خلال إعلان التطبيع بين السودان وإسرائيل بواسطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وحده مستشار الرئيس، جاريد كوشنر، من بين كل المتحدثين، أشار إلى العقدة الرئيسية في القضية، حين قال إن الخرطوم هي عاصمة اللاءات الثلاث: لا صلح مع إسرائيل لا اعتراف ولا تفاوض. واعتبر أن العاصمة التاريخية تقول اليوم نعم لمعكوسات لاءاتها. ومهما تكن درجة الزهو التي انتابت مستشار ترامب، صهره وأحد أعمدة السياسة الخارجية في الشرق الأوسط، فيبدو التحول الدراماتيكي في موقف الخرطوم بعد 53 عاماً محل حيرة وتساؤل حول أسباب ما جرى في تلك السنوات.
بعد أسابيع قليلة من حرب النكسة في 5 يونيو/حزيران 1967، استضافت الخرطوم القمة العربية في أغسطس/آب، وسط حالة يأس كبيرة في الأوساط السياسية والشعبية والعربية عقب الهزيمة في الحرب. غير أن الحكومة السودانية في ذلك الوقت تحت قيادة الأب الروحي لاستقلال البلاد، إسماعيل الأزهري، ورئيس الوزراء محمد أحمد المحجوب، استطاعت جمع القادة العرب في قمة تاريخية أعادت الروح المعنوية للقضية وللشعوب العربية. وخرجت القمة بمقررات رافضة لكل ضغوط الاستسلام لإسرائيل ووقّعت على لاءاتها الثلاث، تلك اللاءات التي أعطت للخرطوم رمزيتها الخاصة منذ ذلك الوقت في خريطة القضايا العربية. واستتبعها السودان بخطوات رمزية أخرى منها، مشاركته في كثير من حروب التحرير وأهمها حرب العبور في أكتوبر/تشرين الأول 1973، إذ شاركت وحدات من الجيش السوداني إلى جانب الجيشين المصري والسوري، حتى تحقق النصر الذي انتهى بتدمير خط بارليف.
جمع السودان العرب بعد نكسة 1967 مطلقاً عهد اللاءات الثلاث
وبعد سنوات من تلك المواقف، اتخذ السودان في عهد الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري، موقفاً رافضاً للمقاطعة العربية لمصر بعد دخولها في عام 1978 في اتفاق سلام مع إسرائيل، واحتفظت الخرطوم بعلاقاتها مع القاهرة قبل كامب ديفيد. وفي بداية ثمانينيات القرن الماضي، بدأ نميري نفسه بالتواصل مع إسرائيل وعقد اجتماعاً مباشراً مع وزير الاستخبارات حينها أرييل شارون، في العاصمة الكينية نيروبي، واتفقا على إكمال صفقة ترحيل اليهود الفلاشا من إثيوبيا إلى إسرائيل عبر الأراضي السودانية. كما أنشأت الحركات المتمردة في جنوب السودان، قبل انفصاله في الستينيات والثمانينيات والتسعينيات علاقة مع دولة الاحتلال، للحصول على دعم عسكري وسياسي.
ولم يكن من بين الأحزاب السياسية في السودان أي حزب يقرّ أو يطالب بإقامة علاقات مع إسرائيل، سوى حالة استثنائية تتعلق بالحزب الجمهوري، الذي أسس زعيمه محمود محمد طه للفكرة من منظور ديني قبيل إعدامه عام 1985 بتهمة الردة عن الدين.
أما الرئيس المعزول عمر البشير، المدعوم من الحركة الإسلامية، فبدأ أعوامه الأوائل متشدداً تجاه القضية الفلسطينية واستضاف معظم حركات المقاومة في الخرطوم عبر واجهة المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي، تحت قيادة الراحل حسن الترابي. كما دعم نظام البشير في فترة من الفترات حركة "حماس" بالسلاح وسهل لها، حسب كثير من المصادر، تهريبه عبر الصحراء وسواحل البحر الأحمر مروراً بأنفاق سيناء وصولاً إلى قطاع غزة. وقد تعرضت عدد من القوافل لهجوم إسرائيلي في شمال السودان وشرقه، إضافة إلى تدمير مصنع اليرموك للسلاح في العاصمة الخرطوم عام 2012، بحجة أن المصنع ينتج أسلحة تذهب للمقاومة الفلسطينية.
في السنوات الأخيرة أوقف نظام البشير تلك التسهيلات بعد تزايد الضغوط الدولية والإقليمية عليه، وبدأ حديث عن اتصالات سرية مع إسرائيل، لكن الخرطوم وفي أكثر من مناسبة نفت تلك الأحاديث. فيما برزت أصوات داخل التيار الحاكم تدعو إلى التطبيع مع إسرائيل منها قيادات سياسية وإعلامية بارزة، ووثق موقع "ويكيليكس" لبعض الاجتماعات السودانية الأميركية في هذا الصدد.
لم يرغب أي حزب في السودان في تطبيع العلاقات مع إسرائيل في السابق
في 11 إبريل/نيسان من العام الماضي، أطاحت ثورة شعبية بنظام البشير، وتكونت شراكة بين العسكر والمدنيين تمخض عنها تشكيل مجلس للسيادة وحكومة مدنية. وبعد أقل من 6 أشهر فاجأ رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان جميع الأوساط السياسية بلقاء جمعه برئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو بمدينة أنتيبي الأوغندية، مطلع فبراير/شباط الماضي.
وجد اللقاء ونتائجه معارضة واسعة من الحكومة المدنية وقوى "إعلان الحرية والتغيير" الحاكمة ومن تيارات سياسية أخرى لا سيما التيارات الإسلامية. ودامت تلك المعارضة نحو 10 أشهر، لكنها لم تصمد بعد ذلك أمام الضغوط الدولية والإقليمية، وأمام حافز رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب الأميركية التي صنف بها في عام 1993 خلال سنوات حكم البشير. وبقي إصرار المكون العسكري على التطبيع كما هو لما ينتظر من مكاسب من تلك الخطوة، ووصلت درجة الجرأة بنائب رئيس مجلس السيادة، قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى التأكيد بأنهم سيطبّعون من دون خوف من أي جهة.
وانتهى كل شيء أول من أمس الجمعة، بإعلان ترامب نيّة السودان وإسرائيل إقامة علاقات بينهما، كما جمع ترامب، نتنياهو في مكالمة هاتفية مع البرهان ورئيس مجلس الوزراء عبد الله حمدوك، لتتكشف أشياء كثيرة بعد أشهر من محاولات التعمية والتمويه. ولم تتضح التفاصيل والبنود الكاملة أو حتى القصة الكاملة. وبتلك القفزة أو المغامرة يتم تسجيل أكبر تحول سياسي في السودان.
ورأى المحلل السياسي محمد عبد السيد، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن ذلك التحول الدراماتيكي في السودان من دولة حملت راية اللاءات الثلاث في عام 1967 إلى دولة تهتف نعم للتطبيع هذا العام، سببه الأساس هو المفاوض السوداني الذي بحث في كل المراحل عن مصلحة البلاد ولم يسأل ويدرس دوافع الاهتمام الإسرائيلي الأميركي ومصالحهما في ملتقى النيلين. وهي في تقديره مصالح ترتبط بالموقع الجيوسياسي والاستراتيجي للسودان، وهو موقع تتهافت كل القوى الدولية والإقليمية عليه.
وأوضح عبد السيد أن كل همّ الحكومة السودانية الحالية وسابقتها انحصر في ملف إزالة السودان من قائمة الإرهاب. كما أن المفاوض في الفترة الأخيرة، بداية من البرهان، جلس على طاولة التفاوض مع نتنياهو بلا تحضير، واستناداً فيما يبدو لاتصالات سابقة قادتها الدبلوماسية الراحلة نجوى قدح الدم. وأشار إلى أن الحكومة بشقيها العسكري والمدني لم تبين مكاسب السودان من الصفقة الأخيرة باستثناء الحصول على التقنية الزراعية والمعاملات التجارية مع إسرائيل، وتلك يمكن الحصول عليها من كثير من بلدان العالم وليست حكراً على إسرائيل.
يخشى البعض من بنود سرية في الاتفاق السوداني ـ الإسرائيلي
وأبدى المحلل السياسي خشيته من بنود سرية ضمن صفقة التطبيع، على شاكلة ما أوردته مجلة "فورين بوليسي" عن بند مقترح بإعادة توطين اللاجئين بما يغير من ديمغرافية السودان، وهو مقترح مبهم لم تنفه الخرطوم. كما أبدى خشيته من أن يشمل الاتفاق نصاً أو ضمناً أدواراً يقوم بها السودان لصالح إسرائيل أو أميركا في الفترة المقبلة.
من جهته، قال الصحافي محمد حامد جمعة، لـ"العربي الجديد"، إن دوافع الوصول إلى محطة التطبيع غير مرئية حتى اللحظة ولم يخرج مسؤول سوداني ليوضح ذلك، منبّهاً إلى أن من الثابت أن الموافقة السودانية تمت تحت الضغط، لا سيما على المكون المدني في السلطة الانتقالية، وأن المطبخ الخارجي الذي أدار العملية برمتها خارج السودان وضع لكل طرف مصلحته باستثناء الطرف السوداني. ولفت إلى أن المقصود ضمن أهداف أخرى هو البعد المعنوي في التطبيع مع عاصمة اللاءات الثلاث، مشيراً إلى أن دولاً في محيط السودان تطبع علاقاتها مع تل أبيب منذ سنوات ولم تتحول الى جنان في الأرض كما يتوهم كثيرون. وتوقع جمعة أنه في حال تمرير الصفقة أو الصمت عليها في الداخل، سيكون ذلك انعطافاً كبيراً في المشهد السياسي للدولة السودانية، وهزيمة لكثير من التيارات والأحزاب ومبادئها التاريخية.