بعد الإعلان عن التقرير الذي أعدّته وأصدرته منظمة العفو الدولية حول "نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين نظامٌ قاسٍ يقوم على الهيمنة وجريمة ضد الإنسانية"، يوم الأول من الشهر الحالي فبراير/شباط 2022، تفاوتت ردود الأفعال بشكل كبير ومتسارع، ولا يزال صداه حتى هذه اللحظة.
لن أتحدث في هذه المقالة عن ردود الأفعال المنتظرة من قبل حلفاء الدولة الاستعمارية، الذين رفضوا استخدام مصطلح "الفصل العنصري"، بحجة أن إسرائيل دولة "ديمقراطية"، أو أنها تدعم الدولة اليهودية الوحيدة، مثل موقف الولايات المتحدة الأميركية، الداعم الأكبر للنظام الاستعماري، كما في تصريح الخارجية الأميركية: "ألا يُحرم الشعب اليهودي من حقه في تقرير المصير، خاصة أن إسرائيل الدولة اليهودية الوحيدة في العالم، ويجب علينا ضمان عدم تطبيق معايير مزدوجة". كذلك موقف بريطانيا وأستراليا، أو ردود الأفعال لبعض الدول التي أعربت عن أنها تولي التقرير العناية اللازمة وستدرسه، مثل موقف فرنسا والاتحاد الأوروبي.
نحن اليوم كفلسطينيين أمام محورين: الأول يتمثَل في الحكومات الغربية تحديدا وتحالفاتها مع النظام الاستعماري والفصل العنصري، التحالفات العسكرية معها التي تنطلق من مركزية إسرائيل في هذا العالم المتغيّر، حيث يمتد دورها إلى جوانب كثيرة تستفيد منها الأنظمة والحكومات: من برامج التجسس، مثلما رأينا في قضية برنامج "بيغاسوس" الذي أنتجته شركة NSO الإسرائيلية (والتي استُخدمت، بالمناسبة، للتجسس على شخصيات من المنظمات الحقوقية الفلسطينية)، إلى بيع أسلحة وتدريبات شرطيّة على تكتيكات القمع، ونظم مراقبة شاملة، وتمييز وجوه، ورصد المواقع الإلكترونية وغيرها. هذه كلها مجالات ترتكز إليها "شرعية" وجود إسرائيل في العالم اليوم، وتسمح لها بالانسحاب التام من أي منظومةٍ قيمية كانت. ترفض إسرائيل في هذا العصر المشاركة في كل مساحةٍ تقيّد وحشيّتها، أو تشكّل أي أثرٍ فعلي عليها، وهذا تماماً ما تفعله بعدائها المتصاعد للمنظومة الدولية، والذي تَسارع بشكلٍ ملحوظ بعد تقديم ملفّات جرائم الحرب أمام محكمة لاهاي.
باشرت اللوبيات الصهيونية بمهاجمة التقرير واتهمت المنظمات الحقوقية بالعداء لليهود
وقد بدأ اللوبي الصهيوني الضاغط على الحكومات الغربية بالعمل فورا على مهاجمة التقرير والتركيز مرة أخرى على أن هذه المنظمات الحقوقية تنشر تقارير كاذبة وتبث مشاعر الكراهية والعداء لليهود. على سبيل المثال، وصف المجلس المركزي لليهود في ألمانيا تقرير منظمة العفو الدولية بأنه "معاد للسامية"، ودعا الفرع الألماني لمنظمة العفو الدولية إلى النأي بنفسه عنه. في فرنسا، قام المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا بإطلاق عريضة وقّعت عليها شخصيات معروفة بصداقتها للنظام الاستعماري، من أجل مطالبة الرئيس الفرنسي بإدانة التقرير وأن تنسجم الدولة الفرنسية مع قراراتها، مثل تطبيق التعريف العملي للتحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة لمكافحة جميع أشكال معاداة السامية.
في الجهة المقابلة، هناك تيار كبير من حركات ومنظمات حقوقية في العالم، وتحديدا في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، تقف مع الشعب الفلسطيني، التي رحَبت بتقرير العفو الدولية، ودعت الحكومات إلى تنفيذ توصياته المقدمة للمنظمات الدولية وللحكومات. هنالك مثال مهم من مواطنين يهود متحررين من الأيدلوجية الصهيونية، وهو "تحالف لمنظمات يهودية من أجل العدالة في فلسطين" والذي يضم خمس عشر منظمة في خمسة عشر دولة في أميركا الشمالية والجنوبية ومن أوروبا. دعم هذا التحالف التقرير وأعلن عن تأكيده لدعم نضال الشعب الفلسطيني من أجل الحرية، العدالة، المساواة والكرامة. وهذا تيار مهم مناقض للمنظمات الصهيونية.
طبعا جاء هذا التقرير بعد عقدين من الزمن من بدء استخدام المنظمات الحقوقية الفلسطينية ومنظمات المجتمع المدني لتوصيف إسرائيل كنظام فصل عنصري، وتحديدا منذ المؤتمر الدولي لمناهضة العنصرية الذي عُقد في مدينة ديربان في جنوب أفريقيا في 2001.
إن التحوّل الكبير في خطاب كبريات منظمات حقوق الإنسان الدولية ليس بالأمر المفروغ منه، كونها تحظى بمصداقية عالية، على مختلف المستويات الشعبية والسياسية، وذات تأثير كبير في سياسات الدول. إلّا أن أثر التقرير الأكبر يكمن في خلق مناخ عالمي بديل ونقيض للمناخ الذي تسعى إسرائيل لخلقه، كما في كونه أداة هامة في نضال الشعب الفلسطيني الساعي إلى الحرية.
صدور التقرير سوف يساعد منظمات وجمعيات تضامنية في أنشطة المرافعة والمناصرة لحقوق الشعب الفلسطيني، خاصة أنه بعد التقريرين التي أصدرتهما "هيومان رايتس ووتش" و"بتسيلم" بدأت هذه المنظمات تدريجيا باستخدام مصطلح "الفصل العنصري" كإطار تكميلي للقانون الدولي في الحملات المختلفة. وسوف يساعدها في الاستناد على التوصيات للاستمرار في حملاتها، سواء على المستوى الشعبي أو/وعلى مستوى صانعي القرار. كذلك من المهم الإشارة إلى أن منظمة العفو الدولية هي منظمة ناشطة تضم ملايين الأعضاء والداعمين، وتقول المجموعة إن هذه الحملات تعزز دعواتنا إلى العدالة". وأضافت منظمة العفو إلى تقريرها دورة تدريبية على الإنترنت مدتها تسعون دقيقة حول "تفكيك نظام الفصل العنصري الإسرائيلي ضد الفلسطينيين". كما أنتجت فيلمًا وثائقيًا قصيرًا مدته خمس عشر دقيقة متاحًا على موقع اليوتيوب والذي يشرح للجمهور كيف تمارس إسرائيل الفصل العنصري.
على الرغم من أهمية التقرير الكبيرة، إلا أن نواقصه ظاهرة أيضا، كالعديد من التقارير التي سبق نشرها من قبل منظمات دولية وإسرائيلية. حيث فشل تقرير منظمة العفو الدولية في الاعتراف بالفصل العنصري كأداة للاستعمار الاستيطاني الصهيوني
إنّ نشر تقرير كهذا من قبل أكبر المنظمات الحقوقية شعبية في العالم، يدين الفصل العنصري الإسرائيلي عبر الاحتكام للقانون الدولي، له بلا ريب أهمية بالغة لمواصلة نشر النضال ضد الفصل العنصري، وكذلك لكسب حلفاء دوليين وضمان تحقيق انتصارات. ربما في هذا المجال على الاتحاد الأوروبي إلغاء وليس تعليق العمل كما تطالب به بعض المنظمات الأوروبية، باتفاقية الشراكة مع النظام الاستعماري، اعتمادا على البند الخاص المتعلق باحترام حقوق الإنسان.
نحن ندرك أهمية مثل هذه التقارير للحملات العالمية ولجهود المناصرة، لكن وعلى الرغم من أهمية التقرير الكبيرة، إلا أن نواقصه ظاهرة أيضا، كالعديد من التقارير التي سبق نشرها من قبل منظمات دولية وإسرائيلية. حيث فشل تقرير منظمة العفو الدولية في الاعتراف بالفصل العنصري كأداة للاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وكذلك في إبراز دور الأيديولوجية والمؤسسات الصهيونية في إنشاء هذا النظام والحفاظ عليه، كما لم يتضمن التقرير أي اعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وبالتالي لا يواجه طبيعة المشروع الصهيوني، باعتباره استعماريًا عنصريًا واستيطانيًا.
نعلم أن أطر حقوق الإنسان والقانون الدولي محدودة الفاعلية، ويصعب عليها منفردة تحرير شعب فلسطين، لذا كان للاعتماد المفرط عليها في غياب خطاب ومسار كفاحي أثر ضار على تقييد النضال الفلسطيني والحد من فاعليته، كما أثر ذلك سلباً على عمل المجتمع المدني الفلسطيني بما فيه منظمات حقوق الإنسان. وعليه تعتقد الكاتبة أن حملات المناصرة والدفاع عن الحقوق هي جزء مهم من أجل بناء تحالفات مع المنظمات الحقوقية، فهو جزء من كل، أي يجب اعتباره مكملا للنضال على الأرض لا بديلا عنه.
من واجب شعب فلسطين وحلفائه من الأحرار حول العالم استثمار هذا الأمر بأفضل شكل ممكن، خاصة مع توفر مناخ عالمي مناصر لحقوقنا اليوم، كما على العالم الحر والإنساني الذي تهمه حقوق الإنسان تحمّل مسؤوليته أيضا إلى جانب الشعب الفلسطيني، فهذه قضية مبادئ وحقوق وعلى كل البشر المتمسكين بالإنسانية تحمل المسؤولية بعد نشر هذه الحقائق التي كشفت المستور وأزالت أي التباس، كما علينا تكثيف حملة المقاطعة بكافة أشكالها لهذا النظام وفرض عقوبات وسحب الاستثمارات.
خلال انتفاضة الوحدة في أيار 2021، استعدنا نحن الفلسطينيين إرادتنا السياسية وكنا في شوارع وساحات كل فلسطين، من بيتا إلى القدس وحيفا. عبّرنا عن واقعنا المعاش وعن مطالبنا كشعب واحد يعيش في ظل نظام استعماري وفي المنافي والشتات، هذا الصوت الذي يجب التركيز والتأكيد عليه، صوت المنتفضون على الأرض ومن هم في المنافي والشتات. لا يريد شعب فلسطين "إصلاحات" في البنية الاستعمارية تحسن الظروف المعيشية، بل يريد تفكيك هذا النظام عبر تطبيق حق تقرير المصير لشعبنا وحق العودة للاجئين والمبعدين، نحن لا نريد "مساواة ليبرالية"، نريد إنهاء الاستعمار والتحرير والعدالة والكرامة.