بدأ قسمٌ من أنصار الرئيس التونسي قيس سعيّد، ينفد صبرهم بعدما أعياهم الانتظار، وبلغ الأمر ببعضهم أن انتقدوا الرئيس علناً في تعليقات مصورة بثّوها عبر قنوات التواصل الاجتماعي، ولقيت رواجاً واسعاً. وجّه هؤلاء لقيس سعيّد نقداً شديداً في مسألتين، إذ لاحظوا في الأولى عدم إنجازه أي وعد من وعوده منذ قرارات 25 يوليو/تموز الماضي (تاريخ إعلانه عن قراراته الاستثنائية بتجميد عمل البرلمان وإقالة حكومة هشام المشيشي)، على الرغم من مرور أكثر من مائة يوم على انفراده بالسلطة وإمساكه بجميع الصلاحيات في الدولة. أما المسألة الثانية، فهي تتعلق بغياب الرؤية لدى رئيس الجمهورية في مختلف المجالات الرئيسية، سواء الاقتصادية والاجتماعية، أو على صعيد العلاقات الخارجية. وما زاد في تعميق الحيرة في صفوف أنصار سعيّد، دعوة التونسيين من أجل دعم الميزانية العامة بعدما أقرّ الرئيس بوجود أزمة ضخمة تواجهها البلاد في هذا المنعرج الخطير.
بلغ الأمر ببعض أنصار قيس سعيّد أن انتقدوه علناً في تعليقات لهم
ما يطلبه الرئيس من أنصاره ومن الشعب التونسي هو مزيد من الصبر، ويعمل على إقناع الجميع بأن مؤسسات الدولة تسير بشكل عادي في ظل حكومة منسجمة مع رئاسة الجمهورية، وأن تونس اليوم "تصنع التاريخ"، وأن ما يحصل الآن ستكون له تداعيات ضخمة تتجاوز الإطار المحلي لتشمل أيضاً مستقبل العالم. يقول ذلك بكل ثقة وحماس وإيمان، وهو ما جعل جمهوراً من المواطنين يثقون في الرجل، ويستمرون في الدفاع عنه بكل قوة. قد لا يفهم هذا الجمهور جزءاً من خطب الرئيس المتلفزة، لكن لديهم اعتقاد بأنه سينقذ البلاد من "الأشرار" الذين عبثوا بمقدرات البلاد، ونهبوا الدولة والشعب، والذين آن الأوان لإقصائهم ومحاسبتهم، بحسب رواية سعيّد. لهذا السبب، يطالبه جزء من أنصاره بالإسراع في اعتقال رئيس البرلمان المجمدة أعماله، ورئيس حركة "النهضة" راشد الغنوشي وكبار مساعديه في الحركة، إلى جانب أبرز رموز العائلات الكبيرة المتهمة باحتكار الثروات الوطنية. وما يثير حيرة هذا الفريق أن سعيّد لا يزال متردداً في هذا الشأن، ولم يقم بأي خطوة في هذا السياق، وكل ما تمّ حتى الآن لم يتجاوز إيقاف عشرات الأشخاص، إما بشبهة ارتكاب جرائم فساد محدودة الأثر والأهمية، أو بسبب مواقفهم السياسية وآرائهم المناهضة للسياسة الراهنة. فالرئيس مشغول أساساً بتفكيك النظام السياسي القائم تمهيداً لتركيز نظامه البديل، وآخر إجراء اتخذه في هذا الشأن، إلحاق هياكل وزارة الشؤون الاجتماعية بمصالح وزارة الداخلية بما في ذلك البلديات، وبذلك يكون قد شرع عملياً في إلغاء السلطة المحلية التي تعتبر من أهم إنجازات مرحلة ما بعد الثورة.
في الجهة المقابلة، تحاول المعارضة أن تثبت وجودها. لقد ضعف صوتها على مستوى الشارع، وكاد أن يختفي من المسرح السياسي والإعلامي، وهو ما أكد للجميع أنها ضعيفة وغير قادرة على تعديل موازين القوى حالياً. لهذا السبب، وجهت حملة "مواطنون ضد الانقلاب" دعوة للمشاركة في وقفة احتجاجية في الساحة القريبة من مقر البرلمان المغلق، في 14 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي (يوم السبت المقبل)، من أجل إثبات أن الحركة الاحتجاجية لم تمت، وأنها مستمرة. ويبدو أن هذه الوقفة ستكون في حجم الوقفات السابقة أو أكثر مشاركة. فالذين يقفون وراءها يحاولون الاستفادة من القرارات الأخيرة التي تعتبر ماسة بالحريات، مثل إصدار بطاقة جلب ضد الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي، أو اعتقال أحد المحامين من قبل المحكمة العسكرية. فالرسالة الأساسية التي تريد المعارضة إبلاغها إلى العالم تتمثل في أن البلاد منقسمة، وأن "الديمقراطية في خطر"، على الرغم من تحمل هذه المعارضة جزءاً كبيراً من مسؤولية السنوات العشر العجاف السابقة.
وإذا كان صوت المعارضة ضعيفاً إلى حد ما في الداخل نتيجة الخلافات العميقة بين مختلف مكوناتها الحزبية والجمعياتية، إلا أنها تبقى مسموعة على الصعيد الخارجي. إذ تكفي الإشارة إلى "قمة الديمقراطية" في شمال أفريقيا التي وعد الرئيس الأميركي جو بايدن بعقدها، وكان يتوقع أن تكون تونس هي البلد المقصود باحتضانها، غير أن السفير الأميركي السابق غوردون غراي أكد أن الجمهورية التونسية لن توجه إليها الدعوة للمشاركة في هذه القمة التي سيكون موعدها 10 ديسمبر/كانون الأول المقبل في سياق الذكرى السنوية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ولا يستبعد أن توجه الدعوة رمزياً إلى المعارضة التونسية في غياب الرئاسة والحكومة. هذا التغييب المقصود للدولة التونسية، يتضمن أكثر من دلالة، ومن شأنه أن يزيد من تعميق عزلة البلاد الدبلوماسية.
يطالب جزء من أنصار سعيّد، الرئيس، بالإسراع في اعتقال راشد الغنوشي
وعلى الرغم من أهمية الجانب السياسي، إلا أن التحدي الرئيسي الجاثم على تونس هو وضعها المالي الصعب، والذي يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم. فالمحادثات مع صندوق النقد الدولي لم تنطلق بعد على الرغم من اقتراب نهاية العام، وهو ما جعل بقية المؤسسات الدولية تنظر بعين الشك في الحالة الراهنة للاقتصاد التونسي. حتى الدول الخليجية التي راهن عليها الرئيس وكان يعتقد أنها ستسارع نحو نجدته، لا تزال تفكر، ولا تزال المحادثات معها مستمرة من دون التوصل إلى أي اتفاق. وجعل كل ذلك سعيّد يرفع شعار "الاعتماد على الذات" في ظرف انهارت فيه الطبقة الوسطى وارتفعت نسبة الفقر في البلاد.
هناك خشية حقيقية من احتمال حصول انهيار اقتصادي ومالي سريع في تونس خلال الأشهر المقبلة، وهو ما دفع بكل من منظمة رجال الأعمال واتحاد النقابات إلى الدخول في محادثات ثنائية، في غياب حوار اجتماعي تقوده كما جرت العادة الحكومة بتشجيع من رئيس الدولة. وتأتي أهمية هذه المحادثات الثنائية بعدما شهدت العلاقة بين الطرفين تصعيداً خطيراً بسبب المطالب المالية لعمال القطاع الخاص. لقد أدرك قادة هاتين المنظمتين الهامتين مسؤوليتهم الكبرى في منع البلاد من الانزلاق نحو صراع مفتوح من شأنه أن يستنزف ما تبقى لديها من قوة لمواصلة السير. لقد وضعهما محافظ المصرف المركزي مروان العباسي أمام الصورة الحقيقية للمخاطر التي تحيط بتونس، خصوصاً في غياب الرؤية لدى الحكومة الجديدة التي لا تزال من دون أولويات ولا تملك برنامجا تفصيليا لمواجهة السنة الجديدة.