أحيا الاجتياح الروسي لأوكرانيا فصول صراع قديم متجذر مع الغرب، وإن كانت موسكو تراقب ما يجري في "مجموعة دول الشمال"، وخصوصا في فنلندا والسويد والدنمارك، فلا بد أن يثير ذلك قلقها من إظهار 3 نساء يقدن حكومات تلك البلدان حزماً واضحاً لمواجهة وإعادة نظر بالمواقف السابقة لمواجهة أي تهديد في هذه المنطقة الهامة.
ففلندا، التي عاشت متأرجحة بين جرأة طلب عضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو) وخشيتها من تهديد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تذهب اليوم الثلاثاء في ظل حكومة يسار الوسط، الاجتماعي الديمقراطي، برئاسة سانا مارين، إلى مناقشة طارئة لقضية طلب العضوية في الحلف، التي تقول موسكو إنها ترفض وجوده بالبلدان التي تتقاسم معها حدودا برية.
وغير بعيد عن تزايد الجرأة، ها هي ستوكهولم برئاسة المعسكر السياسي ذاته، ممثلاً بحكومة رئيسة الوزراء ماجدالينا أندرسون، تذهب صراحة إلى التخلي عن قرنين من سياسة الحياد السويدية، فيما تقرر سيدة أخرى تقود حكومة الدنمارك، ميتا فريدركسن، تحدي موسكو بفتح مخازنها العسكرية أمام الأوكرانيين.
ومنذ أن أعلنت الجارة الكبيرة لمنطقة دول الشمال والبلطيق، ألمانيا، في الخطاب الاستثنائي للمستشار أولاف شولتز، الأحد الماضي، عن تحرير برلين من عقدة التاريخ النازي في العلاقة بروسيا، وإظهار بعض مخالب قيادة الحالة الأوروبية، تتوالى سريعا انهيارات "الردع" الروسي في منطقة استراتيجية وحساسة بالنسبة لموسكو.
فإلى جانب انضمام إسكندنافيا إلى المقاطعة الاقتصادية وسحب استثمارات وحظر جوي على طائرات روسيا المدنية، ورفع حالة التأهب العسكري، من النرويج شمالا إلى أدنى حدود بحرية في البلطيق مع بولندا ودول البلطيق، فإن لا شيء يعلو اليوم على خطاب التجييش وإظهار مزيد من التحدي غير المسبوق لساحات موسكو الخلفية.
فنلندا.. تاريخ مرير للروس
فنلندا، التي خبرت صراعا مريرا مع السوفييت في عام 1939، إثر غزو أراضيها وهزيمة الروس فيها بتضامن إسكندنافي بالسلاح والرجال، فيما سمي "حرب الشتاء"، تناقش أحزابها اليوم ما إذا كان يتعين الذهاب أبعد في التعاون مع حلف شمال الأطلسي لطلب الانضمام لعضويته. ونقلت كالة الأنباء الفنلندية "أس تي تي" عن أعضاء في البرلمان أن المناقشات الطارئة ترجح كفة طلب العضوية، في ظل احتدام الصراع على أوكرانيا بعد الغزو الروسي منذ الخميس الماضي.
وفنلندا في التفكير الروسي، جزء من سردية الرئيس بوتين عن "إجحاف التاريخ". فهي تملك حدودا تعتبر الأطول بين موسكو ودولة في الاتحاد الأوروبي، تمتد لأكثر من 1340 كيلومترا. ومعنى أن تصبح فنلندا عضوا في حلف شمال الأطلسي ليس أمرا هينا، مع تزايد التأييد الشعبي لانضمام البلد إليه. وقبيل الاجتياح الروسي لأوكرانيا كان يؤيد نحو 53 في المائة انضمام بلادهم إلى الحلف الغربي، بحسب استقصاء أجرته هيئة البث العام للإذاعة والتلفزيون الفنلندي الأربعاء الماضي. وتلك النتيجة فيها قفزة من موافقة فقط 30 في المائة في يناير/ كانون الثاني الماضي، فيما لم يكن يوافق في 2017 سوى 19 في المائة، إلى ما يشبه استعجال العضوية بعد أن تقدم 50 ألف مواطن بعريضة موقعة تطالب المشرعين بعد الغزو بتسريع العضوية.
توسع انتشار حلف شمال الأطلسي في حال قبول عضوية فنلندا يعني عمليا أن خطط الردع الروسي لتخويف الدول الأخرى بإجراءات ظل يرددها ساسة موسكو "سياسية وعسكرية"، باتت تتآكل، مهما كانت نتيجة اجتياح أوكرانيا. بل حتى المتخصصون في الكليات والأكاديميات العسكرية في الدول الإسكندنافية يرون أن ما يجري "تحول استراتيجي وتاريخي ليس في مصلحة روسيا وسياسة الردع التي ظلت قائمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945".
السويد خروج من الحياد.. جرأة غير معهودة
تطورات ما يجري في منطقة البلطيق وعموم دول الشمال الأوروبي تنعكس بصورة مباشرة على مخططات تزويد أوكرانيا بالسلاح. وإذا كانت هلسنكي أعلنت، كغيرها من العواصم الغربية، أنها فتحت مخازنها وبدأت إرسال الأسلحة "لمساعدة الجيش الأوكراني في محاربة الغزو الروسي"، ومن بينها نحو 2500 بندقية هجومية و150 ألف قذيفة و1500 سلاح مضاد للدبابات و50 ألف حزمة مؤونة للجنود، فإن ما يلفت في تلك التطورات التحرر السويدي من سياسة الحياد.
مساء أمس الاثنين كانت رئيسة وزراء ستوكهولم، أندرسون، تعلن صراحة عن تحول تاريخي بالتخلي عن سياسة الحياد الممتدة لنحو 200 سنة. فمخازن السويد، المصنعة للسلاح، فتحت أمام الأوكرانيين، في سياق يؤكد عمق العلاقة الآن بينها وبين حلف الأطلسي، والمتسارع منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014، وتوتر أجواء البلطيق وشعور ستوكهولم بتهديدات روسيا، حتى أنها ذهبت إلى استنفارات عسكرية سبقت غزو أوكرانيا بأسابيع.
المعلن مساء أمس أن ستوكهولم ستزود الأوكرانيين بنحو 5 آلاف سترة واقية و500 آلاف قطعة سلاح مضادة للدبابات.
في تاريخ الحياد السويدي، الذي جاء رئيس وزرائها الأسبق أولف بالمه (اغتيل في فبراير/شباط 1986) ليرسخه في علاقة بلاده بالمعسكرين الشرقي والغربي، واكتسابها مكانة دولية كوسيط إنساني، سابقة ساهمت في انتصار الفنلنديين على الغزو الروسي في 1939، من خلال اندفاع آلاف المتطوعين وتزويدهم بالسلاح. اليوم يعود إلى الخطاب السويدي تبرير كسر الحياد، باعتبار أن ما جرى في فنلندا أيام محاولة السوفييت احتلالها "كان بمثابة دفاع عن السويد"، ليأخذ ذات الحيز عن أن ما يجري في أوكرانيا يدفع ستوكهولم "للوقوف دفاعا عن الديمقراطية والحرية، فنحن نعرف أين نقف، والقضية الأوكرانية يجب أن تكون قضيتنا"، بحسب ما جاء على لسان وزير الدفاع، بيتر هولتكفيست.
واعتبر الخبير في الشؤون الدفاعية من أكاديمية الدفاع بالسويد، ياكوب فيتسبيرغ، أن "تبرير الحكومة السابق عدم اندفاعها إلى عضوية حلف شمال الأطلسي كان يركز على عدم زيادة التوتر في البلطيق، أما وقد حدث الغزو الروسي (لأوكرانيا) فلا شيء يمنع التردد". وجدير بالإشارة أن نحو 40 في المائة من السويديين يرون ضرورة الانضمام الكامل إلى حلف شمال الأطلسي.
وغير بعيد عن السويد تواصل رئيسة حكومة يسار الوسط الدنماركي ميتا فريدركسن، وسط خفوت أصوات الداعين إلى عدم الانخراط في الصراع، إرسال آلاف مضادات الدبابات والطائرات، وخصوصا صواريخ ستينغر. وتولي كوبنهاغن أهمية لوصول تلك الأسلحة، وهي بالفعل في الطريق منذ ما قبل الإعلان الرسمي عن إرسالها، عن طرق معقدة بعد أن رفضت المجر تمريرها عبر أراضيها.
في المجمل، فإن تسارع التكاتف، بما في ذلك تزايد الحشود الغربية في دول البلطيق الصغيرة، لاتفيا وليتوانيا وإستونيا، التي كانت تخشى سيناريو أوكرانيا، يظهر أن نتائج عكسية جاءت بها تكتيكات الرئيس الروسي.