الدفاع المشترك: أحلامٌ أوروبية بحبرٍ على ورق

28 فبراير 2018
لم تتمكن ألمانيا وفرنسا من التعمية على خلافاتهما(فرانس برس)
+ الخط -
تأخذُ أوروبا في هذه الأيام على محمل الجدّ قضية الدفاع المشترك، لكن جبل التصريحات المتلاحقة والإعلانات الرنانة، لم يتمخّض سوى عن فأر. وإذا كان من صفةٍ تختصرُ حالة القارة اليوم، فلا أفضلَ من أوروبا الحائرة، وهي حيرةٌ لها مبررات. فحين تلتقي أخطارُ الحروب التقليدية، مع تحديات العصر، يُصبح البحثُ عن الأفكار، ولو حبراً على ورق، طوقَ نجاة. هكذا، تلتقط "أوروبا القوية"، أنفاسها، ليعود إلى الواجهة حديثٌ قديم، دونه معوقات كثيرة، في الداخل الأوروبي، كما في خارجه.

ويتعثر المشروع الأوروبي، منذ زمن، لبناء سياسةٍ مشتركةٍ للدفاع. الجيش المُوحد، هو مفردة "تابو" في عرف حلف شمال الأطلسي. وعلى المنابر، ملّ جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية، من المطالبة بمقرٍّ لقيادةٍ أوروبية مشتركة، متجاهلاً أن غياب الرؤية الدفاعية المشتركة، يستبق المقرات في خلق أسباب الأزمة.

ففي النسخة المُحّدثة للعشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، تتصدر روسيا – فلاديمير بوتين لائحة الأخطار المُحدقة بالاتحاد الأوروبي، لتنتهي بالهجمات الإلكترونية والتغيّر المناخي وانتشار الأوبئة، وبينها كلها الانكفاء الأميركي الذي يُصدّره نموذج (الرئيس الأميركي) دونالد ترامب، والإرهاب، وفوضى "المتوسّط" والشرق الأوسط. لكن الأهم، في قاموس الاتحاد الأوروبي، ما يُروج له الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، من أن عدم قدرة أوروبا على حماية نفسها، هو المسؤول عن تنامي موجة ظهور الأحزاب المعادية للـ"إستبلشمنت"، في كل أنحاء القارة.

جنينٌ دفاعي

ولأن "الإستبلشمنت" ضروري لبقاء "الاتحاد"، تعكف أوروبا، منذ وقت، على بلورة نموذجٍ لدفاعٍ مشترك، تُطمئن "الأطلسي" بأنه سيكون سنداً له، وليس منافساً. المتفائلون، يشرحون أن الدفاع الأوروبي، حتى اللحظة، هو ليس جيشاً، بل جنينٌ سياسي للأمن والدفاع، يعمل تحت لوائه 349 ألف جندي في ست مهمات عسكرية خارج الحدود: مهمتان للتدريب في الصومال ومالي، عملية "أتلانتا" لمحاربة القرصنة في القرن الأفريقي، مهمة تدريب في جمهورية أفريقيا الوسطى، عملية "صوفيا"، ومقرها روما، لمحاربة تهريب المهاجرين عبر "المتوسط"، و"أوفور أتييا" في البوسنة لتثبيت "اتفاق دايتون". والأخيرة لا تزال بلباس "أطلسي" بنسبة كبيرة، رغم تبديل الأسماء في العام 2004.

هكذا، يرى المُرحبون بفكرة الدفاع الأوروبي، أملاً، مع وجود نواة، ولو متواضعة، لعملٍ مشترك. تماماً كما يرون في "بريكست" تخلّصاً من عبءٍ ثقيل، كون بريطانيا شكّلت دائماً الرافعة لشعار الـ"كلا"، في وجه أيّ مشروع أوروبي من هذا النوع. ويعتبر هؤلاء أن خسارة 200 ألف جندي بريطاني، وحوالي 42 مليار يورو – الإنفاق البريطاني على الدفاع (فرنسا سبقت بريطانيا في العامين الماضيين بحسب معهد استوكهولم) ــ من الممكن تعويضها باتفاقيات دفاعية ثنائية، على غرار معاهدة "لانكستر هاوس" بين لندن وباريس، والتي وقّعت في العام 2010، في عهد رئيس الحكومة البريطاني السابق، ديفيد كاميرون، والرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي. كما يقولون إن بريطانيا – وهي تقول أيضاً لنفسها ــ إن إنفاقها يصبّ كثيراً في تحديث برنامج "ترايدنت" النووي، وعلى حاملتي طائرات مُكلفتين، تاركةً جيشها في عوزٍ دائم. باختصار، فإن "سياسة الأمن والدفاع المشتركة للاتحاد الأوروبي" (CSDP)، تؤمن لبريطانيا مساهمات مستقبلية عبر اتفاقية "الطرف الثالث"، الذي تستفيدُ منه الدولُ غير الأعضاء.

لكن الصورة الأشمل ليست بهذا الإشراق. فممانعة بعض الدول الأوروبية للتخلي عن أولوياتها الوطنية في مجال الدفاع، يُعرقل أولاً التوجّه الأوروبي لبناء إنتاجٍ عسكري مشترك يوائم متطلبات التحديات، ما يستدعي "الأطلسي" في كل ظرفٍ حالك، ولا يزال تدخله في ليبيا في عام 2011 ماثلاً في الأذهان. ثانياً، اختلاف الدول الأوروبية على تحديد "العدو". مثلاً، قد تشكّل بولندا نموذجاً صارخاً للمقت الذي تبديه تجاه أي تحرك أوروبي في هذا الخصوص. يقول زعماؤها، إن الطروحات الفرنسية – الألمانية مهمة، ولكنها متواضعة. فالدولتان ليستا معنيتين بـ"اجتياحٍ روسي"، وتنحصر اهتماماتهما في "الجنوب"، فيما الاتحاد الأوروبي "أضعف" من دون بريطانيا، وبغياب "القدرات والرؤية المشتركة للأخطار".

الراكب بالمجان

وبالعودة للتاريخ القريب، ورغم الجهود الفرنسية خصوصاً، لم تستطع أوروبا التخلّص من سيكولوجية التبعية للولايات المتحدة، منذ انتهاء الحرب الباردة، ما جعلها في الكثير من الأحيان "راكباً بالمجان"، وهي عبارة وصفها بها المستشار السابق للأمن القومي الأميركي زبيغنيو بريجنسكي، قبل أن يستعيرها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، بوقت طويل. في الوقت ذاته، يعمل "الأطلسي"، ومن خلفه الولايات المتحدة، على لعب دور الضحية والجلاد في آن تجاه الأوروبيين. يُذّكر الباحث الألماني بيتر فان هام، في كتابه "طموحات أوروبا الدفاعية" الجديدة، الصادر في عام 2000، مع انتهاء الحرب في كوسوفو وانطلاقة "السياسة الدفاعية والأمنية لأوروبا" (European Security And Defense Policy)، الابنة الشرعية لـ"الهوية الأوروبية للدفاع والأمن" ( ESDI1996)، بكلام الأمين العام للناتو آنذاك، البريطاني جورج روبرستون، حين قال إن "هناك دائماً نوعاً من الشيزوفرانيا في التعاطي الأميركي. هم يقولون لأوروبا إن عليكِ أن تتحملي جزءاً من التكلفة، وحين توافق، يقولون لها: هل هذا يعني أنك تطرديننا؟".

ولأن "الشيزوفرانيا" هي حالة مستمرة لأميركا، فقد تجسّدت في هجوم عنيف لترامب على المساهمة الأوروبية في أعباء "الأطلسي"، وهلعٍ أميركي في الوقت ذاته من مشروع "بسكو" (PESCO)، أو "اتفاقية التعاون الهيكلي الدائم"- 2017، التي ترى فيها فرنسا وألمانيا، النموذج الأكثر إلحاحاً في ظلّ التحديات الجديدة، التي أنتجها خصوصاً التوتر في أوروبا على خلفية الأزمة الأوكرانية، ومواقف واشنطن الجديدة في عهد ترامب، و"بريكست". الهلعُ الأميركي، الذي ينبع من الخشية من "الحمائية"، بلغ أوجه خلال مؤتمر ميونخ للأمن الذي اختتم الأسبوع الماضي، على وقع الخوف على الصناعة العسكرية المتفوقة للولايات المتحدة وتجارة "الخبرات" و"التفوق التكنولوجي العسكري".

خلافات الداخل

ولا يقل التحدي الأميركي، ومن خلفه "الأطلسي"، عن تحديات الداخل الأوروبي لبناء المشروع الأوروبي الموحد. ألمانيا وفرنسا، تبدوان، في الظاهر، كرأس حربة في هذا المجال. وكانت وزيرتا دفاعهما، أورسولا فون دير لاين وفلورانس بارلي، نجمتي مؤتمر ميونخ للأمن، عندما ركزتا على توجيه السهام إلى الحليف الأميركي، من خلال شعار "يجب أن نقف على أقدامنا".

وكان خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في السوربون في سبتمبر/أيلول من العام الماضي، قد أسس للفكرة التي تبناها خلال حملته الانتخابية، وهي التشديد على مسألة الأمن والدفاع، كعنصر أساسي لديمومة "الاتحاد". وليس ذلك سوى محاكاة لهواجس الفرنسيين غداة الإرهاب الذي ضربهم أكثر من مرة. ويقال إن فرنسا هي التي تجرّ ذيل ألمانيا للحاق بها في طموحاتها. لكن لم تتمكن الدولتان من التعمية على الخلاف بينهما، خصوصاً مع صعوبات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لتشكيل ائتلافها الحكومي، مع الاشتراكيين، المعادين لفكرة الحروب.

وكانت قلّة الصبر الفرنسي قد ظهرت العام الماضي. فحين احتفلت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني، بالتجسيد الملموس لطموحات مشروع "سياسة الأمن والدفاع المشتركة للاتحاد الأوروبي"، من خلال الإعلان عن ولادة "بسكو" لتعميق التعاون الدفاعي، و"صندوق الدفاع الأوروبي" الذي سيضخ 5,5 مليارات يورو في السنة لدعم قدرات أوروبا الدفاعية، وقبلها "المراجعة السنوية المنسقة للدفاع" (The Coordinated Annual Review On Defense)، أطلقت باريس، عبر خطاب السوربون ذاته، مشروعاً موازياً خارج صيغة "الاتحاد"، المُثقلة بالبيروقراطية وتفاوت القدرات والتمويل، وهو "مبادرة التدخل الأوروبية" (European Intervention Initiative). هذه المبادرة تسمح بالتدخل السريع، ولكنها تعرقل في الوقت ذاته جهود الاتحاد الأوروبي الدفاعية. لكن فرنسا، الخارجة من ضربات إرهابية، وبقدرات عسكرية مستنفدة، كانت ترى أن طموحات أوروبا وإعلاناتها لم ولن تترجم إلى أفعال.

وكانت قد سبقت مبادرة ماكرون بوقت طويل، مبادرة ألمانية عنوانها "مفهوم إطار الأمم"، تعود إلى العقد الماضي، تمّ تبنيها في "الأطلسي" في العام 2014. وتولّدت عن المشروع فكرة بناء "عناقيد" دفاعية تعمل على التنسيق الدفاعي برأسٍ يحدد الجهة الممولة والقوات المستخدمة. ونشأت ثلاثة أعمدة، إيطالية وألمانية وبريطانية، فيما بقيت التهمة المتداولة أن ألمانيا تريد بناء "جيش أوروبي" تحت قيادتها، من دون أن تستخدمه يوماً، لأسباب تاريخية تعود إلى توجه ألمانيا السلمي وغير العسكري.

وفي المحصلة، تتقاطع الطروحات الفرنسية والألمانية في نقاطٍ كثيرة، ولكن الريبة المتبادلة تظلّ سيدة الموقف. فأطروحة ماكرون في السوربون، التي تعتمد على ثلاثة عناوين، وهي خلق قوة تدخّل مشتركة، وميزانية دفاعية موحدة، وعقيدة عمل موحدة، ينظر إليها أوروبياً وكأنها "نبيذٌ فرنسي معتّق" في "كؤوس أوروبية"، بحسب دانيال كوهان، من معهد الدراسات الأمنية. فالـEurocorps، التي تأسست في العام 1992 على يد ألمانيا وفرنسا، بالكاد عملت يوماً. وكذلك "مجموعات المعارك الأوروبية"، التي أبصرت النور في العام 2007، ولم تحرّك ساكناً.

باختصار، يرغب الرئيس الفرنسي الحالي في لجم النزعة "الأطلسية" لدول أوروبا، وتعويضها بتعزيز "الحس الأوروبي"، آملاً من "بريكست" أن يفيده في هذا المجال. أما ألمانيا، التي لا تبخل في إظهار الشعور بالخيبة من الأميركيين، فينقصها الحماس.

هي جملة أسماء لهياكل أمنية، وأفكار وطروحات أوروبية. في المقابل، لا يمرّ يوم إلا وتضيف أوروبا إلى لائحة الأخطار التي تشعر أنها تهددها، خطراً. فالعام الجديد مثلاً، حمل معه هماً إضافياً، وهو تنصل واشنطن من الاتفاق النووي مع إيران، والخشية من اندلاع الحرب مع كوريا الشمالية.

هكذا، تبدو القارة وكأنها محشورة في الزاوية. بحسب بيتر فان هام، في تقرير حديث لـ"معهد كليندال" الهولندي عن "تأثير ترامب على الأمن الأوروبي"، تدرك أوروبا أن الولايات المتحدة لم تعد "المهيمن الحميد". ولكن، كما صورة وزيرتي الدفاع الفرنسية والألمانية، في مؤتمر ميونيخ، لا تزال الطموحات الأوروبية تتأرجح بين الرغبة بالتمسك بـ"القوة الناعمة" وحلم بناء "الجيش الأوروبي". وحده الثابت حتى اليوم، "درع" الأطلسي المتين.


محطات من "التعاون الأوروبي الدفاعي"

1949: الولايات المتحدة وكندا والدول الأوروبية ينشئون منظمة حلف شمال الأطلسي، وهو تحالف عسكري بقيادة الولايات المتحدة.
1950: اقتراح التجمع الدفاعي الأوروبي كبديل عن الناتو، لضم ألمانيا الغربية، وإنشاء جيش أوروبي موحد، وميزانية موحدة، وتشارك الأسلحة.
1954: البرلمان الفرنسي يرفض مقترح "الجيش الأوروبي". وتنشئ كل من بلجيكا وفرنسا ولوكسمبورغ وهولندا وبريطانيا "اتحاد أوروبا الغربية"، وهي مجموعة دفاعية مشتركة مع قوة جوية وقيادة مشتركة.
1993: معاهدة ماستريخت تعيد تعريف فكرة التكامل الأوروبي وتقدم "السياسة الدفاعية والخارجية المشتركة" كأحد أهدافها، ما يسمح للدول الأوروبية للقيام بتحرك مشترك له علاقة بالسياسة الخارجية.
1998: بريطانيا وفرنسا تتوافقان على دفاع مشترك عبر إعلان "سانت مالو"، وتتعهد بريطانيا بالقيام بدور مركزي في ما يتعلق بأمن ودفاع الاتحاد الأوروبي.
2003: إطلاق أول عملية عسكرية مستقلة للاتحاد الأوروبي خارج حدوده، وهي عملية "أرتيميس" بدعم أممي في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
2004: إنشاء الوكالة الأوروبية للدفاع.
2007: إنشاء "مجموعات المعارك" الأوروبية. لم تُستخدم يوماً.
2009: معاهدة لشبونة تعزز السياسة الخارجية والأمنية الأوروبية المشتركة.
2011: فرنسا وبريطانيا تطلقان حملة عسكرية للإطاحة بمعمر القذافي، لكنهما لا تتمكنان من فرض منطقة حظر طيران من دون دعم أميركي.
2017: الإعلان عن ولادة مشروع "بسكو".