حملة شرسة تشنها الإمبريالية الغربية على دولة قطر، إثر استضافتها مونديال كأس العالم، تتشدق الحملة بالدفاع عن الحقوق العمالية والإنسانية، مسلطةً الضوء خصوصاً على حرية التعبير عن الميول الجنسانية، رغم أن غالبية الدول المشاركة في هذا المونديال لا تضمن تلك الحقوق، بل تضطهد العمال داخل أراضيها؛ فرنسا، التي تقود هذه الحملة، لا تزال حتى يومنا هذا تعبث في أفريقيا، لتنهب ما تيسر من ثرواتها، على حساب الطبقة العاملة.
الغرب؛ الذي استعر جنونه إثر استضافة دولة عربية هذا المونديال، يتناسى جريمته الكبرى في الشرق الأوسط، المتمثلة بإنشاء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، واستمرار دعمه اللامحدود وغير المشروط لهذا الكيان، رغم اعترافه بعدم قانونية الاحتلال في الأراضي المحتلة عام 1967.
الجرائم الصهيونية؛ التي يستمر اقترافها ليلاً ونهاراً تجاوزت كونها مجرد انتهاكات حقوقية، في فلسطين تدور حرب إبادة وتطهير عرقي ونكبة مستمرة منذ 74 سنة، ورغم هذا لم نشهد حملة محمومة كتلك التي تواجهها قطر اليوم!
الغريب أن كل التقارير الأممية تعترف بجرائم "إسرائيل" في فلسطين المحتلة، من دون أن يحرك هذا حكومات الدول التي تدعي اليوم الدفاع عن الحرية والإنسانية. بل لا تزال تلك الدول تحتفي بالكيان الصهيوني، سواء في المحافل الرياضية أو غيرها، وترفض أية مبادرات أو دعوات تسعى لفرض مقاطعة دولة الاحتلال عقاباً على جرائمها.
الغرب يكاد يفقد صوابه؛ إثر منع احتساء المشروبات الكحولية خلال المباريات، وحظر رفع علم مختلفي التوجهات الجنسية، متجاهلاً أن "إسرائيل" صادرت ما يعتبر أساس الحقوق الإنسانية كافة، وهو الحق في الحياة!
انتهاك حق الوجود المحض
حقوق الإنسان لا يمكن اختزالها في قبلة على ناصية الشارع، أو احتساء كأس على الرصيف. ماذا عن الحق في الحياة، في الوجود المحض؟ ذلك الحق الذي ينتهكه الاحتلال الصهيوني منذ 74 سنة على مرأى ومسمع العالم أجمع، دون أن يواجه ما تواجهه اليوم دولة عربية عملت على استضافة كأس العالم.
لا يزال الشعب الفلسطيني يواجه جرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية حتى اليوم، فضلاً عن الفصل العنصري، والإعدامات الميدانية، وكل مظاهر القهر والاضطهاد، بدعم مطلق؛ غير مشروط، من كلتا الإمبرياليتين الأميركية والأوروبية، رغم تشدقهما بعكس ذلك على المستوى النظري، فالكيان الصهيوني لم يواجه حتى اليوم أية عقوبات دولية حقيقية على جرائمه المستمرة.
الاحتلال، هو الشيطان الأكبر في منطقة الشرق الأوسط، الذي لا تزال دول العالم تحتفي ببعثاته الرياضية، فيما نجدها اليوم تتشدق بشعارات فارغة، تتجاهل ترجمتها على أرض الواقع.
في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، بدأت لجنة التحقيق بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، التابعة لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، جلسات استماع في جنيف، بغرض التحقيق في انتهاكات إسرائيلية للقانون الإنساني الدولي في الأراضي المحتلة والقدس، إثر إغلاق عدد من المنظمات الحقوقية الفلسطينية في شهر أغسطس/ آب الماضي، واغتيال الصحافية في قناة الجزيرة، شيرين أبو عاقلة، في مايو/ أيار الماضي. مثل هذه الانتهاكات البشعة، لم تستحوذ على اهتمام حكومات العالم المدعية، التي لا تحركها إراقة الدماء كما تحركها كرة القدم!
أدان خبراء أمميون، في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إجراءات إسرائيل العقابية "السادية" بحق المدافع الحقوقي الفلسطيني-الفرنسي صلاح حموري؛ وفق موقع الأمم المتحدة، غير أن فرنسا مشغولة، على ما يبدو، بمراقبة الملاعب الرياضية، لدرجة تمنعها من اتخاذ موقف حقيقي تجاه الانتهاكات التي يتعرض له أحد رعاياها.
آخر ما صدر من تقارير عن الأمم المتحدة، يؤكد أن "إسرائيل ليس لديها نية لإنهاء الاحتلال"، أيضاً "تسعى للسيطرة الكاملة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية، التي استولت عليها في حرب عام 1967". ويقول التقرير إن "إنهاء الاحتلال وحده لن يكون كافياً"، مطالباً باتخاذ "إجراءات إضافية لضمان المساواة في التمتع بحقوق الإنسان".
هذا ما تقوله الأمم المتحدة بأم لسانها، دون أن نشهد حملات شرسة، ودعوات ضاغطة لمقاطعة "إسرائيل"، فالكيان الصهيوني "يحق" له ما لا يحق لغيره، في وجهة نظر تلك الحكومات الانتهازية المخادعة.
هيومن رايتس ووتش؛ نشرت أيضاً تقريراً من 192 صفحة، أكدت فيه أن "السلطات الإسرائيلية ترتكب جرائم ضد الإنسانية، تتمثل بالفصل العنصري والاضطهاد ضد ملايين الفلسطينيين". أشار التقرير إلى أن "هناك سياسة حكومية إسرائيلية شاملة تسعى للحفاظ على هيمنة الإسرائيليين اليهود على الفلسطينيين في جميع أنحاء إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، وانتهاكات جسيمة مرتكبة ضد الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية".
حتى وزارة الخارجية الفرنسية؛ نشرت على موقعها الرسمي، في شهر فبراير/شباط من هذا العام، تقريراً لمنظمة العفو الدولية بعنوان "الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين: نظام هيمنة قاسٍ وجريمة ضد الإنسانية"، دون أن تتخذ أية حكومة غربية ما يذكر من أجل وقف تلك الانتهاكات المستمرة، كأن الشعب الفلسطيني خارج معادلة حقوق الإنسان، بل كأن لا يملك حتى الحق في الحياة!
اعتقال الطفولة وجحيم العمل
في فلسطين المحتلة، كل طفل يذهب إلى مدرسته، وكل عامل ينتظر دوره أمام حاجز التفتيش، هو مشروع شهيد أو أسير أو ضحية قمع وتنكيل في أحسن الأحوال. وفق تقرير صادر عن نادي الأسير الفلسطيني، في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، بمناسبة يوم الطفل العالمي، اعتقلت قوات الاحتلال 750 طفلاً، بينهم جرحى، خلال عام 2022 فقط، كذلك لا يزال هناك 160 طفلاً في أقبية السجون الصهيونية حتى اليوم، بينهم 3 فتيات وخمسة أطفال تحت نير الاعتقال الإداري، دون تهمة أو أية أحكام قضائية. بمثل هذه الانتهاكات "تصون إسرائيل" حقوق الطفل، فيما تواجهها حكومات العالم بكل ما أوتيت من صمتٍ بشع!
الاحتلال، هو الشيطان الأكبر في منطقة الشرق الأوسط، الذي لا تزال دول العالم تحتفي ببعثاته الرياضية، فيما نجدها اليوم تتشدق بشعارات فارغة
أما بالنسبة إلى العمال، فلا حقوق لهم في دولة الاحتلال، إذ يعاني العاملون في المناطق الصناعية؛ وفق مركز المعلومات الوطني الفلسطيني "وفا"، كل أشكال الاستغلال والتنكيل والاضطهاد، فضلاً عن ساعات العمل الطويلة، والتعرض للمخاطر والمبيدات والمواد الكيماوية، والضغط النفسي والإساءة الدائمة، والعمل في المهن الشاقة والخطرة، والطرد، وخاصةً بعد التعرض لإصابات في أثناء العمل، وعدم دفع بدل أيام الغيابات الناتجة من الإصابة، إضافة إلى تشغيل الأطفال في الأعمال الخطرة والضارة بالصحة، وتشغيل النساء في ظل شروط وظروف عمل غير لائقة.
من الانتهاكات الأخرى التي يشير إليها المركز في تقريره، انتهاك الحق في الوصول الطبيعي والحر إلى العمل، والحق في التعامل بكرامة إنسانية على الحواجز والمعابر، والحق في شروط عمل لائقة، إضافة إلى الاستغلال على أيدي سماسرة التصاريح، والتمييز في الأجور عن الإسرائيليين، والتلاعب في أيام العمل، فضلاً عن النصب والاحتيال، وظروف العمل غير الآمنة. أما العمالة غير المنظمة داخل الخط الأخضر، فلا توجد لها أية حقوق على الإطلاق، فمن يتعرض منهم لإصابة عمل لا يتلقَّ حتى العلاج!
هذه هي "حقوق" الأطفال والعمال والمرأة في فلسطين المحتلة، التقارير الدولية تشير دوماً إلى بعض ما تمارسه "إسرائيل" من انتهاكات حقوقية مستمرة، وجرائم ضد الإنسانية، وحرب إبادة وتطهير عرقي ضد الشعب الفلسطيني. فهل نشهد مطالب دولية تضغط على الأقل، من أجل فرض عقوبات على دولة الاحتلال ومقاطعتها؟ أم أن الفلسطيني، والعربي عامةً، ليس إنساناً بالنسبة إلى هذه الحكومات العنصرية التي تزعم، زيفاً، الدفاع عن حقوق الإنسان والعمال، استناداً إلى لعبة المعايير المزدوجة، التي يحركها هدف واضح يتعلق بحرب الغاز، والضغط من أجل توريده بكميات مضاعفة، ووفق أسعار تروق الإمبريالية العالمية.