- تحليل الوضع يكشف عن مخاوف إسرائيل من فقدان قوة الردع وتأثير ذلك على صورتها، بينما تسعى إيران لتعزيز هيمنتها الإقليمية وتطوير قدراتها العسكرية والنووية، مع تفضيل تجنب مواجهة شاملة.
- الوضع الحالي ينذر بإمكانية مواجهة كبرى بين الطرفين، لكن التحديات وعدم رغبة الطرفين والغرب في توسيع القتال قد يحول دون ذلك، مع تأثيرات مختلطة على غزة والمصالح الإيرانية.
في الأول من إبريل/نيسان الحالي أقدمت إسرائيل على انتهاكٍ جديدٍ للقانون الدولي، عبر قصفها مبنى القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية دمشق، ما أسفر عن استشهاد خمسة أشخاصٍ على الأقلّ، بينهم القيادي البارز في الحرس الثوري الإيراني، محمد رضا زاهدي، ما دفع إيران إلى الرد يوم 14/4/2024، عبر إطلاق عشرات المسيرات والصواريخ انطلاقًا من الأراضي الإيرانية، في تحولٍ تاريخيٍ كبيرٍ في طبيعة الصراع بين إيران وإسرائيل، من أهمّ ملامحه انتقال طهران من "الصبر الاستراتيجي" والاعتماد على الحلفاء، إلى المواجهة المباشرة من قلب الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى قلب دولة الاحتلال الإسرائيلي.
ما هي مآلات المشهد؟ وهل نحن على موعدٍ مع حربٍ كبرى بين إسرائيل وإيران، أم ما حصل مجرد زوبعةٍ في فنجان، أو كما يحلو لخصوم إيران أن يطلقوا عليها مسرحيةٌ هزليةٌ! والأهمّ ما هي تداعيات التصعيد على قطاع غزّة؟ مفتاح الإجابة على كلّ ما سبق يبدأ من: كيف تفكر إسرائيل وإيران؟
إن سيناريو اندلاع مواجهةٍ كبرى بين إسرائيل وإيران قائمٌ ومرجحٌ، لكن تحول دونه تحدياتٌ عدّة
أولًا: كيف تفكر إسرائيل
أهمّ ثلاثة هواجس حكمت العقل الصهيوني في الفترة الأخيرة، وأثّرت على قراره هي:
1. استعادة الردع: برز قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 حديثٌ داخل مراكز الأبحاث الإسرائيلية عن تآكل قوة الردع الإسرائيلية، ودفع ذلك الكثير من النخب الإسرائيلية لكتابة مقالاتٍ تشير إلى عقدة العقد الثامن على مستقبل إسرائيل، من أهمّ هؤلاء رئيس الوزراء السابق إيهود باراك في مقالٍ نشرته يديعوت أحرنوت العام الفائت.
2. هناك هاجسٌ آخر مرتبطٌ باختلال ميزان المناعة القومي الإسرائيلي، إذ تتراجع ثقة المجتمع الإسرائيلي بمؤسسات الدولة، في ظلّ غياب جيل التأسيس. تجدر الإشارة هنا إلى أن أهمّ انعكاسات استمر تراجع ميزان المناعة القومي هي زيادة معدلات الهجرة العكسية لرأس المال الاجتماعي من إسرائيل إلى الخارج. كما ازدادت أزمة الثقة مع زيادة الشرخ المجتمعي، الذي رافق التعديلات القضائية.
3. طوفان الأقصى في 7 أكتوبر، وأثّره على صورة إسرائيل، ومكانتها السياسية والعسكرية في وعي شعبها وحلفائها وخصومها وأعدائها.
وفقًا للهواجس الثلاثة وغيرها، ومع زيادة التطرف الديني داخل إسرائيل، انطلقت مرتكزات القرار الإسرائيلي من محددات هامّةٍ منها الحرب والانتصار بها، لكن الانتصار في قطاع غزّة متعثرٌ حتّى اللحظة. كذلك جر الغرب الأطلسي لها محددٌ رئيسٌ في نمط تفكير نخبة تل أبيب الحاكمة، ما دفعها إلى استفزاز طهران، عبر قصف القنصلية الإيرانية، فإن تحقق ذلك، تنجح إسرائيل في رسم خارطة شرق أوسطٍ جديدةٍ تهيمن عليه، وتمنح حلفاءها متسعًا للانطلاق نحو حسم ملفاتٍ أخرى مثل أوكرانيا وتايوان. يبقى أمام إسرائيل تحدًّ مهمٌّ يتعلق بإقناع حلفائها بتشكيل تحالفٍ دوليٍ كبيرٍ لحسم ملف إيران في المنطقة، وهو غير متحققٌ حتّى اللحظة، انطلاقًا من حسابات الولايات المتّحدة، ونظرتها إلى ما يمكن أن تكسبه بكين وموسكو في حال اندلاع حربٍ واسعةٍ في الشرق الأوسط.
ثانيًا: كيف تفكر إيران؟
تطمح الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى استعادة أمجادها السابقة، وإلى الهيمنة على المنطقة، يتطلّب تحقيق ذلك امتلاك إيران قوّةً عظمى، وعليه بدأت طهران في تطوير صناعاتها العسكرية، وعملت على إطلاق مشروعها النووي. وفقًا لما سبق؛ ليس من الحكمة أن تذهب إيران إلى مواجهةٍ واسعةٍ لا تضمن الانتصار الساحق بها، وهذا صعب التحقق لسببين:
• ترجيح عدم تدخل حلفاء إيران (الصين – روسيا) تدخلاً مباشرًا، حتى لو تدخل الغرب الأطلسي.
• ليس من السهل تحقيق الانتصار الساحق، بل أثبتت الحروب أنّها تعيد الدول سنواتٍ إلى الوراء، وهو ما لا تريده طهران المنهكة بحصارٍ غربيٍ طويلٍ.
كشف إمكانية اختراق منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية، وإلحاق هزيمةٍ بإسرائيل إن توفرت إرادةٌ عربيةٌ إسلاميةٌ، وإرادة أحرار العالم
في المقابل تريد إيران حفظ ماء وجهها أمام نفسها وشعبها ودول العالم، لذا ذهبت إلى ضربةٍ محدودةٍ، تحمل معها دلالاتٍ مهمّةً هي:
1. قدرة الجمهورية الإسلامية على الوصول إلى الأهداف العسكرية الإسرائيلية، رغم منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلي المتطورة.
2. تغيير قواعد الاشتباك، والانتقال من الصبر الاستراتيجي، والرد عبر الحلفاء إلى الرد المباشر من قلب إيران على أيّ اعتداءٍ يستهدف إيران ومصالحها في المنطقة.
ثالثاً: مآلات المشهد
نستطيع استشراف مآلات المشهد القائم على رغبة إسرائيل بالتصعيد إذا أدركت أنه سيجلب الولايات المتّحدة وحلفاءها للقتال إلى جانبها أولًا، وعلى عدم رغبة إيران بتوسيع رقعة القتال، واحتوائه ثانيًا. في وقت لا ترغب دول الغرب الأطلسي، وفي مقدمتها الولايات المتّحدة، بالدخول في حربٍ الكاسب الوحيد فيها هو خصماها الرئيسيان، الصين وروسيا.
وفقًا لما سبق؛ فإن سيناريو اندلاع مواجهةٍ كبرى بين إسرائيل وإيران قائمٌ ومرجحٌ، لكن تحول دونه تحدياتٌ عدّة، أهمّها عدم رغبة إيران في ذلك، وعدم رغبة الغرب الأطلسي بتفجر الأوضاع في الشرق الأوسط، في مقابل التوجه الإسرائيلي الساعي إلى جرّ إيران لمواجهةٍ كبرى، عبر ردٍّ على الهجمات داخل العمق الإيراني.
رابعًا: تداعيات التصعيد الإيراني الإسرائيلي على غزّة
يدور جدلٌ سياسيٌ بين النخب حول أثّر الرد الإيراني على الحرب على غزّة، وهل يخدم الرد الإيراني المقاومة الفلسطينية، أم يضرها؟ يتطلّب حسم الجدل حصرًا للتداعيات الإيجابية والسلبية من وجهة نظرٍ فلسطينيةٍ.
أ. التداعيات الإيجابية
• كشف خريطة التحالفات في المنطقة بوضوحٍ.
• رفع معنويات الشعب الفلسطيني، لا سيّما في قطاع غزّة، الذي يعاني من جرائم إبادة جماعية منذ أكثر من ستة أشهرٍ.
• كشف إمكانية اختراق منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية، وإلحاق هزيمةٍ بإسرائيل إن توفرت إرادةٌ عربيةٌ إسلاميةٌ، وإرادة أحرار العالم.
تجدر الإشارة هنا إلى أن أهمّ انعكاسات استمر تراجع ميزان المناعة القومي هي زيادة معدلات الهجرة العكسية لرأس المال الاجتماعي
ب. التداعيات السلبية
• نجحت إسرائيل في ترميم علاقاتها، التي تضررت نتيجة الحرب على غزّة، مع الدول الغربية، التي سارعت إلى نجدة إسرائيل، بعدما كانت توجه لها الانتقادات، وتمارس الضغوط بسبب ما يجري في غزّة.
• خطف التصعيد الإيراني- الإسرائيلي الاهتمام الإعلامي مما يجري في غزّة من جرائم.
• لم يتحرك التصعيد الإيراني في ظلّ جرائم الإبادة الجماعية، بل بسبب انتهاك سيادته، ما رسخ وعيًا فلسطينيًا بأنّ المصالح الوطنية الإيرانية متقدمةٌ على أيّ مصالح أخرى.
الخلاصة: تأثير الرد الإيراني المحدود على إسرائيل من وجهة النظر الفلسطينية هو تأثيرٌ سلبيٌ، لأن ما تحتاجه فلسطين الآن هو أحد خيارين: إما حربٌ شاملةٌ تؤدي إلى زوال المشروع الصهيوني، أو دعمٌ واسعٌ وحقيقيٌ وفعالٌ للنضال الوطني الفلسطيني.