حملت الذكرى العاشرة للثورة التونسية (اندلعت في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 مع إحراق محمد البوعزيزي نفسه في سيدي بوزيد)، في طيّاتها حيرة ضخمة وأسئلة مقلقة، عن الأسباب العميقة التي حالت دون خروج تونس من عنق الزجاجة. لا أحد يملك إجابة مقنعة، ولا أحد يستطيع أن يقدم برنامجاً لإيقاف نسق التراجع، يتضمن حلولاً عملية قابلة للتنفيذ في حدود الشروط الموضوعية المتوفرة في البلاد. لماذا تحول الأمل الكبير إلى "كابوس" مزعج؟ هل ما حصل في تونس هو نتاج عوامل موضوعية يمكن فهمها وتفكيكها لمعرفة التحول الكبير الذي حصل لمزاج التونسيين، أم أن "التآمر على التجربة" قد نجح في جعل الثورة المضادة تحقق أهدافها؟
تسعى بعض الأطراف إلى التسويق لفشل الثورة
الذين يعلنون صباحاً ومساءً أن الثورة فشلت، وأن الأوضاع الصعبة التي تمرّ بها البلاد دليل قاطع على فساد الديمقراطية وعجزها عن تحقيق الرفاه والأمن للتونسيين، ليسوا سوى أطراف حريصة على إيقاف التجربة، على الرغم من قصر عمرها ومحاولة حشر المتمسكين بها في زاوية ضيقة. هناك رغبات معلنة للقضاء على الحلم الثوري، وتقديمه كمشروع خيالي، لا أمل فيه ولا يرجى منه خيراً.
هنا، سُجّلت نسبة تشاؤم عالية لدى التونسيين، في ضوء ما تنشره استطلاعات الرأي، وآخرها ما قامت به "سيغما كونساي" التي اعتبرت أن 67 في المائة من التونسيين، يرون أن الوضع بعد الثورة أسوأ مما كان عليه قبلها، إلا أن فرصة الخروج من النفق لا تزال قائمة ومتاحة. فتونس لم تتحول بعد إلى دولة فاشلة، ولم تصل إلى مرحلة العجز الكامل وإعلان الإفلاس. وهو ما يؤكده الرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي، بقوله إن "الثورة حققت نصف أهدافها، لكن في كل الأحوال نحن أفضل من العديد من الدول". هذا النصف الثاني الممتلئ من الكأس الذي يحرص الجميع على طمسه وإهماله، يصرّ العقلاء والخبراء وأصدقاء تونس على إبرازه، من خلال التأكيد على تمتع البلاد بكل مقومات الصمود، وتجاوز حالة التعثر والارتجال التي تمت معاينتها خلال السنوات العشر الماضية. ويعتبر هؤلاء أن بداية التصحيح تكون بتقييم التجربة، والوقوف عند الأخطاء الجسيمة التي حصلت، ثم وضع خريطة طريق واضحة، وتعبئة الموارد البشرية والمالية الضرورية، إلى جانب توفر إرادة سياسية وقيادة ذكية ومتواضعة وحازمة.
في هذا السياق، تتعدد المبادرات السياسية في كل اتجاه، مع بروز محاولات لإعادة الفرز ورسم خريطة سياسية بديلة. وفي الوقت الذي يسعى فيه الحزب "الدستوري الحر" نحو استغلال حالة التشاؤم الشعبي من أجل توسيع قاعدته وتجنيد الرأي العام استعداداً للانتخابات البرلمانية المقبلة المقررة في عام 2024، محاولاً الاستنجاد بمنظمات دولية مثل اليونسكو في المعركة ضد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وحزب "النهضة" إلى جانب بقية الإسلاميين، تعمل جماعات سياسية أخرى على إعادة بناء أو ترميم صفوفها في مسعى لتجاوز الأخطاء الكبرى التي ارتكبتها خلال المرحلة السابقة. الوجوه نفسها تعود من جديد لتعيد البناء نفسه الذي سبق وأن أدت دوراً في إسقاطه. تغيرت أسماء المبادرات، لكن الخوف لا يزال قائماً من احتمال تكرار المشاهد السابقة.
قُدمت 8 مبادرات من أجل تنظيم حوار بين الأطراف الفاعلة
وسبق أن قدّمت جهات عدة 8 مبادرات، تمحورت حول ضرورة التعجيل بتنظيم حوار وطني لجمع الأطراف الفاعلة في البلد. وفي مقدمة هذه الدعوات مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل، التي بدت الأكثر تماسكاً وشمولية من غيرها. لكن على الرغم من مكانة الاتحاد ودوره السابق على أكثر من صعيد، إلا أن مبادرته اصطدمت برئيس الجمهورية قيس سعيّد، الذي يفترض فيه أن يتولى احتضان هذا الحوار والإشراف عليه. فقد ردّ الرئيس على مبادرة الاتحاد بالتأكيد مجدداً على أن الحوار "لا يمكن أن يكون على شكل الحوار السابق كما لا يمكن أن يكون هدفاً في حدّ ذاته، بل يجب توفير كل الأسباب والشروط لنجاحه"، مؤكداً مرة أخرى على أنه "لا حوار مع الفاسدين"، وأن هؤلاء "مكانهم قصور العدالة". ومن دون ذكر هوية المتهمين، اعتبر سعيّد أن "العديد من الخونة والعملاء الذين باعوا ضمائرهم بالعملة التي تأتي خلسة، لكننا نعلم من يريد ضرب الدولة من الداخل". وهو ما يعني أن مبادرة الاتحاد لن تكتسب الصبغة الرسمية، وما على قادته سوى سحب المبادرة أو البحث عن جهة أخرى تقود هذا الحوار.
إذا استمرّ رئيس الجمهورية في رفض جمع القوى السياسية والاجتماعية حول طاولة واحدة، فإن المأزق سيزداد حدة وخطورة. تونس في حاجة إلى حل، والحل لن يأتي عبر الإقصاء الذي من شأنه أن يعمّق التشتت والفراغ السياسي، ويدفع البعض نحو اللجوء إلى الخطاب العدمي والحلول القصوى، أو وضع التونسيين بين خيارين أحلاهما مر. وهنا يلخّص، أحد رموز حزب "الوطنيين الديمقراطيين الموحد" اليساري، منجي الرحوي، الأمر بالقول: "إما بناء تونس الجديدة أو الغرق في تونس البالية والرجعية".