نقل السياسيون في تونس صراعاتهم وخصوماتهم إلى قاعات المحاكم، حتى أُغرقت مكاتب القضاة بآلاف المحاضر ومئات الشكاوى، المرفوعة بين النواب والأحزاب والنشطاء، بما يكشف حدّة الاحتقان وشدّة الخلافات الدائرة في المشهد السياسي في البلاد. ويلوّح السياسيون التونسيون يومياً في خطاباتهم بالشكايات، ويتبادلون التهديدات بالسجن والغرامات. وتتمحور غالبية القضايا حول اتهامات بالثلب (الشتيمة) والقذف والادعاء بالباطل والإيهام بجريمة، بالإضافة إلى التزوير والتحايل والسرقة والتمويلات المشبوهة. وتصل حدود التهم إلى الخيانة والعمالة لأطراف وجهات أجنبية. وشهد البرلمان التونسي أخيراً جلسة مطولة خصصت للحوار مع المجلس الأعلى للقضاء، حول سير المرفق القضائي والعدالة في تونس، غير أنها تحولت إلى منبر لكيل التهم للقضاء بالتسييس والانحياز لخدمة أجندات حزبية وتوظيف القضاة لتصفية الخصوم السياسيين.
قرّر حزب "قلب تونس" مقاضاة الرئيس قيس سعيّد بتهمة تتعلق بارتكاب مخالفة انتخابية
واتهم بعض النواب قضاة بتلقي رشاوى وآخرين بخدمة مصالح أحزاب كبرى وقيادات فيها، ما دفع رئيسة مجلس القضاء العدلي مليكة المزاري إلى الرد على اتهامات النواب، داعية إلى احترام هيبة القضاء والبرلمان، وعدم وصف السلطة القضائية بـ"القضاء الأسود"، وإلقاء التهم جزافاً. كما طلبت التوجه للهياكل الرقابية والتأديبية للقضاة وتقديم الشكاوى مرفقة بالحجج والبراهين.
وتنهال يومياً القضايا على المحاكم التونسية، من أقصى البلاد إلى مركزها، وهي لا تفرق عند تقديمها بين رئيس البلاد ورؤساء الحكومات أو الوزراء أو زعماء الأحزاب، وبين مسؤول محلي أو قاعدي في قرية نائية. وفي السياق، أعلنت قيادة حزب "قلب تونس"، أخيراً، عن قرارها مقاضاة الرئيس التونسي قيس سعيّد وتقديم شكاية حول مصادر تمويل 30 صفحة (عبر "فيسبوك") قالت محكمة المحاسبات في 10 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، إنها سوقت له خلال الفترة الانتخابية وقامت بالترويج لصورته، بحسب رئيس كتلة "قلب تونس" أسامة الخليفي.
وتعرف الساحة السياسية المحلية أرقاماً قياسية في الشكايات، حيث تجاوزت القضايا المرفوعة ضد رئيسة "الحزب الدستوري الحر" عبير موسي، العشر قضايا خلال السنة البرلمانية الحالية، وآخرها، قضية رفعها المحامي وأمين عام حزب "المؤتمر" الذي كان يتزعمه الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، بتهمة "الاعتداء على أمن الدولة والارتباط بأجهزة خارجية والتمويل غير المشروع لحزب سياسي". كما قدّمت مجموعة محامين شكاية ضد موسي بتهمة "الثلب والقذف العلني"، على خلفية تصريحها بأنهم "دواعش ومبيضو الإرهاب وذراع تنظيم الإخوان في تونس"، و3 شكاوى أخرى قدمها محامون، من بينهم نواب، في البرلمان عن حركة "النهضة" تتهمها بالضلوع في الإرهاب والتعامل مع أنظمة أجنبية. وتواجه موسي اتهامات أخرى بالتشويه والقذف والعنف المادي والجسدي ضد نواب من كتل "النهضة" و"ائتلاف الكرامة"، إلى جانب قضية رفعها رئيس البرلمان راشد الغنوشي ورئيس ديوانه السابق الحبيب خضر، بتهم تعطيل عمل البرلمان والمرفق العام واقتحام المكاتب والاعتصام فيها.
كما سجلت تونس قضايا منشورة وأخرى لا تزال في طور التحقيق، ضد غالبية رؤساء الحكومات المتعاقبين، حيث تلاحقهم قضايا وتهم بالفساد المالي والإداري، وتهم بتضارب المصالح، إلى جانب تهم بالتورط في اغتيالات سياسية والتورط مع جهات أجنبية والتورط في اعتداءات على المواطنين وقمع محتجين ومتظاهرين. وتلاحق عدد من رؤساء الأحزاب التونسية قضايا سياسية رفعها خصومهم، بصفتهم الشخصية أو باعتبارهم الممثل القانوني لأحزابهم أمام القضاء، على غرار القضية الشهيرة التي تعرف بـ"الجهاز السرّي" ضد حركة "النهضة" وعدد من قياداتها، أو القضايا التي تلاحق زعيم "قلب تونس" نبيل القروي حول شبهات فساد مالي، وهو سُجن بسببها العام الماضي، ولم يتم غلق الملف القضائي بعد.
واعتبر المحلل السياسي التونسي عبد المنعم المؤدب في حديث لـ"العربي الجديد"، أن لجوء الفاعلين السياسيين للتقاضي وترحيل خلافاتهم إلى قاعات المحاكم، ليس في مطلقه ظاهرة سلبية، لاعتبار أن القضاء هو أحد المكونات الأساسية للنظام الجمهوري الديمقراطي، ودوره الفصل في النزاعات بين مختلف الأطراف وبين الفاعلين في السلطتين التنفيذية والتشريعية. لكن الجانب السلبي، بحسب المؤدب، ينبع من طفرة الشكايات والمسارعة للحلول القضائية. واعتبر المحلل السياسي أن اللجوء إلى القضاء يشكل ممارسة ديمقراطية حضارية، حتى وإن عرفت إسرافاً، لكنه يبقى أفضل من حلّ النزاعات بالقنابل والرصاص، كما تعرفه دول وأقطار مجاورة.
يرتبط انفجار القضايا السياسية بعد الثورة التونسية بمناخ الحريات والديمقراطية الذي لم يكن متوفراً
وأوضح المؤدب أن تونس شهدت انفجاراً في عدد القضايا السياسية بفضل حرب الشكايات بين السياسيين والنواب منذ الثورة، وهو ما يفسّر حالة الكبت السياسي في فترة الاستبداد، حيث كان النظام هو من يستعمل سلاح القضاء وسلطته للنيل من خصومه بتلفيق القضايا والتهم السياسية. وفسّر انفجار القضايا السياسية بعد الثورة التونسية بمناخ الحريات والديمقراطية الذي لم يكن متوفراً في السابق، غير أن الإفراط في استعمال حرية التعبير يسقط السياسيين في الثلب والتجريح، كما أن الإفراط في استغلال الحقوق السياسية والديمقراطية قد يقود إلى تعطيل عمل السلطات وتعطل الإنتاج.
ورأى المحلل السياسي أن الصراعات خرجت من فضاءاتها السياسية التقليدية، لتتجاوز أسوار البرلمان الذي يمثل حلبة التدافع السياسي في الديمقراطية، كما استغنت عن منابر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لتستقر في المحاكم. ولفت أخيراً إلى أن تزايد منسوب الاحتقان وتصاعد وتيرة الخلافات الأيديولوجية، وتعالي الفرقاء السياسيين عن الجلوس إلى طاولة الحوار، عمّق الصراعات بينهم، مضيفاً أنه في غياب ضوابط وقواعد لأخلقة الحياة السياسية، سقط الفاعلون في أتون الصراع المتواصل.