بيان وزارة الخارجية الأميركية الإثنين بتبرئة إسرائيل عملياً من مقتل الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، جاء أقرب إلى الفضيحة. حيثياته عزّزت الشكوك، وتوقيته ضاعفها، فصدوره في إجازة العيد الوطني بدا متعمداً لتمريره بأقل ما يمكن من الأضواء، حيث تكون أميركا في هذه المناسبة في حالة إقفال عام.
حتى الصحافة الأميركية التي اعتادت على إبعاد الشبهات عن الدولة العبرية وتسويق شروحاتها، لم تقوَ هذه المرة على احتضان التسويغ الإسرائيلي والدفاع عنه. في تغطيتها، أبدت ارتيابها، ولو بصورة مبطّنة، في خلاصة التحقيق التي تضع المسؤولية عملياً على "مجهول". وكأن الضحية قضت بصاروخ عابر أو برصاصة سقطت من سماء زرقاء، وليس من موقع "مجاور" للقوات الإسرائيلية كما قالت "نيويورك تايمز"، استناداً إلى تحقيقاتها في القضية.
منذ البداية، كانت الخطة ألا تفتح واشنطن تحقيقها الخاص المستقل في الجريمة، رغم أن الشهيدة تحمل الجنسية الأميركية، حتى لا تضطر إلى الإعلان عن نتيجة محتومة، تنتهي بتحميل إسرائيل المسؤولية، أو إلى تبنّي موقف مخالف، وبالتالي محرج يصعب تبريره. "نثق بقدرة إسرائيل على القيام بهذه المهمة"، قال المتحدث في الخارجية نيد برايس يومذاك في رده على سؤال "العربي الجديد". لكن في آخر المطاف، وبعد تراكم الضغوط، وجدت المخرج – المهرب بدور للمنسق الأمني الأميركي بين إسرائيل والجانب الفلسطيني، والذي جاء في النهاية بمطالعة تؤكد خلاصة التحقيق الإسرائيلي الذي تعذر عليه التعرف إلى مصدر النار بسبب "التشوه" الذي لحق بالرصاصة التي قتلت شيرين! وكأن جسد المجني عليها هو الذي مزّق الرصاصة وليس العكس. فكان المخرج الفاضح بأنه "من المحتمل أن يكون الموقع الإسرائيلي - العسكري هو المسؤول عن الطلق الناري" الذي أودى بحياة شيرين.
فقط "من المحتمل"، تعني أن التهمة ليست ثابتة قانونياً ضد إسرائيل في قضية "موتها". كما تعني أن استشهادها ربما يكون قد حصل عن طريق "الخطأ"، أو قد يعكس ضمناً ما زعمه الجانب الإسرائيلي منذ البداية بأن الطلقة القاتلة قد جاءت من جهة العناصر التي تقصّدت القوات الإسرائيلية محاصرتها في مخيم جنين. المهم أن المسؤولية جرى تضييعها.
من الأساس، نأت الإدارة عن مسألة المسؤولية في هذه الجريمة. لا تجهل حقائقها، وتعرف أن إسرائيل ذاهبة بلا ريب إلى تجهيل الفاعل. فكان المطلوب هندسة التخريجة للفلفة القضية. والأهم طي ملفها بعجل، قبيل زيارة الرئيس جو بايدن إلى المنطقة في 13 الحالي.
ثمة تسريبات وتلميحات بأن الرئيس يعتزم "الحسم" مع إسرائيل في بعض القضايا، مثل موضوع إعادة فتح القنصلية الأميركية المعنية بالشؤون الفلسطينية في القدس الشرقية، لكن "المكتوب يقرأ من عنوانه". لا السوابق ولا البوادر تشجع. قبل أيام، اكتفى البيت الأبيض بمطالبة إسرائيل بعدم القيام بأي تصرف استفزازي قبل زيارته لإسرائيل ورام الله. لكن ماذا بعد الزيارة؟ صمت. وكأن ما يعني الإدارة أولاً هو الامتناع عن تعكير أجواء الزيارة، وتمريرها من دون إحراج، وفي هذا رسالة مسبقة إلى المنطقة عما يمكنها أن تتوقعه من الزيارة، واللقاءات المقرر أن تتخللها، خصوصاً المتعلقة منها بالقضية الفلسطينية.
مراضاة إسرائيل لحملها على وقف تعدياتها، هذا إذا كانت هناك نية من هذا النوع، ثبتت أنها سياسة واهمة. جرّبت إدارات سابقة هذا النهج بلا جدوى. يوم الجمعة الماضي، أجرى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مكالمة مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، "شدد" فيها على "التزام" واشنطن بتحسين الأوضاع المعيشية للشعب الفلسطيني "بشكل ملموس"، لكن في ما يخصّ خيار الدولتين، اكتفى بالقول إن الإدارة "تدعم"، لا تلتزم، مثل هذا الحلّ.
نفس المعزوفة التي سبق ورددتها الإدارات السابقة للتخدير وشراء الوقت. أكثر من مسؤول أميركي كبير سبق وفضح هذه اللعبة، لكن بعدما ترك موقعه. مستشار الرئيس جيمي كارتر زبغنيو بريجنسكي اعترف صراحة قبل رحيله، بأن الحديث عن حلّ سياسي لن يجد طريقه إلى الواقع ما لم "تضع واشنطن مشروعه على الطاولة، وتدعُ الطرفين لاعتماده"، وبالذات الطرف الإسرائيلي. إدارة الرئيس بايدن غير راغبة ولا قادرة على ذلك. مغادرة الموروث في هذه القضية صعبة عليها، وتسويقها لتحقيق إسرائيل في اغتيال شيرين أبو عاقلة دليل آخر على ذلك.