تعقيدات أزمة المصرف المركزي الليبي: لا صدى لحوار الأمم المتحدة

29 اغسطس 2024
الصديق الكبير في طرابلس، 8 يوليو 2021 (حازم تركية/الأناضول)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **تفاقم أزمة المصرف المركزي الليبي**: تدخلت البعثة الأممية في الصراع حول تعيين محافظ جديد للمصرف المركزي، مما أدى إلى توترات عسكرية وإغلاق حقول النفط، ودعت إلى اجتماع طارئ لحل الأزمة وإجراء انتخابات وطنية.

- **تصاعد التوترات بين الأطراف الليبية**: لم تستجب الأطراف لدعوة البعثة الأممية لتعليق القرارات الأحادية، مما أدى إلى تصاعد التوترات بين المجلس الرئاسي ومجلس النواب وحكومة الوحدة الوطنية.

- **غموض الموقف الأميركي وتدخل البعثة الأممية**: لم تتخذ واشنطن خطوات عقابية ضد مصرف ليبيا المركزي، وتسعى البعثة الأممية لجمع الأطراف لحوار يهدف إلى توحيد الحكومة والسيطرة على المؤسسات السيادية.

دخلت البعثة الأممية في ليبيا على خط الصراع القائم بين الأطراف الليبية بعد احتدامه، والخاص هذه المرة بأزمة المصرف المركزي الليبي وتعيين محافظ جديد له بدلاً من الصديق الكبير، معلنة عزمها عقد "اجتماع طارئ" بين الأطراف المعنية بهذه الأزمة المتصاعدة، والتي امتدت إلى التوتر العسكري وحقول النفط، للتوصل إلى حل توافقي بينها، مؤكدة أهمية حل أزمة المصرف المركزي الليبي المستجدة "لتهيئة الظروف المواتية لعملية سياسية شاملة" تهدف إلى توافق واسع لإجراء انتخابات وطنية لـ"إنهاء أزمة تآكل شرعية المؤسسات وانقسامها".

أزمة المصرف المركزي الليبي تمتد

وجاءت خطوة البعثة التي أطلقت دعوة عمومية لم توضح فيها هوية الأطراف المعنية بها، على وقع توتر عال تعيشه البلاد منذ أسابيع، اختلفت صوره في شكل توتر عسكري بين قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر وقوات حكومة الوحدة الوطنية في الجنوب الغربي من البلاد، وآخر بين التشكيلات المسلحة المسيطرة على طرابلس، إضافة إلى القرارات المتضاربة بين المجلس الرئاسي ومجلس النواب حول المصرف المركزي ومحاولة استيلاء كل من المجلسين على صلاحيات الآخر، وانتهى بقرار حكومة مجلس النواب بإغلاق الحقول النفطية رداً على مضي المجلس الرئاسي في تنفيذ قراراته بشأن المصرف.

أحمد العاقل: تراجع أي من أطراف الصراع يفتح الطريق أمام التشكيك في صحة الأسانيد القانونية التي اعتمد عليها، ما يؤدي إلى التشكيك في شرعيته

لم تستجب الأطراف الليبية الرئيسية المعنية بأزمة المصرف المركزي، وتحديداً المجلس الرئاسي ومجلس النواب، لدعوة البعثة الأممية التي تضمّنت مطالبة بـ"تعليق العمل بكل القرارات الأحادية المتعلقة بمصرف ليبيا المركزي"، و"الرفع الفوري للقوة القاهرة عن حقول النفط والكفّ عن إقحام مصدر الدخل الرئيسي للبلاد في الصراعات السياسية". وأكد رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي أن قرارات مجلسه بشأن تغيير إدارة المصرف "نافذة"، وأنه اتخذها استناداً إلى اختصاصه وفقاً للاتفاق السياسي "بتعيين كبار الموظفين"، بالإضافة إلى استناده إلى قرار سابق لمجلس النواب عام 2018 عيّن فيه المصرفي محمد الشكري محافظا للمصرف بديلا عن المحافظ الصديق الكبير.

وأشار المنفي، في بيان له عقب دعوة البعثة للاجتماع حول أزمة المصرف المركزي الليبي المتواصلة، إلى أن قرار مجلسه جاء لعدم التزام مجلس النواب بدوره في التوافق مع مجلس الدولة حول تحديد تعيين محافظ المصرف. فبعدما عيّن الشكري بالتوافق مع مجلس النواب، تراجع الأخير عنه وقرّر استمرار الكبير بالمنصب بقرار أحادي.

الأطراف الليبية تتمسك بأوراقها

ولم يتأخر رد مجلس النواب، إذ كرّر رئيسه عقيلة صالح رفضه لقرار المجلس الرئاسي، مؤكداً أن "تعيين المحافظ ليس من اختصاص المجلس الرئاسي إطلاقاً، وما قام به المجلس المذكور مخالف للقانون والإعلان الدستوري والاتفاق السياسي"، محملاً المجلس الرئاسي المسؤولية "عن حالة الإرباك في القطاع المصرفي داخلياً وخارجياً، وما قام به من تعدٍ على الأمن والاستقرار"، بل وطالب النائب العام "بتحريك دعوى جنائية" ضد المجلس الرئاسي، متهما المجلس بارتكاب "فعل اقتحام المصرف المركزي".

وشدّد صالح على شرعية قرار مجلس النواب باستمرار الكبير محافظاً في منصبه وإيقاف العمل بقرار تعيين الشكري، مؤكداً استمرار "منع تدفق النفط والغاز إلى حين رجوع محافظ مصرف ليبيا المركزي لممارسة مهامه القانونية". وفي رد ضمني على دعوة البعثة لاجتماع حول أزمة المصرف، قال صالح إن "أي تسوية سياسية لا تضمن حقوق الأقاليم في الثروة مرفوضة، للمحافظة على مسيرة الإعمار والتنمية، وتحقيق العدالة بين الليبيين".

انحازت حكومة الوحدة الوطنية إلى جانب المجلس الرئاسي، وأكد رئيسها عبد الحميد الدبيبة ضرورة متابعة المؤسسة الوطنية للنفط أوضاع الحقول النفطية، وعدم السماح بإقفالها "تحت حجج واهية"، وضرورة "محاسبة من يقوم بهذه الأفعال المشينة وإحالته لجهات الاختصاص" بحسب مكتبه الإعلامي يوم الاثنين الماضي. في المقابل، انحاز حفتر في أزمة المصرف المركزي الليبي إلى جانب مجلس النواب، فبعد صمت لأكثر من أسبوعين، أبلغ القائمة بأعمال رئيس البعثة الأممية ستيفاني خوري، أثناء لقائه بها الاثنين الماضي، رفضه لقرار الرئاسي واصفا إياه والحكومة في طرابلس بأنهما "طرفان سياسيان فاقدان للشرعية ولا يملكان أي صلاحيات"، وطالب بضرورة "احترام الجهات الشرعية المخولة بالنظر في المناصب السيادية وفقاً للاتفاق السياسي"، في إشارة إلى مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة.

أما المجلس الأعلى للدولة فلا يزال تحت تأثير انقساماته بسبب الاختلافات العميقة حول نتائج انتخاب رئاسته، بين رئيس المجلس المنتهية ولايته محمد تكالة والسابق خالد المشري. ففيما أصدر تكالة، الموالي للحكومة في طرابلس، بياناً أيّد فيه قرار الرئاسي بشأن تغيير إدارة المصرف، عارض خالد المشري في بيان منفصل القرار، وأيّد موقف مجلس النواب في عدم اختصاص المجلس الرئاسي بالتدخل في ملف المناصب السيادية.

غموض الموقف الأميركي

وفي ظل هذه المواقف، يستمر الغموض حول مصير إدارة المصرف المركزي وسط مؤشرات على أن الوضع ذاهب إلى المزيد من التصعيد، في ظل انهيار مفاوضات كانت تجري بشكل غير معلن بين حكومة طرابلس من جهة، وقيادة حفتر من جهة أخرى، للاتفاق على تشكيلة متوازنة لقيادة المصرف يقترحها المجلس الرئاسي، بحسب ما كشفت عنه مصادر ليبية متعددة لـ"العربي الجديد". وأوضحت المصادر، وهي مصادر حكومية وأخرى مقربة من قيادة حفتر، أن المجلس الرئاسي شكّل إدارة المجلس من شخصيات مقربة من الحكومة وقيادة حفتر، على أن يتولى المصرفي محمد الشكري منصب المحافظ لكونه معيناً من مجلس النواب في قرار سابق بديلاً عن المحافظ الحالي الصديق الكبير، الذي بات سبب مشكلة التمويل الحكومي من ميزانية الدولة التي طرأت أخيراً، ولكون الشكري شخصية مصرفية محايدة تضمن إصدار قرارات المصرف المركزي بالتساوي. لكن إعلان الأخير، يوم الجمعة الماضي، عن تحفظه على قبول المنصب إلا بتوافق مجلسي النواب والدولة، أربك مسار المشاورات واتجه بها إلى نقطة الانهيار التام بعد عدم التوافق على شخصيات عدة بديلة للشكري تم طرحها.

رمضان النفاتي: المجلس الرئاسي كان يقول إنه يريد لعب دور الوسيط، لكنه أخفق وصار طرفا، وهذا هو المعطى المضاف الوحيد في ساحة الصراع

وبحسب المصادر، فإن عقيلة صالح الذي كان يضغط بتصعيد موقفه لإشراكه في المشاورات القائمة، رشّح رئيس اللجنة المالية بمجلس النواب عمر تنتوش لتولي منصب المحافظ بديلاً عن الكبير والشكري، لكن جانبي التفاوض بشأن أزمة المصرف المركزي الليبي لم يوافقا عليه. وبسبب مرور الوقت من دون الاتفاق على محافظ للمصرف، أقدم المنفي بشكل أحادي على تكليف عبد الفتاح عبد الغفار، أحد أعضاء مجلس الإدارة الجديدة للمصرف، محافظاً موقتاً، ما دفع حفتر إلى التصعيد باتخاذ خطوة وقف تدفق النفط، وهي الخطوة التي تسعى الحكومة للرد عليها بقرار إقالة رئيس المؤسسة الوطنية للنفط فرحات بن قدار، الذي سبق وأن جاء إلى منصبه ضمن صفقة بين الحكومة وحفتر في يوليو/تموز 2022. وأجمعت المصادر على أن المفاوضات بين الطرفين كانت تجري بعلم وتشجيع من جانب عدد من العواصم الغربية، وأن انهيارها الذي بدأت مؤشراته بالظهور بإعلان حفتر وقف تدفق النفط، كان السبب في تدخّل الأمم المتحدة ودعوة جميع الأطراف لاجتماع طارئ للتوصل إلى حل للأزمة.

لكن أستاذ القانون الدستوري الباحث في الشأن السياسي أحمد العاقل، استبعد أن تساعد ظروف الصراع القائم بين الأطراف، البعثة الأممية على عقد لقاء قريب. وأشار إلى تمسك كل من المنفي وصالح بقراراتهما، وتساءل: "كيف يمكن تصور أن يوافق صالح على الجلوس على طاولة واحدة مع المنفي وقد أعلن إنهاء ولاية مجلسه؟". ورأى العاقل، في حديث مع "العربي الجديد"، أن البعثة نفسها تدرك ذلك، فصيغة الدعوة العمومية للاجتماع تعكس صعوبة تحديدها الأطراف المدعوة، معتبراً أن "عمومية الدعوة ستزيد من التعقيد، فلا ريب أن المعنيين بقضية المصرف هما مجلسا النواب والدولة، لكونهما من الجهات السيادية وفقا للاتفاق السياسي، وظاهر الدعوة يعني أن المجلس الرئاسي غير معني".

وحول ربط البعثة الأممية الدعوة لحل أزمة المصرف المركزي الليبي بسياق مساعيها لاستئناف العملية السياسية، اعتبر العاقل أن هذا الرابط "يدل بالفعل على عدم الدراية الكافية لدى البعثة بعمق الأزمة، وأنها لا تدرك أن الأطراف وصلت إلى نقطة اللاعودة، فتراجع أي منها يفتح الطريق أمام التشكيك في صحة الأسانيد القانونية التي اعتمد عليها لإصدار قراراته، ما يؤدي إلى التشكيك في شرعيته من الأساس". وتساءل: "من يمثل مجلس الدولة المنقسم على نفسه في هذا الاجتماع، وهو طرف أساسي لا يمكن تغييبه لشرعنة أي محافظ يتم الاتفاق عليه؟". واعتبر العاقل أن جهود البعثة "لا تكفي لإجبار الأطراف على القبول بأي لقاء للتفاوض، ولا بد من ضغوط دولية مباشرة لإخضاعها لاستئناف الحوار، والمجتمع الدولي لن يتحرك إلا إذا أصبحت الأوضاع تهدد مصالحه، خصوصاً أن توقف الإنتاج النفطي الليبي لن يهدّد استقرار سوق النفط العالمية فهو لا يمثل نسبة كبيرة".

في المقابل، رأى أستاذ العلاقات الدولية رمضان النفاتي أن أزمة المصرف دفعت ستيفاني خوري إلى الإسراع في خطتها التي عكست إحاطتها أمام مجلس الأمن بأنها تعمل عليها قبل أزمة المصرف المركزي الليبي الحالية. وباعتقاده، فإن "أطراف الصراع الأساسية كانت على علم بذلك، وكل ما فعلته أنها تصعّد الآن إلى أقصى حد لإبراز أوراقها وتقوية موقعها التفاوضي في العملية السياسية عند استئنافها".

لواشنطن الحق في إصدار أي إجراء لعزل مصرف ليبيا المركزي، لكنها لم تتخذ أي خطوة عقابية حتى الآن

ورجّح النفاتي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ المجلس الرئاسي يتحرك بدعم من أطراف دولية للتموضع في منتصف المسافة بين الأطراف استعداداً للعب دور محايد أثناء استئناف العملية السياسية، مضيفاً أن "المجلس الرئاسي كان يقول هذا في أكثر مناسبة، وهو يريد لعب دور الوسيط، لكن بمجرد أن دخل وسيطاً توسط للتنسيق في بناء إدارة مشتركة للمصرف المركزي، أخفق وصار هو نفسه طرفا، ولعل هذا هو المعطى المضاف الوحيد في وسط ساحة الصراع الليبي".

واعتبر النفاتي أن أزمة المصرف المركزي الليبي هي "تجلٍ لأزمة أعمق وأبعد من الصراع الليبي"، معرباً عن اعتقاده بأن "إسقاط الصديق الكبير جاء بدفع أميركي بالدرجة الأولى لإخفاقه على الأرجح في حلّ مشكلة الأوراق النقدية المزورة التي تحدثت صحف غربية عن أنها طُبعت في شرق البلاد بواسطة مطابع روسية وتم شراء كميات كبيرة من الدولار الأميركي بهذه العملة، فعملية الشراء تعني أن الكبير أخفق في منع تسربها إلى الأسواق ويمكن معاودة الشراء بها". وأشار إلى أن "المعالجات التي أطلقها الكبير أخيراً من خلال منحه حكومة مجلس النواب ميزانية ضخمة وحق تنفيذها للسماح بتدفق الأموال الشرعية إلى مشاريع حفتر الإنمائية للحد من تزوير العملة الليبية، خلقت في المقابل أزمة في غرب البلاد واختلالاً في موازين القوى المستقرة نسبيا في البلاد".

وأضاف النفاتي أن "أزمة المصرف المركزي الليبي كبيرة جداً إلى حد استدعاء تدخل أميركي بدفع البعثة لاستئناف الحوار واجراء إصلاحات سياسية عاجلة لتوحيد الحكومة للسيطرة على قرار المؤسسات الرئيسية، كالمصرف المركزي ومؤسسة النفط، فالسؤال الأساسي لدى المجتمع الدولي ما حقيقة السيطرة الليبية على النفط وأمواله، في ظل توسع المشروع الروسي واستفادته من النفط وأمواله في تجاوز الحصار المفروض على موسكو". ورجّح نجاح البعثة "في وقت قريب جداً في جمع الأطراف الرئيسية لحوار لن يكون باتساع حوار جنيف السابق، بل بالشخصيات الرئيسية للوصول إلى قرار يوحد الحكومة ويسيطر على أعمال المؤسسات السيادية".

ولفت النفاتي إلى أن صمت واشنطن حتى الآن عن إصدار أي إجراء من خلال المؤسسات المصرفية الدولية بحق مصرف ليبيا، يفسّر سعي واشنطن، وإلى جانبها عواصم أوروبية، للضغط في اتجاه استئناف العملية السياسية، موضحاً أن "دخل المصرف المركزي الأساسي من النفط، ونفط ليبيا يباع بالدولار، ما يعني لواشنطن الحق في إصدار أي إجراء لعزل مصرف ليبيا المركزي". وتساءل: "لكن لماذا لم تفعل حتى الآن، وجوابه أنها من تدفع بالظروف المحيطة بأزمة المصرف الحالية نحو اتجاهات تقصدها لمحاصرة الوجود الروسي، ويجب أن لا ننسى أنها ستعول على الأموال الليبية من خلال حكومة موحدة في ليبيا لتمويل مشروع الفيلق الأوروبي المقابل لمشروع الفيلق الروسي".

المساهمون