أثار مقتل شاب برصاص أحد أفراد الشرطة تساؤلات مطروحة منذ مدة طويلة، بخصوص حالة الشرطة الفرنسية وعجز الحكومات المتعاقبة عن إصلاح هذه المؤسسة المرتبطة بنقابات قوية.
وفي بلد يعاني من اندلاع موجات منتظمة من الاضطرابات التي غالباً ما تؤدي لإطلاق دعوات لقمع "مثيري الشغب"، قد يكون من الصعب توجيه انتقادات للشرطة التي تتعرض لضغوط وتفقد عدداً من أفرادها.
لكن الخبراء يقولون إنّ السلطات لم تعد قادرة على غض الطرف عن اتهامات الجماعات الحقوقية بتفشي العنصرية داخل جهاز الشرطة والتصنيف العرقي والقضايا المتعلقة بالتجنيد والتدريب وعقيدة الشرطة.
وكتب المؤرخ سيدريك ماس، عبر حسابه في "تويتر"، إنّ "الشيء الثابت هو رفض القوى السياسية العمل على أحد عوامل هذا الخليط المتفجر، وهو الشرطة".
وتابع: "أدت أعمال الشغب في الولايات المتحدة وبريطانيا في الستينيات والثمانينيات إلى إصلاحات عميقة داخل أجهزة الشرطة. في فرنسا؟ لم يحدث شيء على مدى السنوات الأربعين الماضية".
وشعرت بعض الحكومات الغربية، مثل بريطانيا في عام 2011، والولايات المتحدة مع حركة "بلاك لايفز ماتر" في عام 2013، بضرورة التعامل مع أعمال الشغب العرقية ضد الشرطة على مدار العقود الماضية. لكن فرنسا ترفض منذ مدة طويلة الاعتراف بأنّ العنصرية تلعب دوراً في "أعمال الشغب".
فيما يقول بعض الناشطين والخبراء أنّ فرنسا قدمت نحو 30 تشريعاً بخصوص الجوانب القانونية والنظام في العقدين الماضيين، لم يتضمن أي منها إصلاحاً لقوات الشرطة منذ الإصلاح الذي جرى عام 1995، وأعطى النقابات الشرطية سلطات إدارة مشتركة واسعة النطاق.
احتجاج
في يونيو/ حزيران من عام 2020، أعد وزير الداخلية السابق كريستوف كاستانير خططاً لإصلاح الشرطة، وشمل ذلك حظر خنق الأشخاص أثناء عمليات الاعتقال وإصلاح هيئة مراقبة جهاز الشرطة وتطبيق سياسة عدم التهاون مطلقاً مع العنصرية داخل الجهاز.
وبعد احتجاج من جانب نقابات الشرطة، صدر قرار بتعيين جيرالد دارمانان بدلاً من كاستانير، في تعديل وزاري بعد شهر.
وقال فرانك لوفرييه، الذي كان يشغل منصب مستشار الاتصالات للرئيس السابق نيكولا ساركوزي عندما كان وزيراً للداخلية: "الوضع يسير كالتالي، إما أنّ تدعم الشرطة أو تواجه مشكلات".
وأثار اقتراح طرحه دارمانان لإصلاح فرع تحقيقات الشرطة حالة من الغضب داخل أجهزة الشرطة هذا العام، ما أدى إلى عدة إضرابات في وقت عصيب على الحكومة مع اندلاع تظاهرات ضد خطط الحكومة لرفع سن التقاعد.
عنصرية
في قلب الاحتجاجات الأخيرة التي تهز الضواحي التي يقطنها أبناء الطبقة العاملة المختلطة عرقياً في محيط المدن الفرنسية، توجه جماعات حقوقية منذ وقت طويل اتهامات للشرطة بالعنصرية الممنهجة.
وقال مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، يوم الجمعة، إنه قلق إزاء الوضع في فرنسا، وحث الحكومة على معالجة التمييز العنصري.
وقالت المتحدثة رافينا شامدساني: "هذه فرصة للبلاد لتعالج بجدية المشكلات العميقة المتعلقة بالعنصرية والتمييز العنصري في إنفاذ القانون".
وتقول نقابات الشرطة ووزير الداخلية إنّه لا توجد سوى حالات متفرقة من العنصرية، وينكرون أن تكون منهجية أو منتشرة.
وقال أنتوني كاي، من نقابة الشرطة (سي.جي.تي): "نعم هناك عنصريون ولا أحد ينكر ذلك (...) لكن بشكل ممنهج، لا أعرف ماذا يعني ذلك".
ونظراً لأن فرنسا لا تتعامل رسمياً بحسب لون البشرة وتحد من استخدام الإحصاءات العرقية، فمن الصعب الحصول على بيانات تدعم أسباب الاستياء المنتشر بين الأقليات العرقية حول استهدافهم من الشرطة والتمييز ضدهم.
الأدلة المتواترة من الروايات كثيرة
في حكم مهم صدر عام 2021، ذكرت محكمة الاستئناف في باريس أنّ التمييز كان وراء عمليات الشرطة للتحقق من هوية ثلاثة من طلاب المرحلة الثانوية، وهم مواطنون فرنسيون تعود أصولهم إلى المغرب ومالي وجزر القمر، أثناء وجدهم في محطة للقطارات في باريس في عام 2017.
وقررت المحكمة في ذلك الوقت منح تعويض لكل منهم بلغ 1500 يورو، إضافة إلى الرسوم القانونية.
لكن هذه الغرامات نادرة، وتقول جماعات حقوقية إنّ أفراد الشرطة غالباً ما ينتهي بهم الأمر بالتعرض لعقوبات خفيفة، ما يغذي الشعور بالحصانة.
ويقول عالم الاجتماع سيباستيان روش، رئيس تحرير مجلة "الشرطة والمجتمع"، إنّ "ما نراه هو أنّه من الصعب على القضاة إصدار قرارات بسجن أفراد الشرطة. ولا يمثل ذلك حالة تنفرد فرنسا بها، إذ إنّه توجد صعوبات في إدانة ومعاقبة فرد الشرطة أيضاً في الولايات المتحدة ودول الشمال".
وبعد أزمة "السترات الصفراء" في عامي 2018 و2019، التي شهدت احتجاجات عنيفة وقمعاً من الشرطة على مدى أشهر، تجدّدت الانتقادات لعقيدة الشرطة ولخططها.
وارتبط ارتفاع عمليات إطلاق النار المميتة برصاص الشرطة خلال السنوات القليلة الماضية بإصلاح القانون عام 2017، والذي يوسع الظروف التي يمكن فيها للشرطي استخدام سلاحه الناري.
ودخل القانون حيز التنفيذ في أعقاب هجوم نفذه متشددون في نيس عام 2016. ويسمح القانون لأفراد الشرطة بإطلاق النار إذا اعتقدوا أنّه "من المرجح" أن يتسبب السائق في إلحاق أذى بالناس. ويقول منتقدون إنّ هذه المادة منطقة رمادية.
وقال كايل، من الجناح اليساري في نقابة الشرطة (سي.جي.تي)، إنّ "الأمر غير واضح تماماً ويسمح بحرية أكبر عند إطلاق النار"، مضيفاً: "يتعين إلغاء قانون 2017".
(رويترز)