الولايات المتحدة وسورية... "عصا وجزرة" في انتظار قيادة دائمة

19 ديسمبر 2024
قوات أميركية في القامشلي، يناير 2024 (دليل سليمان/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- ترى الولايات المتحدة في سقوط نظام الأسد فرصة لإعادة ترتيب الشرق الأوسط بما يتماشى مع أهدافها، لكنها تواجه تحديات مع "تحرير الشام" و"داعش" والتوترات مع تركيا.
- بدأت إدارة بايدن اتصالات مع "تحرير الشام" لتحقيق انتقال سلمي للسلطة في سورية، مع دراسة رفع تدريجي للعقوبات بالتوازي مع التقدم السياسي.
- تركز الولايات المتحدة على تمثيل شامل لقوى المعارضة في أي عملية سياسية مستقبلية، مع الحفاظ على علاقات متوازنة مع تركيا وتجنب ازدواجية المعايير السياسية.

هناك إجماع في الولايات المتحدة، داخل أوساط القرار الرسمي، لاسيما في محيط الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن، وكذلك في أوساط النخب البحثية والإعلام، على أن علاقات الولايات المتحدة وسورية محكومة بعوامل عدة بعد سقوط نظام الأسد، وأن سقوط هذا النظام في سورية يمثّل فرصةً لمرحلة أكثر استقراراً في الشرق الأوسط، وينهي مرحلة "الجمود" (Stalemate State) لإبقاء هذا النظام قائماً مع "إضعافه" إلى الحد الأقصى، التي هندسها باراك أوباما، وبقيت صامدة في عهدي دونالد ترامب وبايدن. ويساهم في هذا الاعتقاد، أن إسقاط النظام من قبل فصائل المعارضة السورية المرتبطة خصوصاً بهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، جاء متزامناً مع مرحلة إضعاف غير مسبوقة لإيران و"وكلائها" في المنطقة، في وقت تعتقد إسرائيل، الحليفة الأساسية للولايات المتحدة في المنطقة، أنها حقّقت عدداً من الأهداف الاستراتيجية من السياسة العدوانية التي انتهجتها في المنطقة منذ بدء حرب غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

هذا المشهد المتغيّر، ربما ينظر إليه أميركياً على أنه "مثالي" لتغيير قواعد اللعبة في الشرق الأوسط، وحصل بـ"صفر" خسارات للقوات الأميركية، وأعاد ترتيب المنطقة بشكل يُلائم أهداف الهيمنة الأميركية السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط. رغم ذلك، تشير ذات التوقعات إلى أن المرحلة المقبلة لن تكون سلسة إلى هذا الحدّ، فيما سياسة "العصا والجزرة" التي قد تنتهجها الإدارتان الأميركيتان، المنتهية ولايتها والمقبلة برئاسة ترامب، تجاه "تحرير الشام" وزعيمها أحمد الشرع (المعروف بأبو محمد الجولاني)، والمصنفة إرهابية على اللوائح الأميركية، قد لا يمكن تحقيقها مع تنظيم "داعش" الذي لا يزال خطره ماثلاً في سورية، وحتى مع تركيا، التي يُنظر إليها على أنها المستفيد الأول من التغيير السوري.

أولى رسائل واشنطن لـ"تحرير الشام" عدم التعاون مع "داعش"

الولايات المتحدة وسورية الجديدة: اتصالات أولى

وأكدت إدارة بايدن أنها أجرت أول اتصالاتها المباشرة مع "تحرير الشام"، التي من جهتها تصبّ كل تصريحاتها منذ دخولها دمشق في 8 ديسمبر/كانون الأول الحالي، في محاولة الحصول على شرعية من المجتمع الدولي. وجاء التواصل الغربي مع "تحرير الشام" سريعاً نسبياً، ومع تنظيم ظلّ لوقت طويل مرتبطاً بـ"القاعدة"، الذي شنّت عليه الولايات المتحدة أطول حروبها في أفغانستان. ومع بدايات التواصل، أكدت إدارة بايدن أنها ستحتكم لما تراه من أفعال "الهيئة"، لتحديد مسار التعامل معها، حيث حدّدت مجموعة من العناصر هي عبارة عن خريطة طريق لما تريده من "انتقال سلمي" للسلطة في سورية، وصولاً لقيادة "شاملة" لا تستثني أياً من مكونات البلاد، مع الحفاظ على حقوق الأقليات. ويتلاءم ذلك مع ما يُطرح في الكونغرس الأميركي عن إمكانية رفع تدريجي للعقوبات عن سورية وعن "تحرير الشام"، بالتوازي مع التقدم السياسي نحو "الحلّ الشامل" الذي ستبديه هذه المجموعة على الأرض. ويعتبر ذلك عادلاً كفاية من وجهة نظر أميركية، في وقت لا تريد واشنطن تفويت فرصة حصد المكاسب من الإنجاز السوري، الذي سارعت إدارة بايدن في نسبه إليها، بعد مسار طويل في خنق نظام الأسد، بحسب ما أكده المتحدث باسم الخارجية الأميركية ماثيو ميلر، في 9 ديسمبر. وعزا منسق الاتصالات في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، جون كيربي، في اليوم التالي، الإنجاز السوري، إلى "السياسة الخارجية الحازمة للرئيس بايدن".

وكانت الولايات المتحدة، وحليفتها إسرائيل، قد استخدمتا "العصا الغليظة" في الحرب الدائرة على غزة وفي حرب لبنان ضد حزب الله وفي ملاحقة قياديي الحرس الثوري في إيران، منذ 7 أكتوبر 2023، في حرب اعتبرتها دولة الاحتلال وجودية بالنسبة إليها، وقال عنها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، أنها ستبّدل شكل الشرق الأوسط. ومع سقوط الأسد، اتخذت إسرائيل خطوات عدوانية تجاه سورية، مع استمرار التوغل في الجولان السوري، وضرب القدرات العسكرية السورية، في وقت تتحضّر كما يبدو القوات الروسية لمغادرة سورية، وهو أحد الإنجازات الكبيرة للحرب وسقوط النظام، التي يمكن أن تعتد بها الإدارة الأميركية المنتهية ولايتها، وترسم بشكل أفضل مستقبل علاقات الولايات المتحدة وسورية بعد انتهاء مرحلة النفوذ الروسي.

وتحمل علاقات الولايات المتحدة وسورية بعد سقوط نظام الأسد، بالنسبة لواشنطن، 4 عناوين رئيسية، وأخرى متفرعة، مرتبطة بمستقبل العلاقة الأميركية مع الأكراد في سورية، وتهدئة مخاوف الدول العربية، من "الموجة الإسلامية" الناشئة في سورية بموقع قيادي. وتشمل العناوين الرئيسية كيفية التعامل مع "تحرير الشام" وإمكانية رفعها عن لائحة الإرهاب، بعدما أصبحت القائدة بحكم الأمر الواقع (دي فاكتو) للمشهد السوري الانتقالي، ومستقبل المعارضات العسكرية الأخرى، الأقل تشدداً، وكذلك الانخراط في مرحلة التحضير للمشهد السوري المقبل، وعدم تسليمه بالكامل لتركيا، ومواصلة العمل لعدم استغلال تنظيم "داعش" لأي فراغ في سورية، لملئه، بالإضافة أخيراً إلى لجم الاندفاعة التركية لتعزيز النفوذ في المنطقة.

وحتى اللحظة، تؤكد الولايات المتحدة أنها لم تلعب أي دور مباشر في الأحداث التي أدت إلى تقدم قوات "تحرير الشام" في سورية وصولاً إلى دمشق، لكنها ساهمت في بناء الحدث السوري بعد أكثر من عقد، عبر عقوباتها على النظام ودعمها المتواصل للمعارضة السورية. وأكد الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، يوم الاثنين الماضي، أن تركيا هي "الطرف الفائز" في سورية بعد إسقاط الأسد، معتبراً أن أنقرة سيكون معها "مفتاح الأحداث" في هذا البلد. وقال ترامب للصحافيين في فلوريدا: "لا أحد يعرف النتيجة النهائية في سورية، ولا من هو الطرف الفائز، لكني أعتقد أنه تركيا. أنقرة سيكون معها المفتاح للأحداث" بسورية. وأضاف: "تركيا استولت على سورية بطريقة غير ودية دون سقوط الكثير من الأرواح"، مشيراً إلى أن سورية "فيها الكثير من الأمور التي لا تزال غير واضحة". كما اعتبر أن تركيا "ذكية جدا" ورئيسها رجب طيب أردوغان "رجل ذكي جداً وقوي للغاية وأتفق معه جيدا ولقد بنى جيشاً قوياً للغاية".

"تحرير الشام" و"داعش" و"قسد"

وكان ترامب خلال ولايته الأولى (2017 – 2021)، أبدى رغبة في سحب القوات الأميركية من سورية، والبالغ عددها حالياً 900 عسكري، وتعمل في إطار التحالف الدولي لمحاربة "داعش"، وتنشط في شرق سورية، حيث تتعاون عسكرياً مع "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) الكردية في هذا الإطار. وأصبح مستقبل سيطرة "قسد" على منطقة شرق الفرات الغنية بالثروات في سورية بعد الثورة السورية (2011)، اليوم، محفوفاً بالغموض، إذ تؤكد أنقرة كلّ يوم منذ سقوط النظام، أنه لن يكون هناك مكان في كل سورية للتنظيمات "الإرهابية" في إشارة إلى القوى الكردية التي تتهمها أنقرة بأنها فرع من حزب العمّال الكردستاني، المصنف إرهابياً في تركيا.

وهذا الأمر يبدو أنه محلّ نقاش مستفيض بين واشنطن وأنقرة، وهو ما أكده كيربي أول من أمس، بقوله إن الولايات المتحدة "تجري مباحثات مع الأتراك على مستويات مختلفة ونتفهم مخاوفهم بشأن التهديد الإرهابي على حدودهم"، في وقت يبدو أن تركيا تتحضر عبر فصائل المعارضة لشنّ هجوم على مدينة عين العرب (كوباني) ذات الأغلبية الكردية في شمال غرب سورية، والذي قد يمهّد الطريق أمام تقدم فصائل المعارضة إلى الحسكة والرقة. وأكد القائد العسكري لـ"تحرير الشام"، مرهف أبو قصرة، المعروف بأبو حسن الحموي، أول من أمس الثلاثاء، من جهته، أن مناطق سيطرة "قسد" التي يقودها الأكراد "ستُضمّ" إلى الإدارة الجديدة لسورية، مشدّداً على رفض وجود أي فيدرالية (أكد أيضاً أن "تحرير الشام" ستكون الأولى التي ستحلّ نفسها للاندماج بجيش موحد في البلاد)، كما تتسمك التصريحات التركية الرسمية بـ"سورية موحدة".

يتحدث الكونغرس الأميركي عن رفع تدريجي للعقوبات

ويأتي التعامل الأميركي مع "تحرير الشام" في سورية، كإحدى مسائل مستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة وسورية الأكثر تعقيداً، خصوصاً إذا ما التزمت الهيئة بعملية انتقال سياسي "شفّاف" قد يضعها في صدارة القوى الشعبية في سورية، بعد أي انتخابات تشريعية محتملة. ومن منظور علاقات الولايات المتحدة وسورية المستقبلية، تبدو واشنطن مهتمة بتمثيل شامل لقوى المعارضة، وهي قد ترغب حقيقة في رؤية "المعارضة العلمانية" في السلطة، وأن يكون لها دور في صياغة دستور سورية الجديد، خصوصاً أن أسماء كثيرة داخل هذه المعارضات ترتبط بعلاقات قوية في واشنطن وعواصم القرار الغربية، وفي الدول العربية المعتدلة، كما أن واشنطن تفضل انتهاء فصل من التعامل مع "الهيئة" بشكل حصري، لما يفرضه ذلك من ازدواجية في المعايير السياسية، قد تضّر بصورة واشنطن. ولذلك تتعامل الولايات المتحدة مع الحدث السوري، بحذر، وبصيغة أن "أي شيء لم ينته بعد"، وهو ما ردّد صداه أول من أمس، المبعوث الأممي إلى سورية غير بيدرسون، فيما دعا مجلس الأمن، الثلاثاء، إلى تنفيذ عملية سياسية جامعة في سورية تلبي تطلعات الشعب السوري بناء على المبادئ الأساسية المنصوص عليها في قرار المجلس رقم 2254 الخاص في سورية، في وقت لمّح الشرع أخيراً إلى أن هذا القرار يحتاج إلى تعديل.

ويبرز التساؤل لدى الحديث عن مستقبل علاقات الولايات المتحدة وسورية الجديدة، مرتبط بمدى الرغبة الأميركية الحقيقية برؤية سورية "موحدة"، إذ تعاقبت الإدارات الثلاث التي عاصرت الثورة السورية، على استخدام كل الطرق لإبقاء سورية مقسّمة، مع إضعاف الأسد وتشديد الخناق السياسي والاقتصادي عليه في مناطق سيطرته.

وكان ترامب وصف خلال ولايته الأولى سورية بـ"دولة جثّة" و"أرض الرمال والدماء"، وتسعى إدارة بايدن إلى إحيائها قبل تنصيب ترامب في محاولة للضغط من أجل بقاء القوات الأميركية في سورية. ورأى تقرير لموقع "فورين بوليسي إن فوكوس" الأميركي، نشر أول من أمس، أن الولايات المتحدة ورغم تصنيفها "تحرير الشام" إرهابية، لطالما وجدت في هذا التنظيم "مكسباً" لإبقاء سورية مفككة. ولفت إلى أنه بينما كان أوباما هندس سياسة "الجمود" طويلة الأمد في سورية، وهو ما أكمله ترامب، فإن إدارة بايدن لم تفصح طوال أربع سنوات عن نياتها بشأن سورية، رغم حفاظها على الوضع القائم، ومقاومتها محاولات دول غربية الضغط لاستعادة الحوار مع الأسد.

وبحسب صحيفة نيويورك تايمز، في تقرير لها بـ8 ديسمبر، فإن أولى الرسائل التي أرسلت من واشنطن عبر أنقرة إلى "تحرير الشام"، هي تحذير من مغبة التعامل مع "داعش". ورأى موقع "ذا كونفرزايشون" الأميركي، في تقرير نشر بـ12 ديسمبر، أن دور واشنطن في سورية "غير واضح" بعد سقوط الأسد، وأنه بالنسبة لعلاقة الولايات المتحدة وسورية مستقبلاً، فإن واشنطن لم تخرج بـ"خلاصات جازمة" حول ما إذا التغيير سيكون جيداً لها، وفق جوردان تاما، الخبير في السياسة الخارجية الأميركية في الجامعة الأميركية بنيويورك. ويعتمد بذلك برأيه حول شكل القيادة المقبلة في دمشق، لافتاً إلى أن الولايات المتحدة في عهد ترامب ستقلّل انخراطها في سورية، فقط لدرجة ألا تؤثر الأحداث على الأمن القومي الأميركي وأمن الحلفاء.

(العربي الجديد)

باحث وصيدلاني مقيم في أوتاوا في كندا.
باحث وصيدلاني مقيم في أوتاوا في كندا.

خليل ساكير

باحث وصيدلاني مقيم في أوتاوا في كندا.

 

المساهمون