يبدو من خلال عدة مؤشرات أن استعدادات أوكرانيا للهجوم المضاد قد شارفت على الانتهاء بنسبة كبيرة، ولم يبق سوى بعض الترتيبات الميدانية الخاصة على الجبهات وفي الأجواء والبحار.
وتستعد أوكرانيا لهذا الحدث المهم منذ الخريف الماضي، عندما قامت بهجوم مضاد كبير، نجحت من خلاله في تحقيق تقدم ميداني ضد القوات الروسية التي خسرت مساحات كبيرة من الأراضي التي كانت تحتلها في خاركيف وخيرسون.
تتمثل الاستعدادات الأوكرانية في عدة مظاهر، بعد الحصول على الضوء الأخضر من الولايات المتحدة وأوروبا وحلف شمال الأطلسي، وكانت رحلة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى واشنطن في نهاية العام الماضي بمثابة نقطة البدء.
وجرى خلال الأشهر الستة الماضية تدريب أكثر من مائة ألف جندي أوكراني للمشاركة في الهجوم المضاد، على الأراضي الأوكرانية وفي القواعد الأميركية في كل من بولندا، ألمانيا، رومانيا. وتكفلت دول أخرى بتدريب قوات أوكرانية على أنواع مختلفة من الأسلحة، كما هو حال بريطانيا وفرنسا، اللتين قدمتا أسلحة خاصة بمواجهة الدبابات.
وزودت لندن كييف بصواريخ "ستورم شادو" بعيدة المدى يصل إلى 300 كيلومتر. وهذا أمر يمكن أن يغيّر في طبيعة الحرب. وتسمح هذه الصواريخ بالضرب بعيداً خلف الخطوط الأمامية لروسيا، مما سيساعد أوكرانيا في تمهيد الطريق لهجوم بري بالدبابات وقوات المشاة.
معركة شبه جزيرة القرم
وطلبت أوكرانيا من الدول الغربية منذ فترة طويلة الحصول على صواريخ بعيدة المدى، بحجة أن مثل هذه الأسلحة يمكن أن تغيّر مسار الحرب، من خلال السماح لقواتها باستهداف مراكز القيادة الروسية وخطوط الإمداد والذخيرة ومستودعات الوقود في عمق شبه جزيرة القرم (التي استولت عليها روسيا بالقوة في عام 2014) والأراضي التي تسيطر عليها روسيا في دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوريجيا.
وجاء في الوثائق الأميركية السرية التي تم تسريبها عبر الإنترنت من خلال منصة "ديسكورد"، أن المخابرات الأميركية أكدت أن بريطانيا تنوي إرسال عدد غير محدد من صواريخ "ستورم شادو" إلى أوكرانيا، إلى جانب خبراء بريطانيين للمساعدة في التهديف.
وقال رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك في خطابه في مؤتمر الأمن في ميونيخ في فبراير/شباط الماضي: "ستكون بريطانيا أول دولة تزود أوكرانيا بأسلحة طويلة المدى".
الجيش الروسي يتوقع أن يكون الجنوب الأوكراني الهدف الرئيسي للهجوم المضاد
وتكمن أهمية هذا الصاروخ أولاً في أن مداه يغطي المسافة بين الأراضي التي تسيطر عليها أوكرانيا وسيفاستوبول، أكبر مدينة في شبه جزيرة القرم ومقر أسطول البحر الأسود الروسي. ومن ناحية أخرى، يسمح هذا السلاح لأوكرانيا بتبنّي التكتيكات التي تستخدمها روسيا نفسها، والتي تطلق صواريخ كروز من الطائرات ومن داخل أراضيها، لتفادي الدفاعات الجوية الأوكرانية.
وكان التسليح واحدة من المعضلات الأساسية التي واجهت الأوكرانيين منذ بداية الحرب في 24 فبراير/شباط 2022، وربطت قيادة الأركان الأوكرانية نجاح الهجوم المضاد بتوفير عدد كاف من دبابات "ليوبارد" الألمانية أو "أبرامز" الأميركية.
وقاد "الأطلسي" هذه الحملة، وتمكن خلال فترة وجيزة من تحقيق إنجاز مهم، وحسبما أعلن الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، كاشفاً أن الغرب جهّز تسعة ألوية أوكرانية للقتال، مع 1500 مدرّعة تقريباً و230 دبابة قتال ثقيلة.
كما أكدت وكالة "رويترز"، بعد تحليل الآلاف من صور الأقمار الاصطناعية، وجود آلاف التحصينات الجديدة من خنادق وحواجز مركبات على امتداد مئات الكيلومترات في المناطق الحدودية الروسية وفي جنوب وشرق أوكرانيا.
وتشير تقديرات خبراء عسكريين غربيين إلى أن نقطة البداية المثالية للهجوم هي منطقة زابوريجيا في الجنوب، لأنها أضعف منطقة يتمركز فيها الروس، ولهذا تبدو الاستعدادات الأوكرانية واضحة هناك.
ومن زابوريجيا سيتم التمدد الأوكراني باتجاه بحر آزوف، والهدف تدمير الجسر الذي يربط شبه جزيرة القرم بمنطقة كراسنودار الروسية، وبذلك تصبح القوات الأوكرانية على مشارف القرم، وستدفع في هذه الحالة القوات الروسية الموجودة في شرق خيرسون، باتجاه زابوريجيا.
وحسب تسريبات عدة، تتركز التحصينات الروسية في الجزء الجنوبي الشرقي من منطقة زابوريجيا، وفي المنطقة الضيقة التي تربط شبه جزيرة القرم بباقي الأراضي الأوكرانية.
ويقدر خبراء غربيون أن الجيش الروسي يتوقع أن يكون الجنوب الأوكراني، على وجه الخصوص، ولا سيما زابوريجيا، الهدف الرئيسي للهجوم الأوكراني المضاد، ولذلك تتحسّب للمسألة.
وبحسب وكالة "رويترز"، تظهر الصور زرع الروس حقول ألغام لقطع الطريق أمام المعدات الأوكرانية الثقيلة، فضلاً عن استخدام موانع مختلفة كالخنادق والكتل الخرسانية، أطلق عليها اسم "أسنان التنين" العائدة لأيام الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945).
التحصينات التي يقوم بها الطرفان، وترصدها الأقمار الاصطناعية، تعطي فكرة عن شكل العمليات المستقبلية والتي يجري النظر إليها على أنها للتخفيف من نقاط الضعف عند الروس، كون أداء الجيش الأوكراني عادة ما يكون أفضل في المواقف العسكرية المرتجلة والمتغيرة.
وهناك درس مهم من الهجوم المضاد السابق في الخريف الماضي، وهو أن الجيش الروسي بنى أثناء احتلال خيرسون ثلاثة خطوط من التحصينات للدفاع عن المدينة، ومع ذلك، تم تحرير المدينة من قبل الجيش الأوكراني.
ويجري النظر عسكرياً إلى أن تركيز القوات على قطاع معين يمكن أن يمنح الأوكرانيين ميزة، ويسمح لهم بالتوغل في عمق الأراضي التي تسيطر عليها روسيا.
وهذا بدوره يمكن أن يضعف التحصينات الروسية في قطاعات الجبهة الأخرى ويربكها، ويؤدي بالتالي إلى إحداث اختراق كبير، وهذا ما تعمل أوكرانيا على إحداثه في زابوريجيا.
ويعد تحرير خاركيف درساً آخر من هذه الحرب، فقد اخترقت مجموعات أوكرانية سريعة الحركة الثغرات بين التحصينات والخنادق الروسية ولم تتدخل في القتال، بل كانت مهمتها إحداث حالة من الفوضى والذعر بين القوات الروسية فقط، ومن ثم تولت مجموعة الهجوم الرئيسية بقية المهمة.
نقطة قوة روسيا هي نقطة ضعف أوكرانيا، وتتمثل في سلاح الطيران، ويُقدّر السلاح الجويّ الروسي، الذي لا يزال مُعافى بـ900 طائرة حربيّة مقاتلة، وأكثر من 200 قاذفة من مختلف التصنيفات.
ونادراً ما اخترق سلاح الجو الروسي حتى الآن، المجال الجوي الذي تسيطر عليه كييف بسبب الدفاعات الجوية الأوكرانية. ويرى خبراء عسكريون أن الأمر المهم هو أن تمتلك القوات الأوكرانية المهاجمة أنظمة دفاع جوي تكتيكية كافية لحماية القوات المهاجمة بشكل مباشر.
استعدادات الهجوم المضاد
وعلى الرغم من الاستعدادات الكبيرة للهجوم المضاد من قبل كييف وموسكو، فإن خبراء يرجحون أن تكون المفاجأة التكتيكية والقيادة في ساحة المعركة والروح المعنوية حاسمة في الساعات الأربع والعشرين الأولى من الهجوم، وهذا هو سر نجاح هجوم الخريف الماضي. ويراهن الجانب الأوكراني على ضعف الحالة المعنوية وتدني الكفاءة العسكرية لدى القوات الروسية.
ويعاني الجيش الروسي من انتكاسة نفسية بسبب الخسائر الكبيرة في الأفراد، وعدم النجاح في إحراز نصر ميداني منذ بداية الحرب. وعلى صعيد الكفاءة، فقد تبين أن الحشود الكبيرة من القوات الروسية، التي فاقت مائة ألف جندي لم تحدث فارقاً ميدانياً حتى الآن، ولذلك جرى اللجوء إلى مرتزقة "فاغنر" الذين تجاوز عددهم خمسين ألفاً.
يراهن الجانب الأوكراني على ضعف الحالة المعنوية وتدني الكفاءة العسكرية لدى القوات الروسية
وتبدو محصلة القتال الذي خاضته "فاغنر" في باخموت محدودة، ورغم أنها سيطرت على الجزء الأكبر من المدينة، فإن الثمن كان مرتفعاً، وعلاوة على ذلك لم تتمكن من استثمار ذلك، ولذلك تحدّث قائدها يفغيني بريغوجين عن احتمال انسحابها من المنطقة.
ورغم ذلك، فإن الوضع العسكري الحالي مختلف، ومن الصعب أن تتكرر دروس خاركيف وخيرسون في الهجوم المضاد السابق، حيث ركز الهجوم الأوكراني على قوات مبعثرة ومهزومة ومواقع سيئة التحصين.
سيؤدي التسليح والتدريب الغربي للجيش الأوكراني دوراً مهماً في هذه المعركة، ومن مصلحة الغربيين أن يجربوا ذلك ليروا النتائج المباشرة لهذا التمرين، الذي يمكن أن يصبح قاعدة لأي مواجهة لاحقة واسعة بين روسيا وحلف الأطلسي.
ومن المقرر أن يكون نمط القتال مختلفاً، إذ تم تدريب القادة والجنود الأوكرانيين على العمليات العسكرية المركبة، التي ستشترك فيها مختلف صنوف الأسلحة، ويجب أن تعمل الدبابات الأوكرانية والمدرعات الأخرى بالتنسيق مع المهندسين والمدفعية وحتى مع الطائرات.
من أجل تحقيق هذا الهدف تم تزويد أوكرانيا بأحدث شحنات من المعدات العسكرية الغربية المتخصصة بضرب التحصينات ومثال ذلك أجهزة إزالة الألغام الأميركية، والآليات المتحركة لنصب الجسور المقدمة من قبل ألمانيا.
تبقى الإشارة إلى أن ساعة الهجوم غير معروفة، ويصعب تحديد حتى موعد تقريبي لها. وحين جرى الحديث عن الهجوم المضاد سرت تقديرات أنه ربما يحصل في نهاية الشتاء أو منتصف الربيع، وها هو الربيع يقترب من نهايته، ولا أحد يعرف متى ينطلق.
تمويه الموعد أحد تكتيكات الحرب، حتى لا يصبح بمقدور العدو الاستعداد له، وعنصر المباغتة أحد مفاتيح النصر. وهذا لم يمنع أن القوات الأوكرانية تقوم منذ عدة أسابيع بعمليات جس نبض للجبهات الروسية في أوقات الليل.
والظاهر حتى الآن من هذه العمليات هو امتلاك أوكرانيا أدوات قتال ليلي، وقاربت على استكمال استعدادات الهجوم الكبير، الذي سيكون هدفه الرئيسي فصل دونباس (تضم دونيتسك ولوغانسك) عن شبه جزيرة القرم.