العلاقة مع إسرائيل: تطبيع أم هيمنه؟

العلاقة مع إسرائيل: تطبيع أم هيمنه؟

25 سبتمبر 2022
يهود مناهضون للصهيونية يحتجون على تسمية ميدان في فيينا باسم "هرتزل" في 2004 (فرانس برس)
+ الخط -

يكتنف كلمة "التطبيع" المتداولة بين النخب العربية الكثير من الغموض وعدم الوضوح، فمنهم من يهاجم التطبيع القائم بين بعض رموز النظام العربي والدولة الصهيونية، ومنهم من يبرر التطبيع ويسوق أسبابه التي لا يعدم الوسيلة لتأصيلها وقوننتها. الأهم من ذلك، إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة، تبرر "التطبيع" وتزيّن عوائده على المطبعين، وأميركا تكافئ المطبعين بتدفق الخير الوفير، الذي سوف يغمرهم، فضلاً عن الرضا العميم.

في ظنّي؛ هناك حلقة مفقودة في النقاش الدائر حول التطبيع، مفادها كيف نشأت الصهيونية ابتداءً؟ إذا رجعنا إلى إنجيل الصهيونية؛ كتاب تيودور هرتزل "دولة اليهود"، ربما نجد فيه الجواب. في أواخر القرن التاسع عشر؛ العصر الذي نشأ فيه هرتزل، بدأت حركة التنوير في أوروبا، التي بدأ فيها تنظيم العلاقة بين الحاكم وشعبه، وظهرت الدساتير التي تنظم الحقوق والواجبات، ونشأت الحركات الفكرية التنويرية، وبدأ التركيز على حرية الأفراد والتخلص من هيمنة الكنيسة، الأمر الذي مهد لعصر اندماج اليهود الأوروبيين في مجتمعاتهم؛ بالتالي انحسار موجات العداء للسامية، وخروج اليهود من الغيتوات.

أسس هرتزل مشروعه على محاربة الاندماج، أي محاربة التطبيع

انتقل المجتمع الأوروبي؛ الذي عبرت عنه مسرحية شكسبير "تاجر البندقية" في القرن السادس عشر، إلى مرحلة التطبيع مع اليهود، وبدأت مرحلة قبول اليهودي في المجتمع، اعتباراً من أولوية الفرد وحقوقه وإنجازاته، بغض النظر عن دينه وجنسه وخلفيته القومية أو الإثنية. إنها مرحلة التحرر والاندماج (assimilation).

ظهرت الصهيونية كرد فعل على حركة الاندماج والتطبيع، أي نقيضاً للتطبيع، كان تيودور هرتزل صريحاً حين كتب: "لقد تحدثت سابقاً عن الاندماج، وأنا لا أتمنى ولو للحظه أن نصل إلى تلك النهاية. ربما نكون قادرين على الاندماج في الأجناس المحيطة بنا، إذا تركتنا هذه الأجناس نعيش بسلام لجيل أو جيلين، لكنهم لن يتركونا". هذه أطروحة هرتزل الأساسية، معاداة السامية أصيلة في جميع المجتمعات، سواء كان العداء ظاهراً أو مخفياً، هو موجود دائماً.

يقول هرتزل؛ العداء الذي يحيط بنا يجعلنا دائماً غرباء، كما طرح شعاراً هاماً "اليهود شعب.. شعب واحد"، كي يطالب بـ"حق تقرير المصير"، واعترف بأن طرحه هذا الشعار يعيق حركة الاندماج، وإذا اندمج اليهود في مجتمع ما، فإنه يهدد ذلك الاندماج. باختصار؛ على نحوٍ لا يقبل التأويل، أسس هرتزل مشروعه على محاربة الاندماج، أي محاربة التطبيع.

لم يكن هرتزل وحيداً في هذا السياق؛ إذ سبقه مفكرون يهود يحملون أفكاراً مشابهة مثل ماكس نوردو وليوبنسكر وموسى هيس ظهروا كرد فعل على عملية الاندماج، وأصروا على أن عداء السامية غريزة أوروبية لن تختفي، سيبقى الأوروبيون ينظرون إلى اليهود عنصرا أجنبيا، ولو اختلفت درجة نظراتهم ومواقفهم.

ربما كان هرتزل أشدّهم ذكاءً؛ حين اعتبر أعداء السامية القاطرة التي سوف تقود اليهود إلى بناء دولتهم، لأن مصلحتهم تقتضي التخلص من اليهود الموجودين في مجتمعاتهم.

إذا اتفقنا على أن ظهور الحركة الصهيونية كان نقيضاً لعملية الاندماج والتطبيع، تغدو إقامة المشروع الصهيوني "دولة إسرائيل" تجسيّداً لهذه الفلسفة. بالتالي يجب النظر إلى عملية التطبيع؛ القائمة حالياً بين بعض رموز النظام العربي وإسرائيل، من ذات المنظور.

إذ لا يمكن لدولة تأسست من أجل محاربة التطبيع أن تسلك سلوكاً مطبعاً مع الآخرين، لأن فلسفة إنشائها تقوم على "عدم الاندماج" و"عدم التطبيع". فما الذي يحدث بين النظام العربي والنظام الصهيوني؟

ببساطة، تحت شعار التطبيع، تهيمن إسرائيل على الإقليم وتصبح هي الدولة الكبرى فيه. الوقائع تؤكد ذلك، كانت إسرائيل تحتل سيناء، بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد أصبحت عملياً تحتل القاهرة، إذ لا تستطيع مصر تحريك مدرعه أو كتيبه عسكرية إلى سيناء إلاّ بموافقة إسرائيل، هذا ما نشاهده اليوم في التحركات المصرية لمحاربة الحركات المسلحة في سيناء، حيث يتم التنسيق بين القوات المسلحة المصرية والإسرائيلية من أجل إرسال قطعات عسكرية مصرية إلى سيناء.

في اتفاقيات أبراهام، تحولت هذه الدول إلى محطات تجسس إسرائيلية على إيران، ووضعت استثماراتها بيد الإسرائيليين

في معاهدة وادي عربة، أقرّت إسرائيل بالدور الأردني بالمقدسات الإسلامية في القدس، في حين نشاهد يومياً استباحة المستوطنين للمقدسات، دون أن يحرك الأردن ساكناً سوى الشجب والاستنكار، تدريجياً بدأت الولاية الهاشمية في القدس تتآكل. عوضاً عن اتخاذ الأردن خطوات تعبّر عن غضبه من السلوك الإسرائيلي، يوقع الأردن على اتفاقيات الغاز والماء مع إسرائيل، ما يجعله رهينة رغبات دولة المستوطنين في قطاعين استراتيجيين.

في اتفاقيات أوسلو، وقعت القيادة الفلسطينية؛ عملياً؛ على وثيقة استسلام، وتحوّلت قوات الثورة إلى حراس لسلطة الاحتلال وسلطة المستوطنين، يقر محمود عباس؛ في أكثر من مناسبه، أنه لا يستطيع الوصول إلى مكتبه، دون إذن من ضابط الاحتلال.

في اتفاقيات أبراهام، تحولت هذه الدول إلى محطات تجسس إسرائيلية على إيران، ووضعت استثماراتها بيد الإسرائيليين. التطبيع مع المغرب؛ قناة لمدّ النفوذ الصهيوني والتسلل إلى الجزائر؛ القلعة العربية الأخيرة في وجه التمدد الامبريالي في العالم العربي.

يجب متابعة أوضاع السودان العظيم جيداً، حيث تحاول ثورته الشعبية المجيدة فضح طغمة العسكر، الذين يتواطؤون مع بعض الإبراهيميين من أجل دخول بيت الطاعة الإسرائيلي.

المؤكد؛ إسرائيل ترفض "التطبيع"، بمعنى إقامة علاقات متساوية بين دول ذات سيادة، إذ يجب أن تهيمن وتملك اليد العليا في الإقليم؛ الدولة الكبرى.

الموقف الإسرائيلي المتشدد من إيران في المفاوضات الجارية حالياً في فيينا، أمر لافت، حيث ترفض إسرائيلي أن تصبح إيران ندّاً لها في الإقليم، إذ تسعى إسرائيل إلى أن تكون القوة الكبرى التي لا شريك لها في السيطرة على الإقليم، ولابدّ من نزع القوة النووية الإيرانية قبل انتقالها إلى باكستان، لنزع سلاحها النووي كذلك فيما بعد.

إن الحديث عن التغلغل الصهيوني في الوسط العربي متشعب، ويأخذ أشكالاً مختلفة، بمساعدة النظام العربي بما فيه النظام الفلسطيني، هنا تكمن أهمية حركة المقاطعة الـ BDS، وضرورة دعمها، وفضح ممارسات النظام العربي، والتحذير المستمر من توسع الهيمنة الصهيونية، بعدما عمق مشروع أوسلو الهيمنة الإسرائيلية بأدواته الفلسطينية الرسمية.