انطلقت، اليوم السبت، في العاصمة القطرية الدوحة، أعمال المنتدى السنوي لفلسطين في دورته الأولى، بمشاركة باحثين من مختلف دول العالم، بينهم فلسطينيون، يقدمون أوراقاً بحثية تتعلق بفلسطين وتاريخها، والقضية الفلسطينية، ونظام الأبرتهايد (الفصل العنصري) والاستعمار الاستيطاني، وفلسطين في العلاقات العربية، وفلسطين في العلاقات الدولية، وغيرها من القضايا ذات الصلة.
وقدم المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عزمي بشارة، المحاضرة الافتتاحية للمنتدى، استهلها بالإشارة إلى أن انعقاده يجسد ثلاثة اعتبارات أساسية، أولها إمكانية عقده بوجود غزارة في الأبحاث المتعلقة بفلسطين، وثانيها وجود فراغ مؤسسي على مستوى الشعب الفلسطيني عامة على مستوى العالم. أما الاعتبار الثالث، الذي شدد بشارة على أنه ربما أهمها، فيتمثل في ضرورة تضافر جهود الباحثين الفلسطينيين والعرب لمواجهة المحاولات المتواترة لتسلل أفكار صهيونية إلى مقاربة عامة الناس لتاريخ فلسطين عموما، وتاريخ الصراع على أرضهم، وتشويه قيم التحرر ومقاومة الاستعمار في الثقافة العربية.
وتابع المدير العام للمركز العربي قائلا إنه ترافق مع دس قوالب التفكير هذه سياسات تطبيع العلاقات مع إسرائيل من دون حل عادل للقضية الفلسطينية، داعيا إلى التصدي للمحاولات الإسرائيلية لتحريف الخطاب عبر تثبيت السردية الفلسطينية بالوقائع، وإثبات واقع الاحتلال الاستيطاني بالتحليل العقلاني كأساس لتدعيم الموقف الأخلاقي الرافض له ولواقع الأبرتهايد المتولد عنه.
وشدد على أنه ليس من واجب الباحثين الرد على هذا التشويه بالمزايدات واستدرار العواطف، بل بخطاب عقلاني وأخلاقي يمكن توجيهه إلى العرب واليهود والشرق والغرب، ولا تخشى ترجمته إلى أي لغة.
إلى ذلك، لفت بشارة في كلمته الافتتاحية، التي خصص جزءا كبيراً منها لتحليل الواقع الفلسطيني الراهن، إلى وجود علاقة مباشرة بين نجاحات اليمين المتطرف الانتخابية في إسرائيل والتطبيع. وأوضح أنه مقابل توطيد إسرائيل البنية الاستيطانية للاحتلال في الضفة الغربية بما فيها القدس، يتواصل نوع من التطبيع المجاني مع إسرائيل يتجاوز التطبيع إلى التحالف، كأن قضية فلسطين غير موجودة.
وأضاف: "تقحم إسرائيل ضمن المحاور الإقليمية والخلافات العربية، ويعتقد البعض أن العلاقة معها رصيد لهم ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل في سياق الصراعات العربية والإقليمية أيضاً، والأهم من هذا أنها تعي جميعا أن التطبيع المجاني زاد من صلافة إسرائيل وتعنتها".
وحذر بشارة من أن "اليمين الإسرائيلي يستنتج من ذلك أمرين أساسيين يؤكدان فرضياته التي يبوح بها يوميا للرأي العام الإسرائيلي، أولها أن الدول العربية غير معنية بقضية فلسطين والسلام ممكن من دون حلها، وثانيها أنه إذا صمدت إسرائيل مدة كافية في فرض الأمر الواقع، فإن العرب لن يلبثوا أن يستسلموا للغة القوة، وأنه لن يحصل شيء إذا كثفت إسرائيل الاستيطان ومارست حتى تهويد الأماكن المقدسة في القدس".
وأكد المفكر العربي عزمي بشارة على ضرورة وجود إطار عام يجمعُ الفلسطينيين من شتّى أماكن وجودهم، لفتح سبل التواصل بين الفلسطينيين، وبين باحثين ونشطاء عرب وأجانب، للتأسيس لحوار عقلاني منتظم ومسؤول، عن فلسطين وتاريخها، والقضية الفلسطينية، ونظام الأبارتهايد والاستعمار الاستيطاني، وفلسطين في العلاقات العربية والعلاقات الدولية بهدف التأثير في صنع القرار.
وتناول بشارة في المحاضرة الافتتاحية أزمة المشروع الوطني الفلسطيني، والاستراتيجية المأمول أن ينخرط الفلسطينيون فيها، مشيرًا إلى أن مأزق حركة التحرر الوطني الفلسطيني يتمثّل في أمرين مترابطين: الأول التخلي عن إطار حركة التحرر وأهدافها ومؤسساتها وخطابها منذ منتصف التسعينيات، وخصوصًا بعد الانتفاضة الثانية، مقابل الاعتراف الإسرائيلي وبدء عملية سلام لا تجري بناءً على قواعد ومبادئ، وليس لها أهداف مُتَّفق عليها؛ وما تمخض عن ذلك من تحويل قضية فلسطين إلى خلاف بين طرفين يخوضان مفاوضات بإشرافٍ أميركي، ومن ثم تحييد أي تضامن نضالي شعبي دولي مع قضية فلسطين بوصفه متطفّلًا على اللعبة الأساسية من خارجها. والثاني، الانشقاق السياسيّ – الجغرافي للشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة في عام 1967، الذي ينحصرُ في صراعٍ على سلطة من دون دولة ومن دون سيادة، والذي أثّر سلبيًا لا على مستوى المشهد السياسي الفلسطيني فقط، بل على المستوى السياسي في الساحات الدولية والإقليمية ذات الشأن.
وحول مسألة حضور فلسطين على مستويي الفعل السياسي الرسمي والرأي العام العربيين، قال إن سبب تهميش قضية فلسطين على جدول الأعمال الرسمي العربي، يتمثل في أنه بات لكلِ نظام عربي أجندة خاصة به في القضايا الإقليمية، وقد تلتقي مع أنظمة أخرى في محاور مؤقتة، منذ تراجُع الأقطاب العربية الرئيسة بعد حرب 1967 وسلسلة الأزمات التي بدأت بغزو الكويت ولم تنته بغزو العراق، وانحسار المقاربة القومية العربية تجاه فلسطين. وفي هذا السياق، شدّد بشارة على أن التهميش يتجاوز عدم الاهتمام بالموضوع، ويعني تحولًا فعليًا في المواقف، حيث شهدنا في السنوات الأخيرة زيادة عدد الحكومات العربية المُتَخَلّية عن قضية فلسطين، ليس بسبب فلسطين ذاتها، وإنّما بسبب تطوير مصالح مشتركة مع النظام الإسرائيلي، وذلك بقدر ما تتوسع الفجوة بينها وبين الرأي العام العربي.
واختتم بشارة المحاضرة بإبراز أهمية وجود مؤسسة فلسطينية جامعة للشعب الفلسطيني؛ مؤسسة تضع استراتيجيات نضالية في مواجهة النظام الإسرائيلي الاستعماري الاستيطاني، وقادرة على أن تستغل في صراعها ضد هذا النظام.
متري: معنيون بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي
من جهته، شدد رئيس مجلس أمناء مؤسسة الدراسات الفلسطينية، طارق متري، على أهمية الشراكة التي تجمع بين المؤسسة والمركز العربي، لافتا إلى أنها علاقة طبيعية تتوثق يومًا تلو الآخر.
وأكد متري في كلمته الافتتاحية بالمنتدى أن الشراكة بين المؤسسة والمركز قائمة على ثلاثة أمور ثابتة، موضحاً أن المؤسستين معنيتان بالقضية الفلسطينية والصراع العربي-الإسرائيلي بجوانبه المختلفة، ولأنهما مؤسستان عربيتان، تربطان دراسة قضية فلسطين ببعدها العربي وبموقعها ضمن القضايا العربية، وتشددان على الهوية العربية، وأن الصراع مع إسرائيل ليس صراعًا فلسطينيًا بالمعنى الحرفي للعبارة، بل هو صراع عربي-صهيوني، ولأنهما مؤسستان مستقلتان بالمعنى الفكري، تنجزان أعمالهما البحثية دون تحيزٍ أيديولوجي أو حزبي.
وأضاف أن ذلك يؤكده تنوّع حضور وأوراق المشاركين في هذا المنتدى، الذين يطرحون في بحوثهم الكثير عن القضية الفلسطينية والصراع العربي-الإسرائيلي، كبيرها وصغيرها؛ ما نعرف عنه الكثير وما يستحق قراءةً ثانية؛ ما لم يدرس بعد وما دُرسَ، ولكنه بحاجة إلى المزيد من البحث.
ولفت متري إلى أن تجربة المؤسستين في مجال تعزيز المعرفة بقضية فلسطين، بيّنت أنّه مهما أملى الواقع من أولويات بحثية، إلا أنّ دراسة الماضي، فضلًا عن الاهتمام بحفظ الذاكرة والحفاظ على الهوية، وأهميتهما لذاتهما، تُملي علينا فهم ما هو غامض في الحاضر.
وخلص إلى القول "تحمُلنا دراسة الواقع الحاضر إلى النظر إلى المستقبل بعينين اثنتين: التطلعات المشروعة وحسن التقدير لما هو قابل للتحقيق".
وتتواصل أشغال المنتدى السنوي لفلسطين حتى بعد غد الاثنين، وينظمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بشراكة مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية. وستُقدّم في دورة المنتدى الأولى لهذا العام نحو 62 ورقة علميّة محكّمة اختيرت من ضمن 375 طلبًا للمشاركة (قُبل منها 140 مقترحًا) تُعرض في ورش عمل متخصّصة، إضافة إلى عدد من ورش العمل العامّة التي تخص الشأن الفلسطيني.
ويشكّل هذا المؤتمر الأكاديمي، فرصة للمهتمين بقضية فلسطين وسياقاتها الإقليمية والعالمية للالتقاء وتبادل وجهات النظر، ويشكّل أيضًا رافدًا مهمًّا للبحث العلمي بشأن فلسطين والقضايا العديدة المرتبطة بها، ويعزز مركزية قضية فلسطين والاهتمام العربي والدولي بها.