اللاجئون الفلسطينيون في تقرير "أمنستي"

27 فبراير 2022
"أمنستي": نظام الفصل العنصري سبب أساسي لحرمان اللاجئين من حق العودة (جعفر أشتية/فرانس برس)
+ الخط -

في العام 1948 تجرأ النظام في الحاكم في جنوب أفريقيا على تقديم نفسه صراحة نظاما للفصل العنصري، لكن ما كان ممكنا في ذلك العام لم يعد ممكنا اليوم، وبدل أن تعترف دولة الاحتلال الإسرائيلي بأنها دولة أبارتهايد أصرّت دائما على أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة. لكن يتأكد أكثر أن العنصر الحاسم ليس تصريحات النظام بل ممارساته. مع ذلك، لا يتطلب تعريف الأبارتهايد في الخطاب العامّ وفي القانون الدوليّ، ولا يفترض حتى، التطابُق مع نظام الأبارتهايد الذي ساد جنوب أفريقيا، لأنّ تطابقا تامّا لن يتوفر. على الأقل، بينما كان الفصل العنصري في جنوب أفريقيا رسميا وعلنيا يتم إنفاذه وضبطه بواسطة السلطة التنفيذية، تحاشت دولة الاحتلال عموما أي تجلّيات بارزة لنظامها في الفصل العنصري.

منذ زمن، تحوّلت مفردة أبارتهايد إلى مفهوم قائم بذاته، كرسته المواثيق الدوليّة، بوصفه جريمة ضد الإنسانية، يكمن جوهره في المبدأ الذي يحكم عمل النظام، ليغدو الفصل العنصري: نظاما يعمل بشكل منهجيّ على تحقيق تفوّق جماعة بعينها من البشر على جماعة أخرى ويتخذ كافة التدابير اللازمة للحفاظ على هذا التفوّق. ولا يبدو وصف "إسرائيل" بالأبارتهايد جديدا، إذ انتشر هذا الوصف في ثمانينيات القرن الماضي بين أوساط مثقفين ومناضلين أمثال، أوري ديفيس، في كتابه "إسرائيل دولة فصل عنصري" (1987)، مرورا بعزمي بشارة وآلان غوكس، في التسعينيات، وصولا إلى فرانسوا ماسبيرو، وروني كير، ونعوم تشومسكي، وإدوارد سعيد، وروبرت فيسك، وغيرهم مطلع الألفية الثالثة (الكتاب الجماعي: "الانتفاضة الجديدة: مقاومة التمييز العنصري الإسرائيلي"). ولم ينته ذلك مع الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر، وكتابه "فلسطين: سلام وليس فصلاً عنصرياً".

ومع أن إسرائيل مارست الفصل منذ قيامها فإن تكريس التفوّق اليهوديّ في نصّ قانون أساس يعكس مبادئ دستوريّة مُلزمة، ويشكّل في حد ذاته وثيقة اعتراف صريحة بالفصل العنصري تمارسه إسرائيل نظاما (قوانين وسياسات وممارسات) وجريمة (أفعال محددة) على السواء

ومن الملاحظ أن الوتيرة المتزايدة لتقارير المنظمات الحقوقية التي تصف إسرائيل بالأبارتهايد" تزامنت مع تكشف الوجه الحقيقي لدولة الاحتلال الإسرائيلي بعد سنّها "قانون أساس: إسرائيل-الدولة القوميّة للشعب اليهوديّ" العام 2018، ونصّ على حقّ تقرير المصير لـ"لشعب اليهوديّ" (وحده دون غيره)، وقرّر أنّ تمييز اليهودي من غير اليهودي (في كل مكان) تمييزٌ أساسيّ وشرعيّ، مكرّسا بذلك تمييزا مُمَأسَسا لصالح اليهود ضدّ غير اليهود، مبدأ قانونيا ملزِما في مجالات مختلفة: الإقامة والإسكان والأرض والمواطنة واللّغة والثقافة، وغيرها. 

ومع أن إسرائيل مارست الفصل منذ قيامها وحتى سن هذا القانون، فإن تكريس التفوّق اليهوديّ في نصّ قانون أساس يعكس مبادئ دستوريّة مُلزمة، ويشكّل في حد ذاته وثيقة اعتراف صريحة بالفصل العنصري تمارسه إسرائيل نظاما (قوانين وسياسات وممارسات) وجريمة (أفعال محددة) على السواء.

بدأت تلك التقارير العام 2017، مع تقرير "إسكوا" حول "الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الفصل العنصري (أبارتهايد)"، ثم تقرير منظمة "هناك عدالة" الإسرائيلية غير الحكومية، في يونيو/حزيران 2020: "الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وجريمة الفصل العنصري: وجهة نظر قانونية". ولاحقا، تقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" بعنوان: "تجاوز الحد: السلطات الإسرائيلية وجريمتا الفصل العنصري والاضطهاد"، في 27 إبريل/نيسان 2021. وأيضا، تقرير "مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة" (بتسيلم): "نظام سيادة يهودية يمتد من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط، إنه فصل عنصري"، في 12 كانون الثاني/ يناير 2021. وأخيرا، انتهت "منظمة العفو الدولية" (أمنستي) في تقريرها: "نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين: نظامٌ قاسٍ يقوم على الهيمنة وجريمة ضد الإنسانية"، في 1 فبراير/ شباط 2022، إلى أن "إسرائيل قد ارتكبت الجرم الدولي المتمثل في الفصل العنصري باعتباره انتهاكا لحقوق الإنسان وللقانون الدولي العام". وإلى أن "جميع السلطات الإدارية المدنية والسلطات العسكرية الإسرائيلية، وجميع المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية تقريبا، متورطة في فرض نظام الفصل العنصري بحق الفلسطينيين". 
(في عام 2017 أطلقت منظمة العفو الدولية تقريراً أظهرت فيه أن حكومة ميانمار تُخضع جماعة الروهينغا لنظام فصل عنصري).

توصّلت المنظمة إلى ذلك بعد أن حددت نية إسرائيل أولاً، في قمع جميع الفلسطينيين والسيطرة عليهم عبر هيمنتها في "إسرائيل" والأراضي الفلسطينية المحتلة، بوسائل الديمغرافيا، وتسخير الموارد لصالح سكانها اليهود على حساب الفلسطينيين. كما حللت المنظمة القوانين والسياسات والممارسات التي أصبحت، بمرور الوقت، تشكل الأدوات الرئيسية لإنشاء هذا النظام والحفاظ عليه، والتي تميّز وتعزل الفلسطينيين في "إسرائيل" والأراضي الفلسطينية المحتلة اليوم، فضلاً عن السيطرة على اللاجئين الفلسطينيين ومصادرة حقهم في العودة، ناهيك عن توثيقها لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وجرائم بموجب القانون الدولي، ارتكبت ضد السكان الفلسطينيين بقصد الإبقاء على نظامها في القمع والسيطرة.

ميزة التقرير، الذي لم يكن الأول، تكمن في أنه لم يحصر جريمة الفصل العنصري الإسرائيلية بحق الفلسطينيين داخل حدود فلسطين الانتدابية، بل شملت أيضا، اللاجئين الفلسطينيين في الشتات، وفي أنه يبرز المدى الذي يكون معه نظام الفصل العنصري سببا أساسيا لحرمان اللاجئين الفلسطينيين من حقهم في العودة، فيتعامل مع قضيتهم بوصفها قضية سياسية نتيجة للأبارتهايد" الإسرائيلي، مقاربا حق اللاجئين في العودة الذي حرموا منه من خلال النظر إلى قانون العودة اليهودي في السياق الشامل لسياسة الفصل العنصري الإسرائيلية.

ومع أن التقرير لا يتعامل مع إسرائيل كدولة احتلال كولونيالي إحلالي، ولا يدعو إسرائيل إلى إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية، وإنما إلى التزامها بالقانون الدولي بوصفها دولة احتلال، ولكن أيضا يدعو إلى مساءلتها عن جرائمها بحق الإنسان الفلسطيني، وعلى رأسها جريمة الفصل العنصري، وهو ما ينسجم مع طبيعتها منظمة حقوقية إنسانية لا منظمة سياسية. ويدعم التقرير السردية التاريخية الفلسطينية التي تسعى إسرائيل لمحوها واستبدالها، ويؤكد العنف البنيوي المتناسب مع الأبارتهايد الإسرائيلي المستمر منذ النكبة، وما يتصل به من جرائم تطهير عرقي بحق اللاجئين، محملا إسرائيل المسؤولية عن نكبتهم التي طالما تعاملت معها إسرائيل بحالة من النكران المَرَضي، واكتفت أطراف دولية بالنظر إليها قضية إنسانية في أحسن الأحوال، وفي أسوئها؛ مشكلة سياسية ينبغي التخلص منها. 

التقرير يعيده إلى الواجهة مجددا بعدما بدا أنه غرق في غياهب النسيان، خصوصا بعد تفتت المجال السوسيولوجي للاجئي الشتات قبل الربيع العربي وبعده

ينظر التقرير إلى "أوسلو" بوصفه عاملا أسهم في تعقيد المشكلة وتغول الفصل العنصري الإسرائيلي، كما يشكل التقرير خرقا لـ"حل الدولتين" حين لا يكتفي بنقد سياسة الاستيطان واعتبارها سياسة لا شرعية، الأمر الذي بات مجرد بروتوكول دولي، ومخرج تُشرعن من خلاله إسرائيل جرائمها بحق الفلسطينيين بحجج أمنية وديمغرافية، حين يتعامل مع فلسطين بوصفها وحدة قانونية وديمغرافية تمارس إسرائيل فيها جريمتي الفصل والتمييز العنصريين اللتين يمتد أثرهما ليطاول اللاجئين الفلسطينيين في الشتات. 

يبقى التقرير حتى الآن الأكثر شمولا وصرامة، وعدالة أيضا. معنويا، وفيما يخص حق العودة فإن التقرير يعيده إلى الواجهة مجددا بعدما بدا أنه غرق في غياهب النسيان، خصوصا بعد تفتت المجال السوسيولوجي للاجئي الشتات، قبل الربيع العربي وبعده. والمسألة المهمة هي كيف يمكن للاجئي الشتات والمتضامنين مع قضيتهم استثمار هذا التقرير في حدود أدواتهم القانونية والسياسية لضمان ملاحقة الاحتلال ومحاسبته على ما ارتكبه من جرائم بحقهم. فالتقرير يشكّل منطلقا لمحاسبة إسرائيل في المحافل الدولية والمسؤولين الإسرائيليين أمام المحاكم المحلية في عديد من دول. لكن إذا كان الثاني ممكنا بجهود المنظمات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني الفلسطينية وغيرها، فإن المهمة الأولى لا تبدو ممكنة من دون السلطة الوطنية التي تمثّل الفلسطينيين أمام المجتمع الدولي، لكن لاجئي الشتات مطروحون من هذا التمثيل، ولم يعد بإمكانهم التعويل على منظمة التحرير الفلسطينية في ظل حالة الشلل التي تعاني منها مؤسساتها وتداخلها المربك مع مؤسسات السلطة، مما يشكل عائقا أمام أي مسعى لإحالة قضية اللاجئين، بدفع من هذا التقرير، إلى محكمة الجنايات الدولية مثلا أو متابعته مع المنظمات الدولية الأخرى. وعموما تبدو فرص الاستفادة من هذا التقرير من أجل مختلف القضايا ومن أجل إدانة مرتكبي الجرائم الإسرائيليين وملاحقتهم قانونيًّا، كما جرى في حالة جنوب أفريقيا فرصا ضعيفة، بسبب غياب إرادة دولية حقيقية لوضع حد للممارسات العنصرية الإسرائيلية، ولأن المشروع السياسي للسلطة الفلسطينية الوحيد المدعوم دوليا والمحدود بسقف "أوسلو" يفرض تباطؤا في التحرك بما يخص الملفات المتعلقة بالجنائية الدولية لصالح إنعاش العملية السياسية. وفي غير مرة تمت التضحية بتلك الملفات لصالح "بناء الثقة"، ولنا في تقرير "غولدستون" (2009) وغيره من التقارير عبر. 

ملف اللاجئين الفلسطينيين وعودتهم ملف معقد، مما جعله مؤجّلا، قضيةً من قضايا "الوضع النهائي"، والذي يفرض سقف "أوسلو" التفريط فيه لصالح الحفاظ على المعجّل؛ "حل الدولتين"، الذي لايزال إلى الآن وهما وسرابا. أما استثمار التقرير للضغط على اليمين الإسرائيلي للعودة إلى طاولة المفاوضات فلا ضمانات تجعل منه استثمارًا ناجحًا.


 

المساهمون