يشعر المستوطنون بنشوة كبيرة بعودتهم أخيراً تحت غطاء رسمي إلى مستوطنة "حوميش"، شمالي الضفة الغربية المحتلة، وهي إحدى المستوطنات الأربع التي أخليت عام 2005 ضمن قانون "فك الارتباط"، الذي شمل أيضاً إخلاء مستوطنات في قطاع غزة في حينه، لكن الكنيست الإسرائيلي عاد وألغاه في مارس/ آذار الماضي.
وبسماح المستوى السياسي في إسرائيل بنقل معهد ديني كان مقاماً على أرض فلسطينية خاصة، إلى ما يُسميه الاحتلال "أراضي دولة" في "حوميش"، يكون قد أطلق العنان للمستوطنين لإقامة المزيد من البؤر الاستيطانية، وفتح شهيتهم المشبّعة بالكراهية والعنصرية لشن مزيد من الاعتداءات على الفلسطينيين وممتلكاتهم في شمال الضفة الغربية.
وقد تمثّل "حوميش" البداية بالنسبة للمستوطنين، الذين يضعون نصب أعينهم العودة إلى المستوطنات الثلاث الأخرى المُخلاة في إطار قانون "فك الارتباط"، وهي "كاديم" و"سانور" و"غانيم". وبحسب المعطيات الإسرائيلية، لدى إخلاء هذه المستوطنات في 2015، كانت توجد 30 عائلة في "غانيم"، و25 في "كاديم"، و30 في "حوميش" و15 في "سانور"، بمجمل 680 مستوطناً.
وتتبع المستوطنات لنفوذ المجلس الإقليمي الاستيطاني "شومرون". وتقع المستوطنات الأربع على مسافة قريبة من جنين، وتطل على عدة بلدات ومناطق، وفي مواقع استراتيجية للاحتلال، كونها تؤمّن السيطرة على طريق جنين – نابلس، كما تحاذي العديد من القرى الفلسطينية.
وأقيمت مستوطنة "حوميش" في 1981، على مساحة 923 دونماً، على السفوح الشمالية لجبال الضفة الغربية، بهدف السيطرة على طريق نابلس – جنين. أما "غانيم" فأقيمت في 1983 على بعد نحو 5 كيلومترات جنوب شرق جنين ضمن مشروع سلسلة مستوطنات لتمزيق شمال الضفة وفرض السيطرة الأمنية على المنطقة.
يتسحاق كروزر: ما حدث في "حوميش" "يوم عيد لنا جميعاً"
وأُنجزت مستوطنة "كاديم"، التي اشتق اسمها من قرية بيت قاد الفلسطينية المقامة شمالها، في العام 1984، بعد ثلاث سنوات من انطلاق العمل بها، على مساحة 332 دونماً وعلى مسافة 3 كيلومترات شرق محافظة جنين. أما مستوطنة "سانور"، فاشتقت اسمها من قرية صانور الفلسطينية الواقعة شمال غرب قرية جبع في شمال الضفة. وأقيمت أيضاً ضمن سلسلة المستوطنات الرامية للسيطرة على طريق جنين ــ نابلس، على مساحة 68 دونماً.
دعم من حكومة الاحتلال للمستوطنين
ويبدو طريق المستوطنين معبداً نحو تحقيق أهدافهم، بفعل الدعم الذي يحظون به من حكومة الاحتلال، وخاصة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي استخدم نفوذه للتأثير على المستوى العسكري، بالسماح للمستوطنين بدخول "حوميش" ونقل غرفة متنقلة إليها وإقامة المعهد الديني.
يأتي هذا على الرغم من تعارض ذلك حتى مع القوانين الإسرائيلية نفسها، إذ يحتاج الأمر إلى تصاريح وتراخيص من الجهات المعنية بالبناء على "أراضي دولة"، كما توصف إسرائيلياً، ومنها موافقة ما يُسمى بـ"الإدارة المدنية" للاحتلال في الضفة الغربية.
لكن من دون انتظار حتى المصادقات من المؤسسات الإسرائيلية، تم الأمر بأمر من وزير الأمن الإسرائيلي يؤاف غالانت، وبعلم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وحوّل المستوطنون، على مر العقود الماضية، حياة الفلسطينيين إلى جحيم، من خلال شن اعتداءات يومياً، وإحراق بيوتهم وحقولهم وسائر ممتلكاتهم، بل حتى الغدر بهم وهم نيام، مثلما حدث في الجريمة التي نفذها مستوطنون بحق عائلة دوابشة في قرية دوما، جنوب نابلس، في يوليو/ تموز عام 2015، ما أدى إلى استشهاد الزوجين سعد وريهام وطفلهما الرضيع علي، فيما أصيب الطفل أحمد بحروق بالغة الخطورة ونجا من الموت، لكن آثارها باقية على جسده وفي قلبه.
لكن انفلات المستوطنين وإرهابهم لم يتوقف، بعد تلك الواقعة. ففي مساء الثلاثاء الماضي، هاجمت مجموعة منهم قرية جالود، جنوبي نابلس، شمالي الضفة الغربية، وأحرق أفرادها بيوتاً ونشروا الرعب بين الصغار والكبار، فيما يقف جيش الاحتلال متفرجاً في أحسن الأحوال، وغالباً ما يجد طريقه لمؤازرة المستوطنين في أفعالهم.
ازدراء بالإدانات الدولية
وتنقض دولة الاحتلال بسماحها للمستوطنين بالعودة إلى مستوطنة "حوميش" تعهداتها التي قطعتها في قمتي العقبة في فبراير/ شباط الماضي وشرم الشيخ في مارس/ آذار الماضي، بعدم الإقدام على خطوات من شأنها زيادة التوتر في الضفة الغربية، بما في ذلك إقامة مستوطنات جديدة أو توسيع أخرى قائمة.
وهي التعهدات التي حصلت على طابع رسمي، وإن كانت لم تطبق على أرض الواقع. كما أن النكث بها بات فاضحاً أكثر اليوم. كما نكثت بتعهداتها لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بعدم عودة الاستيطان إلى "حوميش"، بحسب ما ورد في بيان عممته وزارة الخارجية الأميركية يوم الإثنين الماضي.
وعلى الرغم من الانتقادات الدولية التي طاولتها عقب سماحها بإعادة المستوطنين إلى "حوميش" وقبل ذلك إلغاء قانون "فك الارتباط"، إلا أن دولة الاحتلال ماضية في هذا الأمر، غير مكترثة، على ما يبدو، حتى لإدانة واشنطن لخطواتها واعتبارها خطوات تل أبيب نكثاً للعهد.
وتشير إلى ذلك تصريحات عدة مسؤولين في الأيام الأخيرة لوسائل الإعلام. ويقول مستشار الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي لإذاعة جيش الاحتلال، الثلاثاء الماضي: "لا أعرف عن أي نكث للعهد يتحدثون (أي الأميركيين). لم يكن هناك أي التزام يتعلق بعدم نقل مبنى معهد ديني من مكان معيّن ادعى الفلسطينيون - ربما بحق - أنه أرض خاصة، إلى أرض أخرى هي أراضي دولة".
ويصف النائب في الكنيست الإسرائيلي يتسحاق كروزر، من حزب "عوتسما يهوديت" (القوة اليهودية)، بزعامة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، في تصريح لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، أول من أمس الثلاثاء، ما حدث في مستوطنة "حوميش" بأنه "يوم عيد لنا جميعاً".
واستنكر تنديد الولايات المتحدة بالخطوة الإسرائيلية، قائلاً: "نحن نحترمها (أميركا)، لكن صديقتنا الحميمة تدخّلت بما لا يعنيها. فلتلفت الولايات المتحدة إلى شؤونها الداخلية وتدع إسرائيل لتعالج شؤوننا الداخلية في أراضينا ووطننا". واعتبر كروزر أن "تعهدات نتنياهو ملزمة فقط إزاء مواطني الدولة الذين انتخبوه، من أجل عدة أمور، من بينها إلغاء قانون فك الارتباط في شمال الضفة الغربية".
ضوء أخضر لإقامة بؤر استيطانية
وليس مستبعداً أن تؤدي عودة الاستيطان في "حوميش" إلى سلسلة من عمليات الاستيلاء على أراضٍ فلسطينية لإقامة بؤر استيطانية جديدة، أو توسيع بؤر قائمة وتصرف المستوطنين على هواهم، مغتنمين رياحهم التي هبت بقوة، في ظل الحكومة الحالية، التي يجدون فيها ممثلين رسميين عنهم، يغذون خططهم وأفكارهم ويمنحون شرعية لانفلاتهم، وأن يكون ما يحدث في "حوميش" بمثابة الضوء الأخضر لذلك.
هرئيل: داغان وسموتريتش الرجلان القويان بقضية "حوميش"
وفي الحسابات الأمنية الإسرائيلية، لا بد أن تتطلب مثل هذه الخطوات انتشاراً أكبر لقوات الاحتلال في الضفة الغربية لحماية المستوطنين، خصوصاً في فترة تصاعدت فيها العمليات الفلسطينية ضد الاحتلال، بالتوازي مع التصعيد الذي ينتهجه الاحتلال بالاقتحامات والاعتقالات والاغتيالات المتكررة في أرجاء الضفة الغربية.
دولة ثنائية القومية
ويعقّد الاستيطان الذي اكتسب تسارعاً كبيراً في السنوات الأخيرة بشكل خاص، "فك الارتباط" عن الضفة الغربية، ويقضي على أحلام من يؤمنون بمعادلة "دولتين لشعبين" في الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، عدا عن تحويله حياة الفلسطينيين إلى جحيم. وتبدي أوساط إسرائيلية خشية من فقدان الطابع الصهيوني لدولة الاحتلال والأكثرية اليهودية فيها، وتأتي معارضتها للاستيطان وإلغاء قانون "فك الارتباط" من هذا الباب.
ويرى أريه فيلمان، عضو حركة "ضباط من أجل أمن إسرائيل"، والذي شغل سابقاً منصب نائب رئيس في جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)، أن "حوميش" حجر الزاوية لدولة ثنائية القومية ونهاية الحلم الصهيوني، كما يؤمن به هو وآخرون.
ويعتبر فيلمان، في مقال نشره في صحيفة "هآرتس" الثلاثاء الماضي، أن "إخلاء حوميش عام 2005، جاء بهدف الانفصال عن الفلسطينيين (جغرافياً وديمغرافياً) قبل الوقوع في فخ الدولة ثنائية القومية (إذ عندها يصبح الفصل مستحيلاً)، وبالتالي فقدان الأغلبية اليهودية في دولة إسرائيل"، لأنه عندها ستتحول إسرائيل إلى دولة واحدة ثنائية القومية، تضم الإسرائيليين والفلسطينيين.
ويحذّر فيلمان، في مقاله الموجّه للإسرائيليين والمسؤولين في دولة الاحتلال، من أن "إقامة سلسلة مستوطنات في أوساط الفلسطينيين في الضفة الغربية، سيؤدي إلى عدم وجود إمكانية للفصل بين الشعبين، وعليه سيتوجّب على حكومة إسرائيل الاختيار بين أمرين أحلاهما مُر، ويقود إلى نهاية الحلم الصهيوني، فإما منح مساواة مدنية كاملة لملايين الفلسطينيين (في الدولة الواحدة)، وبالتالي التخلي طواعية عن الطابع اليهودي لوطننا، أو سلبهم حقوقهم، وخلق واقع من الفصل العنصري والتنازل عن الديمقراطية الإسرائيلية"، على حد تعبيره.
فرض أمر واقع
وتحمل قضية "حوميش" أيضاً مؤشرات بشأن ميزان القوى داخل حكومة الاحتلال، ومدى تأثير سموتريتش على قراراتها، مع مختلف أقطاب الصهيونية الدينية والقوى المحسوبة إسرائيلياً على "اليمين المتطرف". ويقول المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس" عاموس هرئيل، أول من أمس الثلاثاء، إن الرجلين القويين في قضية "حوميش" هما رئيس مجلس "شومرون" الاستيطاني يوسي داغان، الذي دفع باتجاه نقل المعهد الديني (من مكانه إلى ما يُسمى "أراضي دولة") ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي يمنحه المظلة الحكومية، بصفته وزيراً في وزارة الأمن أيضاً، حيث يبذل جهوداً كبيرة لإرضاء ناخبيه.
ويستذكر هرئيل ما نُشر في الصحيفة نفسها في الأسبوع الماضي بأن سموتريتش يطمح إلى تعزيز الاستيطان في الضفة الغربية بنحو نصف مليون مستوطن جديد، الأمر الذي يعبّر عن رؤيته وطموحاته.
ويعتبر الكاتب أن نقل المعهد الديني استعراض للقوة من قبل سموتريتش، خاصة من خلال "البناء غير القانوني على أرض دولة توجد في المكان الأخير على سلم أولويات الإدارة المدنية، ولذلك من الصعب الاعتقاد بأنها ستُخلى يوماً ما من الموقع الجديد، تماماً مثلما هو الأمر بشأن بؤر استيطانية أخرى. المستوطنون فرضوا أمراً واقعاً".