الاحتجاجات تربك الكرملين: هل تتسع سجون بوتين لكل أنصار نافالني؟

25 يناير 2021
أثبتت المعارضة قدرتها على حشد المتظاهرين (غافريل غريغوروف/ Getty)
+ الخط -

في مؤشر على زيادة قدرة المعارضة على تحريك الشارع الروسي، تحدى مئات الآلاف البرد وتخويف السلطات، وقيود كورونا، أول من أمس السبت، ونظموا تظاهرات تطالب بإطلاق سراح المعارض البارز أليكسي نافالني. وأثبتت المعارضة قدرتها على حشد أكبر تظاهرات في العقد الأخير، مع انتشار رقعة الاحتجاجات في أكثر من 110 مدن، بعضها معروفة بعدم وجود مزاج احتجاجي فيها، وكان ينظر إليها على أنها موالية للرئيس فلاديمير بوتين وحزبه "روسيا الموحدة" الحاكم.
وفجّر الحضور الجماهيري الكبير مفاجأة غير سارة للكرملين والسلطات الأمنية، على الرغم من أن الأخيرة استبقت التظاهرات بحملة اعتقالات واسعة طاولت المئات من أنصار نافالني بحجة الدعوة لتظاهرات غير مرخص لها. وأصدر القضاء مذكرات توقيف تتراوح بين سبعة و28 يوماً بحق بعضهم، في مسعى للحدّ من المشاركة الواسعة في الاحتجاجات التي شهدت اعتقال أكثر من ثلاثة آلاف متظاهر، بحسب تقديرات بعض المنظمات الحقوقية، معظمهم في مدينتي موسكو وسان بطرسبورغ اللتين شهدتها أكبر الاحتجاجات منذ سنوات. وبدا واضحاً التباين في تصرف السلطات الأمنية بحسب المدن، ففي بعضها لم تتدخل الشرطة والحرس الوطني لفضّ الاحتجاجات، وفي بعضها الآخر تعاملت بخشونة متعمدة.

دعت المعارضة الروسية إلى تظاهرات جديدة الأسبوع الحالي
 

وفشلت بروباغندا الكرملين في الوقوف في وجه تطبيق "تيك توك" ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى، واستطاعت قنوات معارضة عدة على "يوتيوب" نقل وقائع الاحتجاجات في جميع المدن، على الرغم من قطع الاتصالات والإنترنت عن مناطق انتشار الاحتجاجات لساعات طويلة. كذلك أخفقت كل الجهود لثني الناس عن التظاهر، على الرغم من تخصيص محطات التلفزة الفيدرالية مساحات واسعة لتحذيرات عمدة موسكو، سيرغي سوبيانين، من المشاركة في التظاهرات "حفاظاً على سلامة المواطنين"، ومنعاً لتردي الحالة الوبائية جراء انتشار فيروس كورونا في موسكو. وحرصت القنوات على تكرار دعوات وزارة الداخلية الداعية إلى عدم المشاركة في الاحتجاجات، واستعانت بمفوضة حقوق الطفل في روسيا آنا كوزنيتسوفا التي حذرت من جرّ القاصرين والأطفال إلى التظاهرات. ونشر معظم صناع بروباغندا الكرملين مقاطع فيديو تشير إلى مشاركة أطفال في الأعمال الاحتجاجية.

في المقابل، كشفت مقاطع الفيديو للاحتجاجات عدم وجود مشاركة واسعة للأطفال، فيما اتهمت رئيسة اللجنة الشعبية للمراقبة، المحامية مارينا يتماموفيتش، السلطات الأمنية بتعمد اعتقال الأطفال الموجودين في المناطق القريبة من الاحتجاجات من أجل التحضير لفتح قضايا جنائية بحق المنظمين بتهم تشجيع القاصرين على التظاهر. وأشارت في تصريحات لقناة "دوجد" المعارضة إلى حالة طفلين شقيقين من مواليد 2008 و2011 ألقي القبض عليهما أثناء توجههما إلى مطعم "ماكدونالدز" لتناول الطعام، وفتاة أخرى مرت بالقرب من مكان الاحتجاجات في طريقها إلى مركز عمل أمها. وقدرت المحامية عدد الأطفال الذين احتجزوا السبت بأكثر من 130 طفلاً تحت سن الـ18، أطلق سراحهم بعد حضور أولياء أمورهم والتحقيق معهم.
ومعلوم أنّ مقاطع فيديو انتشرت على منصتي "تيك توك" و"فكونتاكتي"، واسعتي الانتشار في صفوف المراهقين والأطفال في روسيا، تدعو إلى المشاركة في الاحتجاجات لدعم نافالني. وحذف كثير منها بعد طلب السلطات والتلويح بتجريم المنصتين وتغريمهما.

فجّر الحضور الجماهيري الكبير مفاجأة غير سارة للكرملين والسلطات الأمنية

وتوضح معظم المؤشرات أنّ الاحتجاجات الحالية هي الأوسع جغرافياً، والأكثر مشاركة منذ احتجاجات المعارضة في ربيع 2017، على الرغم من التغيّرات الهائلة في القوانين والتشريعات الروسية التي ضيّقت الخناق على محاولة المعارضة استعراض قوتها في الشارع. وفي حين تجاوز عدد المشاركين في احتجاجات السبت ضعفي عدد المشاركين في تظاهرات 2017، فإنّ ما يجمع بينهما هو اشتعال كل منهما بعد عرض فيلم استقصائي يكشف فساد النخب الحاكمة. ففي بداية مارس/ آذار 2017، عرض "مركز مكافحة الفساد" بقيادة نافالني فيلماً عن عقارات ضخمة ويخوت فارهة وبيوت صيفية يملكها رئيس الوزراء الروسي حينها ديمتري مدفيديف، وتسبب الفيلم بنقمة شعبية كبيرة على مدفيديف، وأثار تظاهرات كانت الأضخم منذ أحداث التظاهر ضد بوتين وسط موسكو عام 2012.
ويبدو أنّ تأثير "حكاية الرشوة الكبرى - قصر بوتين" جاء مضاعفاً، نظراً لأنه الأول من نوعه الذي يتهم "الزعيم الأوحد" صراحة بالفساد، وتشييد مجمع ضخم يضم قصراً واستراحات وكروماً على شاطئ البحر الأسود جنوبي روسيا. وحظي الفيلم منذ نشره على "يوتيوب" الثلاثاء الماضي بنحو 78 مليون مشاهدة حتى ظهر أمس. ونفى الكرملين مرات عدة ما سماه "محض هراء، وفيلماً فُبرك بمساعدة أجهزة استخبارات عالمية لتشويه سمعة بوتين"، وتحضيراً لسيناريو "ثورات ملونة" في روسيا بحسب عدد من كبار المسؤولين. وربما تكمن أهمية المشاركة الواسعة في التظاهرات الحالية أنها جاءت على الرغم من وجود نافالني في السجن، واعتقال معظم أعضاء صندوق مكافحة الفساد، ومنسقي العمل مع نافالني في مختلف المدن الروسية. ومن الدلالات الرمزية المشاركة الواسعة في احتجاجات العاصمة الشمالية، ومسقط رأس بوتين، سان بطرسبورغ، التي حضرها ما بين 20 و30 ألف محتج بحسب مصادر مختلفة.
وبعد ساعات على نجاحها في جذب مئات الآلاف إلى الشارع، دعت المعارضة إلى تظاهرات جديدة الأسبوع الحالي على الرغم من القمع الشديد والاعتقالات غير المسبوقة. ويبدو أنّ المعارضة تراهن على الزخم المكتسب من أجل الضغط على السلطات، في محاولة لعدم إصدار أحكام قاسية بحق نافالني، واستغلال الغضب الشعبي على فساد النخب الحاكمة، وسوء الأوضاع الاقتصادية، لحشد تأييد شعبي لمرشحيها المحتملين في انتخابات مجلس الدوما (البرلمان) خريف العام الحالي. وهي انتخابات يراهن عليها الكرملين كثيراً للحصول على أغلبية تضمن له تنظيم عملية الانتقال السياسي في 2024 في شكل سلس بحسب خيارات بوتين.

الاحتجاجات الحالية هي الأوسع جغرافياً، والأكثر مشاركة منذ احتجاجات المعارضة في ربيع 2017
 

وفي المقابل، يوظف الكرملين كل إمكاناته من أجل منع تظاهرات جديدة، ويراهن على أنّ المزاج الجماهيري العام لا يفضل التحرك في الشارع. وفي الوقت ذاته فإنّ السلطات بعثت رسائل واضحة بأنها لن تتهاون في قمع الاحتجاجات، واعتقال جميع منظميها. وعلى الرغم من صعوبة اتهام جميع المتظاهرين بأنهم طابور خامس وعملاء أجانب يعملون لصالح الغرب، فإن السلطات واصلت اتهام المنظمين بأنهم يعملون وفقاً لأجندة خارجية. واستباقاً لمعركة منتظرة مع الغرب، اتهمت روسيا السفارة الأميركية في موسكو بدعم التظاهرات. في المقابل، دانت دول غربية عدة قمع الاحتجاجات وحملة الاعتقالات الواسعة، ولا سيما الولايات المتحدة وفرنسا وكندا والاتحاد الأوروبي.
وفي حين يأمل المعارضون في أن تتواصل التظاهرات، ويضربون مثالاً حول استمرار الاحتجاجات في مدينة خباروفسك على اعتقال حاكم الإقليم السابق، وكذلك قدرة البيلاروسيين على ابتكار طرق جديدة لمواصلة الاحتجاجات ضد الرئيس ألكسندر لوكاشينكو، يشير فريق آخر إلى أنّ كلتا الحالتين وصلتا إلى نتيجة واحدة ولم تغيّرا عملياً الأوضاع، بغضّ النظر عن تراجع عدد المشاركين في الاحتجاجات في خباروسك من عشرات الآلاف إلى عشرات فقط، أو مواصلة احتجاجات مينسك من دون نتيجة إلى الآن.
وواضح أنّ الكرملين لن يقدّم تنازلات في شأن قضية نافالني والتعامل مع الاحتجاجات، بحسب كثير من المراقبين، انطلاقاً من أن ما حصل لا يعدو كونه "زوبعة في فنجان" في شتاء روسيا الصعب، لا يمكن أن يتسبب في "ربيع مبكر"، لا يسمح به المناخ السياسي في روسيا، الذي تكيّف في العام الماضي مع قرارات تصفير عداد بوتين، وتوّجه قيصراً مدى الحياة، وضمن له المشرعون لاحقاً حصانة أبدية، وأقروا قوانين غير مسبوقة لمحاصرة أي حراك معارض. وباعتقال نافالني فور عودته إلى روسيا، وحملة الاعتقالات ضدّ أنصاره عشية وأثناء تظاهرات السبت الماضي، أكدت السلطات أن قراراتها حاسمة باستخدام "أسنان قوية"، لكن استمرار الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وتراجع دخل الطبقة الوسطى، وبحث المواطنين عن العدالة الاجتماعية والتكافؤ في الفرص، سيشجع كثيرين على الخروج إلى الشارع لرفض مظاهر البذخ والفساد في النخب الحاكمة، وكسر حاجز الخوف وخوض مغامرة تحدي السلطات علّها تؤدي إلى تغييرات جذرية بحثاً عن مستقبل أفضل.