الموافقات الأمنية... سيف النظام المسلط لابتزاز السوريين وترهيبهم

02 اغسطس 2022
يحتاج السوري للموافقة الأمنية في جميع مناحي حياته (فرانس برس)
+ الخط -

رغم مرور أكثر من 10 سنوات على اندلاع الثورة في سورية، والتي قامت أساساً للاحتجاج على تغول سلطة الأجهزة الأمنية وهيمنتها على حياة الناس، إلا أن سلطة هذه الأجهزة بقيت هي الثابت الوحيد بين المتغيرات الضخمة التي أصابت البلاد خلال السنوات الماضية.

وتسعى هذه الأجهزة للتحكم بكل تفاصيل الحياة اليومية للناس، عبر فرض حصولهم على "موافقة أمنية" لممارسة أي نشاط صغير أو كبير، بغية إبقائهم تحت الضغط والترهيب من جهة، وابتزازهم مالياً من جهة أخرى. كما تعمل على جمع معلومات عن حركة ونشاط المواطنين، واستخدامها ضدهم عاجلاً أو لاحقاً، حيث يتطلب الحصول على الموافقة الأمنية بيانات مفصلة عن مقدم الطلب وكل معارفه وأقاربه داخل سورية وخارجها.

الموافقة الأمنية منذ بداية حكم "البعث"

وتعود مسألة الحصول على الموافقة الأمنية إلى بدايات حكم حزب "البعث" لسورية في ستينيات القرن الماضي، حيث كانت تُطلب ممن يريد السفر في بعثة دراسية، أو الانتساب للكليات الحربية والأجهزة الأمنية، أو تولي بعض المناصب الحساسة.


تعود مسألة الحصول على الموافقة الأمنية إلى بدايات حكم حزب "البعث" لسورية
 

ثم توسعت أكثر في عهد الرئيس الراحل للنظام حافظ الأسد، خاصة بعد الصدامات بين السلطة وجماعة الإخوان المسلمين نهاية سبعينيات القرن الماضي، وهي الأحداث التي أعطت زخماً لسلطة الأجهزة الأمنية، فبدأت، منذ ذلك الحين، بتوسيع نفوذها وتدخلاتها في أدق التفاصيل اليومية لحياة الناس، بداعي الضرورات الأمنية.

وبعد وفاة حافظ الأسد منتصف عام 2000، شهدت سورية مرحلة قصيرة من التراخي الأمني فيما عرف بـ"ربيع دمشق"، تراجعت خلالها نسبياً سطوة الأجهزة الأمنية، قبل أن تستعيد هذه السطوة تدريجياً في السنوات التالية، وصولاً إلى اندلاع الثورة السورية في ربيع 2011.

ومنذ ذلك الحين، باتت تلك الأجهزة هي السلطة الأولى في البلاد على الإطلاق، باعتبارها الأداة الرئيسية بيد النظام لقمع الاحتجاجات. وحتى القوات المسلحة، والتشكيلات المليشياوية التي تشكلت بعد الثورة، تخضع بطريق أو أخرى، لسلطة هذه الأجهزة بتسمياتها المختلفة.

واليوم، فإن المواطن السوري بات يحتاج إلى "الموافقة الأمنية" في جميع مناحي حياته، كالعمل والزواج والسفر، واستئجار أو بيع منزل، أو فتح مشروع تجاري أو خيري، أو حتى إحياء أمسية شعرية أو موسيقية... إلخ. 

ومن أشهر أشكال الموافقات الأمنية التي تُطلب بشكل دائم وثيقة "غير محكوم" التي يحتاجها كل شخص يريد ممارسة أي نشاط دراسي أو وظيفي، مدنيا كان أو عسكريا، اقتصاديا أو اجتماعيا أو سياسيا... إلخ. 

وهذه الشهادة العمومية عن "حسن السلوك" التي تصدر عادة في يوم أو يومين، لا تغني طبعاً عن الموافقات الأمنية "التخصصية"، أي الخاصة بكل قضية، والتي تحتاج إلى وقت أطول بكثير يصل لبضعة أشهر، يتخللها بحث وتحرٍ من جانب عناصر الفرع الأمني، سواء بعد طلب معين تقدم به الشخص المعني، أو نتيجة تقديمه لوظيفة أو تعيينه في منصب، وفي هذه الحالة تتم الدراسة الأمنية عنه دون علمه.

عودة نشاط الأجهزة الأمنية إلى ذروته

في السنوات الأخيرة، بعد أن استعاد النظام العديد من المناطق الخارجة عن سيطرته، تراجع دور التشكيلات العسكرية التي شاركت في الحرب، وعادت إلى الواجهة مجدداً الأجهزة الأمنية، التي ظل دورها حاضراً بطبيعة الحال حتى في ذروة المواجهات العسكرية مع قوات المعارضة.

لكنها عادت إلى نشاطها التقليدي المتمثل في التضييق على حياة الناس، وجعل تلك الأجهزة مرجعيتهم في كل صغيرة وكبيرة، خاصة خلال عملية إعادة إحكام قبضة النظام على المناطق المستعادة من المعارضة.

أبو سامر علوش: باتت اليوم لكل معاملة "وكالة" خاصة بها

وقال أبو أحمد العلي، وهو نازح من منزله شبه المدمر والمنهوب كلياً في جنوب دمشق، لـ"العربي الجديد"، إنه تقدم بطلب للسماح له بإعادة ترميم منزله، بعد ما قيل عن السماح بعودة الأهالي لبيوتهم، وأحضر كل الأوراق المطلوبة التي تثبت ملكيته لهذا المنزل، لكنهم قالوا له إن عليه مراجعة "فرع فلسطين" (التابع للأمن العسكري) للحصول على موافقة أمنية، وهو ما جعله في حيرة من أمره، خاصة أن لديه ابنا معتقلا لدى النظام منذ 9 سنوات.

وأضاف أبو أحمد أنه بعد تردد، نصحه بعض الناس بعدم المراجعة إلا في حال حصل على توصية قبل ذهابه للفرع، وحيث إنه لا يعرف أحداً له نفوذ لدى أجهزة الأمن، فضل عدم المراجعة نهائياً، والتخلي عن فكرة إعادة ترميم منزله، حتى لو بقي يدفع راتبه كله كإيجار للمنزل الذي يقيم فيه في ضواحي العاصمة، ويعتاش مما يرسله له ابنه الآخر اللاجئ في أوروبا.

لكل معاملة "وكالة" خاصة بها

شخص آخر يقيم في تركيا يدعى أبو سامر علوش قال، لـ"العربي الجديد"، إنه أراد بيع منزله في حمص، ولديه سابقاً "وكالة عامة" لأحد إخوته المتبقين داخل سورية، وحين أراد شقيقه إجراء معاملة البيع، قيل له إن وكالته لم تعد صالحة، وعليه الحصول على وكالة جديدة خاصة بعملية بيع العقارات. 

وأوضح أنه بات اليوم لكل معاملة "وكالة" خاصة بها، مثل وكالة "تأجير وبيع البيت" و"وكالة لبيع السيارة"، وأخرى لاستصدار وثائق شخصية للشخص الموجود خارج سورية، وهكذا.

وكانت وزارة العدل التابعة للنظام أصدرت في 15 سبتمبر/أيلول العام الماضي تعميماً يقضي بفرض الموافقة الأمنية لوكالة الغائب والمفقود، بدعوى صدور العديد من الوكالات خلال السنوات العشر الماضية، عن أشخاص تبين لاحقاً أنهم ملاحقون بجرائم خطيرة. كما أن هناك وكالات جرى فيها استغلال لحالة الغائب أو المفقود للتصرف بأمواله بما يضر مصالحه، وفق التعميم.

الموافقات الأمنية مخالفة لدستور النظام

وأكد المحامي محمد الموسى، لـ"العربي الجديد"، أن مجمل الموافقات الأمنية تعتبر مخالفة للدستور الذي وضعه النظام، كونها تتنافي مع مبدأ سيادة القانون، حيث لا تخضع الموافقات الأمنية، والأجهزة الأمنية نفسها، لأي قانون.

وأضاف أن وزير العدل بإصداره مثل هذه القرارات خضوعاً للأجهزة الأمنية، يخالف القانون والدستور، وهما ينصان على أن السلطة القضائية مستقلة، ولا ينبغي أن تخضع لأية سلطة أخرى. ورأى الموسى أن الهدف النهائي لمثل هذه القرارات ليس حماية حقوق الغائبين، كما يدعي مصدروها، بل السطو على ممتلكاتهم، عبر منعهم من التصرف بها، ومن ثم إخضاعهم لقوانين وقرارات أخرى يجري إصدارها تباعاً، مثل القانون رقم 10 وقوانين "مكافحة الإرهاب".

وأوضح أنه يتعذر على الغائبين تقديم طعون أو اعتراضات بسبب غيابهم، وإبطال مفعول وكالاتهم لأقربائهم الذين كثيراً ما يعزفون عن متابعة أمر قريبهم، إذا استشعروا خطورة على أنفسهم، خشية اتهامهم بالتعامل مع إرهابيين أو مطلوبين.

الموافقة الأمنية باب للابتزاز والرشوة

وبطبيعة الحال، فإن مجمل القوانين والقرارات الصادرة عن أجهزة النظام الأمنية والمدنية، يبقى من الممكن اختراقها والقفز عنها، في حالتين: إما الشخص المعني "مدعوم" ويمكن له الوصول لأصحاب النفوذ في السلطة، وهذا لا ينطبق على المغضوب عليهم من النظام، أو عبر دفع أموال طائلة، كرشاوى لضباط النظام ومسؤوليه.

ويختلف المبلغ المطلوب للحصول على "موافقة أمنية" تبعاً للموضوع وقيمته المالية. وبينما يصل بشأن المشاريع التجارية إلى عشرات الملايين من الليرات السورية، يكون في حالة بيع المنازل بضعة ملايين، ومئات الآلاف في حالة استخراج وثيقة تخرج من الجامعة أو جواز سفر. 

محمد الموسى: مجمل الموافقات الأمنية تعتبر مخالفة للدستور الذي وضعه النظام

والتكتيكات التي تتبعها أجهزة النظام هي منح الموافقة الأمنية لنحو نصف المتقدمين تقريباً وحجبها عن النصف الآخر، وفق الموسى، وذلك بعد دراسة كل طلب، والتعرف على الإمكانات المادية لصاحبه، ومدى إمكانية ابتزازه وتخويفه.

وفي حالة رفض منح الموافقة الأمنية، إما ينسحب مقدم الطلب خوفاً أو عجزاً، أو يتابع محاولاً تمريره عبر الاستعانة بوسطاء وسماسرة يقدمون مثل هذه الخدمات مقابل مبالغ مادية، بغض النظر عن وضع الشخص، سواء كان موجوداً في البلاد، أو خارجها، أو حتى كان مطلوباً للأجهزة الأمنية. وقال محمد عبدو، وهو الآن لاجئ في أوروبا، لـ"لعربي الجديد"، إنه كان منتسباً إلى "الجيش الحر" ومطلوباً للأجهزة الأمنية، لكنه سلم بندقية كانت معه لفرع الأمن العسكري، ودفع أهله نحو ألفي دولار لضابط في الفرع نفسه، فتولى هذا الأخير تأمين وصوله حتى الحدود مع محافظة إدلب في الشمال السوري، ومن هناك دخل إلى تركيا، ليعبر بعدها إلى أوروبا.

من هنا، يلاحظ أن الموافقات الأمنية ليست لأغراض أمنية بالضرورة، كما يشير اسمها، فيمكن لأجهزة النظام التساهل مع شخص حمل السلاح ضدها، وفي الوقت نفسه تتشدد في مسائل صغيرة وليست ذات قيمة منطقياً. 

وكان عازف الكمان اللبناني الفلسطيني المقرب من النظام جهاد عقل، عاد خائباً إلى بيروت، مؤخراً، دون أن يتمكن من العزف في دمشق بعد تلقيه دعوة للحضور، وذلك بسبب عدم وصول الموافقة الأمنية على مشاركته في الحفل الموسيقي، وهو ما يعكس مزيجاً من الأساليب القمعية والبيروقراطية التي تستهدف إبقاء المجتمع تحت الضغط، والابتزاز المالي.