الحرب الرقمية في طوفان الأقصى وبعده... مواجهة خفية من دون دماء

26 مايو 2024
من التظاهرات الداعمة للفلسطينيين في فيينا (أسكين كياغان/الأناضول)
+ الخط -

انطلاقًا من الحكمة القائلة إنّ "المعركة الأكبر تدور في ساحة العقول"، برز مفهومٌ جديدٌ يُعرف بـ"الحرب الرقمية"، ضمن سياق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، خصوصًا بعد "طوفان الأقصى". هذه الحرب ليست بالمعترك التقليدي الذي نعرفه، بل هي مواجهةٌ في الفضاء الافتراضي تُخاض بالمعلومات والتقنيات الحديثة، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من نسيج المعارك الحديثة، إذ تشهد الصراعات الجغرافية والقومية تحولاتٍ جذريةً في طرق النزاع وأساليبه نتيجة التطورات التكنولوجية المتسارعة. كما لعبت القضية الفلسطينية دورًا بارزًا في هذا المجال، إذ اندلعت شرارة تحولٍ نوعيٍ في كيفية إدارة الصراع مع إسرائيل في سياق تبعيات "طوفان الأقصى"، فقد أصبحت الساحة الرقمية ميدانًا جديدًا يلعب فيه الفلسطينيون وداعموهم دورًا نشيطًا يعكس الوجه المعاصر للمقاومة، التي لم تعد تقتصر على الحجر والبندقية، بل امتدّت لتشمل الأسلحة الإلكترونية والمعلوماتية.

أحدثت الثورة التكنولوجية تغيراتٍ جذريةً في طبيعة الصراعات المعاصرة، ولم يكن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بمعزلٍ عن هذه التطورات، إذ تشير الدلائل إلى أنّ التكنولوجيا قد أصبحت سلاحًا ذا حدين يستخدمه جانبا الصراع في سبيل تحقيق أهدافهم. فمن ناحية أولى؛ تتيح التكنولوجيا للمجموعات الفلسطينية فرصةً لبث قضاياها على نطاقٍ واسعٍ، وكسب التأييد الدولي، ومن ناحية أخرى، تستخدم إسرائيل التكنولوجيا كأداةٍ استخباراتيةٍ، إلى جانب مجالات الرصد والتجسس، على نطاقٍ واسعٍ.

في السياق ذاته؛ تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى أدواتٍ فاعلةٍ في نشر الرواية الفلسطينية، ونقل معاناة الشعب الفلسطيني اليومية، إضافةً؛ إلى تسليط الضوء على الانتهاكات العديدة التي تُمارَس ضدّهم. أي؛ خلق التقدم التكنولوجي ساحةً للتعبير عن الذات والجماعة، مكّنت الفلسطينيين وداعميهم من إيصال أصواتهم إلى العالم بطرقٍ جديدةٍ ومبتكرةٍ، والعمل على توحيد العالم حول القضية الوطنية، إلى جانب الهجمات الإلكترونية، التي شكلت ركيزةً أساسيةً في إستراتيجية المقاومة، واكتسبت أهمّيةً متزايدةً كونها تمكّن الفلسطينيين من الرد على التهديدات الإسرائيلية، وتأكيد وجودهم على الساحة العالمية.

تعكس التقنيات الحديثة، التي استخدمتها الفصائل الفلسطينية في "طوفان الأقصى" تطورًا ملحوظًا في استراتيجيات المقاومة الفلسطينية

كما مكنت أدوات التواصل الرقمية الجماعات الفلسطينية من توثيق انتهاكات الاحتلال، ونشرها على الملأ بسرعةٍ وفاعليةٍ لم يسبق لها مثيلٌ، فقد نقلت صورًا ومقاطع فيديو توثق تجاوزات/ انتهاكات حقوق الفلسطينيين، والاشتباكات المباشرة إلى مجمل المشاهدين حول العالم، ما جعل القضية أكثر قربًا وتماسًّا مع الجمهور العالمي. إضافةً إلى ذلك، ساهمت التحليلات والبيانات الكبيرة في تعزيز فهم الجماعات الفلسطينية للتطورات على الأرض، ما مكنها من تعديل استراتيجياتها بفعاليةٍ أكبر لمجابهة الإجراءات الإسرائيلية. لقد أصبحت تكنولوجيا المعلومات حجرًا أساسيًا في تخطيط الحملات وتنظيم الأنشطة الرامية إلى لتأثير على الرأي العام العالمي.

من جهةٍ أخرى، استثمرت إسرائيل بكثافةٍ في مجال التكنولوجيا العسكرية والأمن السيبراني، في محاولتها التصدي للتحديات الجديدة، التي فرضتها البيئة الرقمية. فقد أصبحت الأساليب التقليدية في الرصد وجمع المعلومات الاستخباراتية تتلاشى لمصلحة تقنياتٍ متطورةٍ قادرةٍ على تحليل البيانات الضخمة والتنبؤ بالأحداث، في هذا السياق؛ تعتبر القدرات التكنولوجية الإسرائيلية عنصرًا حاسمًا في توسع نطاق المراقبة والتحكم وإنفاذ قانون    الاحتلال.

من ذلك كلّه؛ أحدثت التكنولوجيا تغييرًا ملموسًا في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ما أدى إلى نشوء حربٍ رقميةٍ تداخلت فيها أساليب المقاومة والتواصل الجديدة مع الوسائل التقليدية في الحرب والدفاع عن النفس. لذا يسعى المقال إلى تسليط الضوء على دور الحركات الرقمية الناشطة في مجال تعزيز السردية الفلسطينية، في مواجهة الإبادة الجماعية، التي تقوم بها دولة الاحتلال الإسرائيلي.

دور منصات التواصل الاجتماعي في تعزيز معركة طوفان الأقصى

ليس هناك شكٌ في أن منصات التواصل الاجتماعي أصبحت أدواتٍ حيويةً في التعبير عن الرأي العام، ونشر الوعي حول القضايا السياسية والاجتماعية حول العالم. وقد كانت القضية الفلسطينية واحدةً من القضايا التي تبيّن تأثير هذه المنصات عليها بوضوحٍ. فقد استخدم الفلسطينيون، وداعموهم؛ داخل الأراضي الفلسطينية وخارجها، وسائل التواصل الاجتماعي للترويج لقضيتهم، وإلقاء الضوء على الانتهاكات الحقوقية التي يوجهونها.

أدى استخدام منصات التواصل الاجتماعي الفاعل في بث صور الأطفال والنساء والرجال في مواجهة آلة الحرب؛ والتغطية الحية للمواجهات والانتهاكات، واستخدام الهاشتاغات المتعلقة بالأحداث الفلسطينية وقضاياها، إلى المساعدة في كسر الحواجز الجغرافية، وصولًا إلى جمهورٍ عالميٍ أوسع، فقد ساهم تشارك القصص والمعلومات إلى تشكيل تيارٍ عالميٍ متضامنٍ مع القضية الفلسطينية وداعمٍ لها.

من جهةٍ أخرى، لم تقتصر مشاركة هذه المنصات على الجانب الإعلامي فحسب، بل أصبحت وسيلةً فاعلةً في تنظيم الفعاليات والاحتجاجات والمظاهرات في كلّ أنحاء العالم. فقد انتشرت دعوات التجمهر والتظاهر عبر هذه المنصات، ما سهّل مهمة نشرها وإيصالها إلى أعدادٍ كبيرةٍ من الناس وبسرعةٍ، الأمر الذي يظهر قوّة وسائل التواصل الاجتماعي في تعبئة الرأي العام العالمي.

فتحت الحرب الرقمية بعد "طوفان الأقصى" آفاقًا جديدةً لإدارة الصراعات، وبابًا جديدًا للصراع الفلسطيني الإسرائيلي

أضف إلى ذلك، ساهمت استجابة الجمهور العربي والدولي مع هذه الدعوات والمنشورات، عبر إعادة التغريد والمشاركة والتعليق، في منح القضية الفلسطينية زخمًا إضافيًا، وخلق نوعًا من التفاعل يتخطى حدود المكان المادي، ليصبح عنصرًا فاعلًا في الحرب الرقمية، بذلك؛ غدت منصات التواصل الاجتماعي ساحةً مهمّةً لجذب الأنظار نحو الحقوق الفلسطينية، والتحديات التي تواجهها القضية الفلسطينية.

عمومًا، تعكس التقنيات الحديثة، التي استخدمتها الفصائل الفلسطينية في "طوفان الأقصى" تطورًا ملحوظًا في استراتيجيات المقاومة الفلسطينية، على الرغم من التحديات العديدة، مثل الرقابة الإلكترونية، والهجمات الإلكترونية الإسرائيلية، إذ يستفيد الفلسطينيون من الفرص التكنولوجية لإسماع صوتهم، ونشر قضيتهم على مستوى العالم.

تشكلت المجموعات الرقمية الفلسطينية والعربية من أفراد، واجهوا المنع والرقابة، وتحايلوا على الخوارزميات التي تقييد السردية الفلسطينية، ثم تحولت إلى مجموعاتٍ منظّمةٍ، ومن الأسلوب الدفاعي إلى الهجومي، إذ لم يستهدفوا السردية الصهيونية فقط، بل أعادوا توجيه تلك السردية إلى الداخل الإسرائيلي. من تلك المجموعات مجموعة "إسناد"، وهي مجموعةٌ ناشطةٌ على منصات التواصل الاجتماعي، تركز على نشر الوعي حول قضايا الفلسطينيين، والانتهاكات التي يتعرضون لها، كما تشارك في مشاركة الأخبار والتقارير والصور والفيديوهات التي توثق الانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين، وتسلط الضوء على الظلم والقمع اللذين يتعرض لهما الفلسطينيون، معتمدةً على التواصل المستمر مع جمهورها عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي، لنشر الوعي وتحفيز النقاش حول القضايا الفلسطينية.

كما أن لدينا مجموعة "النحل العربي"، وهي مجموعةٌ عربيةٌ تعمل على تسليط الضوء على قضايا الفلسطينيين ودعم حقوقهم عبر منصات التواصل الاجتماعي. تميزت هذه المجموعة بابتكار محتوى إبداعي وجذاب يثير الاهتمام، ما يجعلها قادرةً على نشر رسالتها بفعاليةٍ. تتعاون المجموعة مع منظّمات حقوق الإنسان، والجمعيات الدولية لزيادة الوعي، وتعزيز التضامن الدولي مع قضية الفلسطينيين. ومنها أيضًا مجموعات هاشتاغ (Hashtag Activate)، تعمل على التنسيق والتوعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال استخدام الهاشتاغات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، بغرض جذب الانتباه العالمي إلى القضية الفلسطينية، وتعزيز الضغط الدولي على إسرائيل من خلال الحملات الرقمية والتواصل مع الجمهور العالمي.

الهجمات الإلكترونية: الوجه الجديد للمقاومة الفلسطينية

تعتبر الهجمات الإلكترونية اليوم جزءًا لا يتجزأ من النضال الفلسطيني في عصرٍ تعاظم فيه الحضور الرقمي، كما بدأت تصورات القوّة السيبرانية تتغير بعد "طوفان الأقصى"، إذ كان يُعتقد، على نطاق واسع، سابقًا أنّ الكيان الإسرائيلي هو وحده من يملك قدراتٍ رقميةً متقدمةً، خصوصًا في مجالات التكنولوجيا والتجسس، فعلى الرغم من صحة هذا الاعتقاد، إلى حدٍّ ما، إلّا أنّ الأحداث قد أظهرت امتلاك المقاومة لقدراتٍ سيبرانيةٍ متقدمةٍ أيضًا.

وظفت المقاومة الفلسطينية هذا النوع من الهجمات لضرب أهدافٍ استراتيجيةٍ إسرائيليةٍ، عبر التأثير على البنية التحتية الرقمية، وتعطيل أنظمةٍ حساسةٍ. من الجدير ذكره هنا، أن الهجمات الإلكترونية لا تقتصر على الاختراقات الأمنية فقط، بل تشمل أيضًا حملات التضليل الإعلامي، وتوزيع البرمجيات الخبيثة، وشل الأنظمة المعلوماتية. وقد اكتسبت المقاومة الفلسطينية خبرةً في هذا المجال، إذ انخرطت في العديد من العمليات الناجحة ضدّ المواقع الإسرائيلية، مثلًا؛ شهدت الفترة الماضية تنفيذ هجماتٍ إلكترونيةٍ استهدفت قواعد البيانات الحكومية الإسرائيلية، محدثةً اضطرابًا في الخدمات العامة والخاصّة.

مكنت أدوات التواصل الرقمية الجماعات الفلسطينية من توثيق انتهاكات الاحتلال، ونشرها على الملأ بسرعةٍ وفاعليةٍ

يُحسب للفصائل الفلسطينية استثمارها في هذا السلاح الجديد، وإظهارها القدرة على توجيه ضرباتٍ مؤثرةٍ لا تتطلّب القوّة العسكرية التقليدية، كما تتمتع الهجمات الإلكترونية بمرونةٍ تكتيكيةٍ، وقدرةٍ على التجدد ومواكبة التحديات المستجدة. وفي إطار الهجمات الإلكترونية، تعتمد الجماعات الفلسطينية على تشكيل فرقٍ متخصصةٍ، تعمل على كسر الشفرات وتجاوز الحمايات الأمنية السبرانية الإسرائيلية، الأمر الذي يفتح باب السجال حول السلام والحرب في العصر الرقمي.

كما أشارت بعض التقارير إلى ارتفاعٍ ملحوظٍ في عدد الهجمات الإلكترونية الفلسطينية وتعقيدها، ما يعكس نموًا في القدرات التقنية والتكتيكية، يشارك في صفوفها خبراء ومهندسون يعيشون في قلب التكنولوجيا الإسرائيلية، ما يسمح لهم بفهم الحالة النفسية للجنود والضباط الإسرائيليين بدقةٍ، وتحديد هويتهم وكشفها، والعمل بطرقٍ مختلفةٍ والاستفادة منها.

استخدمت المجموعات السيبرانية، التي شاركت في خوض الحرب الرقمية ضدّ إسرائيل، مجموعةً متنوعةً من الأدوات والتقنيات في هجماتها، كما تميزت بتطورها المستمر، وزيادة قدرتها على الهجوم. من الأمثلة على تلك المجموعات وأنشطتها: مجموعة "أنونيموس" (Anonymous)، وهي مجموعةٌ من الهاكرز، تتبنى قضايا مختلفةً، بما في ذلك دعم الفلسطينيين ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وقد شنت هجماتٍ سيبرانيةً على مواقع ومؤسساتٍ إسرائيليةٍ، بما في ذلك تعطيل خدمات الإنترنت والاختراقات الإلكترونية. ومجموعة "الجيش الإلكتروني القطري"، ومجموعة "الجيش السيبراني الجزائري"، اللتان استخدمتا التقنيات السيبرانية المتقدمة مثل الاختراقات الإلكترونية، والهجمات الموزعة من الخدمة (DDoS)، واستخدام البرمجيات الخبيثة، ما زاد من تأثيرها على البنية التحتية الإلكترونية الإسرائيلية. وتعتبر مجموعات الهاكتيفيزز (Hacktivists): من بين أبرز الجماعات الشبابية التي تستخدم التكنولوجيا في شن هجماتٍ سيبرانيةٍ ضدّ الإسرائيليين، إذ يقوم أفراد هذه المجموعة بتنفيذ هجماتٍ إلكترونيةٍ متعددة الأشكال، مثل الاختراقات السيبرانية، وتعطيل المواقع الإلكترونية الإسرائيلية مؤقتًا. تتبع هذه المجموعات أساليب القرصنة، واختراق أمن المعلومات لتحقيق أهدافها.

فتحت الحرب الرقمية بعد "طوفان الأقصى" آفاقًا جديدةً لإدارة الصراعات، وبابًا جديدًا للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كما أنّ أثر هذا الصراع ممتدٌّ ويطاول جوانب عديدةً رئيسيةً للمجتمعات والدول. تعكس الهجمات الإلكترونية التي يشنها الفلسطينيون وداعموهم، تحولًا نحو استراتيجيةٍ مقاومةٍ أكثر تطورًا وكثافةً، وهي تُظهر كذلك؛ مدى فعالية التكنولوجيا في تعزيز القضايا السياسية والوطنية في عالمٍ أصبحت فيه المعلومة أسرع من الرصاص؛ لكن يبقى السؤال مفتوحًا بشأن كيفية تطور هذه الأدوات؟ وحول طبيعة تأثيرها على مستقبل الصراعات؟ وما هي الاستراتيجيات الجديدة التي سيتم تبنّيها للتكيف مع هذا الواقع الجديد؟