سُلمت نسخة الدستور الجديد إلى الرئيس التونسي قيس سعيّد في الموعد المحدد، يوم الإثنين الماضي في يونيو/حزيران. لكن منذ تلك اللحظة، أعلن سعيّد أن المسودة ستخضع لتعديلات، وهو ما دلّ على أن الجدل الذي دار إعلامياً وسياسياً، وكشف عن اعتراضات جوهرية أبداها مختصّون في القانون الدستوري، إلى جانب أطراف المعارضة، قد تجعل رئيس الدولة يتدخّل لتغيير بعض المسائل. لكن بقطع النظر عن ذلك، سيكون له حق الحسم النهائي، بحكم أن الدستور سيحمل اسمه، ولن تمرّ أي كلمة فيه أو فصل، إلا بموافقته، وبعد أن تعكس أفكاره وقناعاته.
جدل بشأن موقف سعيّد من الإسلام كدين للدولة
في انتظار التعديلات التي سيتم إدخالها خلال الأيام العشرة المقبلة، وقبل الكشف عن تفاصيل المسودة، يتواصل التصعيد السياسي والاجتماعي ضد رئيس الدولة الذي صرح بأن الدستور الجديد سيكون خالياً من الإشارة إلى الإسلام باعتباره دين الدولة، بحجة أن "الحديث عن دولة دينها الإسلام لا يليق بدولة تسعى إلى تحقيق مقاصد الإسلام"، وأن الدولة "ذات معنوية كالشركة أو المؤسسة، والشركة لن تمر على الصراط" يوم القيامة. وأكد سعيّد على أنه سيتم الحديث في الدستور الجديد عن "أمة دينها الإسلام".
وعلى الرغم من أن هذه المسألة قد حُسمت في دستور 2014، إلا أنّ الرئيس أصرّ على حذف الفصل الذي وضعه الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة في دستور عام 1959، بحجة أنه يتضمن "خطأ معرفياً"، ومدخلاً لتديين الدولة، حيث استغله الإسلاميون لتمرير مشروعهم العقائدي، على الرغم من أن حركة "النهضة" عملت بقوة على استبداله بفصل مختلف في صيغته ودلالاته.
أربك الرئيس سعيّد الشخصيات العلمانية التي سايرته في مساره
هذا الأمر جعل أغلب العلمانيين حذرين تجاه الصيغة الجديدة المقترحة من قبل الرئيس، لأنه لا يجاريهم في دعوتهم إلى إبعاد الإسلام عن الشأن العام، إنما يلتقي معهم في وسط الطريق، لكي يختلف في ما بعد حول دور الإسلام الذي يعتقد بأنه "منظومة كاملة". ويستند في هذا الأمر على آلية مقاصد الشريعة التي تعتبر السند الرئيسي لمختلف حركات الإصلاح الديني في تونس وفي العالم الإسلامي.
لهذا السبب، أربك الرئيس سعيّد الشخصيات العلمانية التي سايرته في مساره، لكنها تجد نفسها اليوم في مأزق وهي تتابع تأكيده على فهم مختلف لدور الدين في الشأن العام، من خلال فكرة الأمة ذات الأغلبية المسلمة. هذا الفهم، من شأنه أن يعيد الإشكال من جديد من النافذة، بعد أن تم "التخلص" منه عبر إخراجه من الباب. بناءً عليه، سيكون موقع الإسلام في الدستور من بين محاور الجدل الذي سيتواصل خلال الأيام والأسابيع المقبلة.
الفصل بين السلطات في الدستور التونسي الجديد
المسألة الأخرى التي سيتضمنها مشروع الدستور البديل، تتعلق بالفصل بين السلطات، وهو مبدأ أساسي في الأنظمة الديمقراطية. غير أنّ الرئيس سعيّد لا يؤمن بفكرة السلطات المستقلة عن بعضها، ويعتبر أن السلطة الوحيدة المشروعة هي سلطة الشعب. أما البقية، فهي وظائف لا غير، يتم إنجازها ضمن أجهزة الدولة الواحدة.
يعتبر هذا التأويل من المسائل الجوهرية الخلافية بين الرئيس سعيّد وعدد كبير من خبراء القانون الدستوري، إلى جانب الأغلبية الساحقة من القضاة والأوساط الديمقراطية. فالتنصيص على ذلك في الدستور الجديد، يعتبره المعارضون "انحرافاً بالسلطة" وانتكاسة نحو الخلف، ورجوعاً إلى مناخات الاستبداد.
سعيّد لا يؤمن بفكرة السلطات المستقلة عن بعضها
الباب الاقتصادي في مقدمة دستور سعيّد
أخيراً، اعترض الكثيرون على وضع الباب الاقتصادي في مقدمة دستور سعيّد، ورأوا في ذلك قلباً للأولويات، ومخالفةً لمختلف دساتير العالم، في حين اعتبر الرئيس وأنصاره ذلك، إبداعاً يعكس تصوراً جديداً من شأنه أن يطلق عجلة الاقتصاد، ويسمح للتونسيين بتحقيق قفزة نوعية في عالم التنمية وفي نسب النمو.
لكن الخبراء غير مقتنعين بالقول إن إعادة ترتيب أبواب الدستور بتقديم الاقتصادي على السياسي، من شأنه أن يعجّل بإخراج البلاد من أزمتها الطاحنة.
كما يعتبرون أن حشو الدستور بعبارات فضفاضة، سيكون بمثابة اللجوء إلى تعويم السمكة، ودعوا إلى ضرورة الاكتفاء بتحديد المبادئ العامة للاختيارات الاقتصادية، وعدم الخلط بينها وبين السياسات الاقتصادية التي اختارتها الحكومة الحالية، بحكم أنها ظرفية ومحكومة بمعطيات وضغوط المرحلة، ولا تستوعب تحديات المستقبل البعيد أو القريب.
الانقسام بين النخب التونسية حول الدستور
هذه ملامح أولى عن مسودة دستور قيس سعيّد في انتظار الكشف عنها في نسختها الأخيرة. وكما كانت طريقة صياغتها مثيرة للجدل، فإن جزءاً من مضامينها المسربة سيزيد من حدة الخلاف والانقسام بين النخب التونسية. فهناك مثقفون ورجال قانون لا يزالون مؤيدين للرئيس سعيّد، ويعتقدون بأنه يسير بالبلاد في الطريق الصحيح.
الخبراء غير مقتنعين بأن تقديم الباب الاقتصادي على السياسي، من شأنه أن يعجّل بإخراج البلاد من أزمتها
فقد قال عالم الاجتماع التونسي محمد كرو، قبل أيام، إن "الإسلام السياسي وضع استراتيجية كاملة لتدمير الدولة، لكنه لم ينجح في ذلك، في حين أن سعيّد ساهم في استعادة سيادة الدولة من خلال حربه على الفساد".
في مقابل ذلك، وصف رئيس "حركة النهضة"، راشد الغنوشي، أخيراً، ما يجري بـ"المسرحية"، واعتبر أن قيس سعيّد "يحاول شرعنة نفسه من خلال صياغة دستور على عجل".
ستكون الأسابيع القليلة المقبلة حاسمة لتحديد مآل هذا الدستور الذي سيبقى مثار جدل بين التونسيين؛ سواء تم إقراره في 25 يوليو/تموز المقبل، موعد الاستفتاء عليه، أم لا. لكن المؤكد أن الأزمة السياسية في تونس تبقى أكبر بكثير من مجرد خلافات حول مسائل دستورية.