصيد، بل ستعمل، أيضاً "على مقاومتها".
وبات واضحاً، أنّ الحكومة الجديدة لا تملك، حاليّاً، برنامجاً متكاملاً ومتفقاً عليه من الأحزاب المكونة لها، حتّى أنّ أطرافاً من حزب "نداء تونس"، تعتبر أن ما جاء في خطاب الصيد، لم يكن سوى تشويه لبرنامج الحزب الذي اعتبروه "ثريّاً ومتكاملاً". مع ذلك، فإن المكونات الرئيسية للائتلاف الحكومي أصرت على منح الثقة للحكومة، واعتبرت أن معضلة البرنامج ستتم معالجتها وتدارك النقائص فيها مع انطلاق عملها، وهي تتوقع أن تصدر وثيقة جديدة، قريباً، تتضمن الخطوط العريضة والتفصيلية للبرنامج النهائي.
ولا شك أنّ الصيد كان في الفترة الماضية، يخوض سباقاً مع الوقت، لتجاوز عقبة الاختبار السياسي لحكومته، وهو ما جعله يعطي الأولوية للحقائب على حساب البرنامج الذي سيتم تنفيذه. ومهما تكن الأسباب والدوافع، فالمؤكد أن تونس تحتاج إجراءات جذريّة تعيد للرأي العام الأمل في المرحلة المقبلة، لم يتضمّنها خطاب الصيد، فهل تزيل الأيام المقبلة هذه الغمامة ويتمكن الشركاء من تصحيح وضعهم بعد أن امتطوا القطار وهو يسير؟