لم يترك الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بعد توليه منصبه عام 2017، الكثير من الهواء للأمم المتحدة للتنفس، ولا لأمينها العام أنطونيو غوتيريس الذي تولى منصبه في نفس الفترة. وقد شهدت سنوات ترامب الأربع حرباً مستمرة على الأمم المتحدة، مادياً ودبلوماسياً، تمثلت بقطع مئات الملايين من الدولارات من المساعدات عن مؤسساتها، أو الانسحاب منها. وقد تكون الأمم المتحدة قد شهدت خلال العام الحالي، واحدة من أكثر التحديات منذ تأسيسها، بسبب انتشار جائحة كورونا وانعكاسها سلباً على عملها في عدد من المجالات.
وكانت الأمم المتحدة قد احتفلت، في سبتمبر/أيلول الماضي، بمرور 75 سنة على تأسيسها، دون حضور أي من القادة الرفيعي المستوى بشكل شخصي اجتماعات الجمعية العامة في نيويورك. وسط كل هذا يحاول غوتيريس توحيد الدول من أجل الاستثمار في لقاحات تستفيد منها جميع الشعوب، وليس فقط سكان الدول الغنية. واستخدم غوتيريس مصطلح "قومية اللقاح"، منتقداً عدم دعم مبادرة "كوفاكس" برعاية الأمم المتحدة مادياً بشكل كافٍ، على الرغم من انضمام الأغلبية الساحقة من دول العالم إليها. ومن ضمن ما تهدف إليه المبادرة مساعدة الدول الفقيرة والنامية للحصول على لقاح بأسعار معقولة، أو مجاناً بحسب وضعها. لكن المبادرة تحتاج إلى 38 مليار دولار لتمويلها، وما زال ينقصها قرابة 28 مليار دولار حتى الآن.
استمرت الولايات المتحدة، خلال العام الحالي، بشن حرب معنوية ومادية على الأمم المتحدة
وبرز مجهود غوتيريس، بعد انتشار الجائحة، في عدد من المبادرات، بينها الإعلان عن وقف إطلاق النار حول العالم، استجابت له بعض الأطراف المتنازعة في بعض المناطق، لكنه ظل هشاً في مناطق أخرى. كما قام بعدد من المبادرات المتعلقة بالمناخ وجائحة كورونا، لكنه ما زال يحتاج إلى دعم بقية الدول، وقيادة أميركية تنظر إلى دور الأمم المتحدة بشكل أكثر إيجابية، وأن يركز بشكل أكبر على التعددية الدولية، وهذا ما يتوقع أن يفعله الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن، إلا أن ذلك لن يأتي من دون تحديات أخرى.
واستمرت الولايات المتحدة، خلال العام الحالي، بشن حرب معنوية ومادية على الأمم المتحدة، وتجلى ذلك في عدد من القضايا، أولها اتهام باطل لمنظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة بالتستر على الصين في قضية فيروس كورونا، وهو ما لم يتم إثباته. وثانياً عرقلة أي مساعٍ دولية، ولأشهر، من أجل توفير رد دولي موحد عن طريق مجلس الأمن لمحاربة الفيروس. وكانت الإدارة الأميركية تحاول الاختباء وراء فشلها الذريع بمكافحة انتشار الوباء، وتحولها لواحدة من بؤره حول العالم، ليس في بداية انتشاره فحسب، بل الآن، حيث يصل حالياً معدل الوفيات إلى قرابة الثلاثة آلاف يومياً.
وقال رئيس مكتب "هيومن رايتس ووتش" للأمم المتحدة لوي شاربوني، في تصريحات خاصة لـ"العربي الجديد" في نيويورك حول الموضوع، إن "الجدل بين الولايات المتحدة والصين اختطف النقاشات حول الفيروس، الذي أصبح وبسرعة أهم قضية أمن وسلم دوليين، مع اضطرار مليارات الناس للالتزام ببيوتهم، ناهيك عن التبعات الاقتصادية والاجتماعية". وأضاف "لم يقل مجلس الأمن الدولي كلمة واحدة عن الموضوع لأشهر. وعندما تبنى مشروع قرار، في شهر يوليو/تموز (الماضي)، لم يكترث أحد لذلك، لأنه ببساطة كان متأخراً. بالنسبة لي كان هذا تذكيراً مؤلماً بالحال الذي وصل إليه مجلس الأمن الدولي والخلل الشديد في عمله".
فسر البعض التردد المستمر الذي ميز سياسة غوتيريس كصمت ورضوخ للدول القوية أو ذات النفوذ
ولفت شاربوني الانتباه إلى قضية أخرى تم تداولها مطولاً خلال العام الحالي، وأثبت خلالها مجلس الأمن الدولي تشرذمه الشديد وانقسامه، وتتعلق بالتجديد لآلية تقديم المساعدات الإنسانية العابرة للحدود لشمال شرق وشمال غرب سورية عبر معبر واحد فقط، وإغلاق بقية المعابر بسبب تعنت روسي ودعم صيني لها. وأشار شاربوني، في هذا السياق، إلى أن ملايين السوريين الذين يعيشون في مناطق لا يسيطر عليها النظام يعتمدون على تلك المساعدات، لأن النظام لا يسمح لما يكفي منها بالعبور عبر مناطقه. وتابع "تحاول روسيا الادعاء والإثبات أن بشار الأسد والحكومة السورية شركاء وموضع مسؤولية، حيث إنهم مستعدون للسماح للمساعدات بالوصول إلى من هم بحاجة إليها، وحتى الذين لا يعيشون في المناطق التي لا يسيطر عليها. ولكن هذا غير صحيح. استخدمت روسيا الفيتو، كما هددت باستخدامه لوقف دخول جميع تلك المساعدات من المعابر الثلاثة، ما اضطر الدول الأعضاء (بمجلس الأمن) بالنهاية للرضوخ، وقبول دخولها عبر معبر واحد". وأشار إلى "أن تقارير الأمم المتحدة تشير إلى صعوبات عديدة تواجهها في تقديم المساعدات، خصوصاً الطبية، في شمال شرق سورية. وطلبت منظمة الصحة العالمية من مجلس الأمن إعادة فتح معبر اليعربية مع الحدود العراقية إلا أن الروس رفضوا. كل هذا في الوقت الذي تواصلت عملية استهداف المستشفيات والأماكن الصحية. وقد ترقى بعض هذه الهجمات إلى جرائم حرب".
وانعكس الانقسام الشديد داخل مجلس الأمن على عمل غوتيريس، حتى في مهام كاختيار ممثلين خاصين عنه في كل من ليبيا والصحراء، التي ما زالت من دون مبعوث منذ أكثر من 18 شهرا. كما ضربت الولايات المتحدة عرض الحائط مجدداً بقرارات مجلس الأمن، عندما اعترفت بسيادة المغرب على الصحراء، وهو ما يتنافى مع قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، والتي تنص على ضرورة إجراء استفتاء يحدد مصير المنطقة. وسط كل هذا، حاول غوتيريس إمساك العصا من الوسط، فذكر في حالة الصحراء والاعتراف الأميركي أنه ملتزم بقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، من دون أن ينتقد الولايات المتحدة بشكل علني.
هذا التردد المستمر الذي ميز سياسة غوتيريس جعله عرضة لانتقادات شديدة من قبل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان، حيث فسره البعض كصمت ورضوخ للدول القوية أو ذات النفوذ. وقال شاربوني "لقد قام غوتيريس في فبراير/شباط الماضي بوضع قضية حقوق الإنسان وعمل الأمم المتحدة في المركز مجدداً، عن طريق مبادرته الخاصة بالموضوع. هذه خطوة مهمة ورئيسية، ولكن لم تشهد حتى الآن تطبيقاً جذرياً".
وحول لماذا نهتم كثيراً بما يقوله الأمين العام للأمم المتحدة إذا كانت صلاحياته الفعلية وقدرته على التأثير محدودة؟ أوضح شاربوني أن "لدى الأمين العام عدد محدود من الأدوات للتأثير، ولكن لا يجب الاستهانة بسلاحه الدبلوماسي. ولهذا عليه استخدامه، وتوجيه الانتقاد للدول التي تخرق حقوق الإنسان، ثم عليه تسميتها بالاسم. من الخطأ الاعتقاد بأن الدول لا تهتم لسمعتها أو صورتها الخارجية. إن تسميتها بشكل مباشر لا يضعها تحت المجهر فحسب بل يحرجها، ويشكل ضغطاً كبيراً عليها لتغير نهجها". وأشار إلى قضية أخرى، وهي السلطة الأخلاقية التي يرمز لها منصب الأمين العام والأمم المتحدة عموماً، مؤكداً ضرورة أن يبعث رسالة للشعوب التي تُنتهك حقوقها بأن الأمم المتحدة تقف إلى جانبهم، وتسمع صوتهم، وليس إلى جانب الحكومات، لأن عمل الأمم المتحدة لا يقتصر على التفاوض مع الحكومات والتعامل معها فحسب.
ومن المتوقع أن تعيد إدارة الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن القطار الأميركي إلى سكة التعددية الدولية والتعاون، ما سيعطي الأمم المتحدة وأمينها العام مجالاً أوسع للمناورة. لكن من غير المتوقع رؤية تغييرات وتحركات جذرية في عدد من القضايا، لعل أبرزها القضية الفلسطينية. وحول ما إذا كان غوتيريس سيسمح لنفسه بانتقاد الدول التي تخترق حقوق الإنسان بشكل مباشر، فإن هذا يتعلق غالباً بما إذا كان يريد الترشح لفترة ثانية، حيث تنتهي ولايته نهاية العام المقبل.