استمع إلى الملخص
- على مر العقود، دعمت إسبانيا القضية الفلسطينية من خلال سياسات مثل "إعلان مدريد" وزيادة الدعم المالي والتنموي للأراضي الفلسطينية، معبرة عن رفضها لسياسات الاحتلال.
- الاعتراف الإسباني بفلسطين يمثل تحولاً في سياستها الخارجية وتحدياً للموقف الأوروبي الموحد، معبراً عن دعم عام في المجتمع الإسباني للعدالة للشعب الفلسطيني ودعوات لعقوبات على إسرائيل.
رغم الاحتجاج الإسرائيلي والتهديد والوعيد، تسجل إسبانيا مرّة أخرى أنها تحاول العمل على أساس مبادئ وقيم من المفترض أن أوروبا تتبنّاها، فتطبيق اعتراف إسبانيا بدولة فلسطين غداً الثلاثاء 28 مايو/ أيار، بما يحمله من تحوّلات على مستوى العلاقة مع فلسطين وتمثيلها الدبلوماسي، يترجم تاريخا من علاقة مدريد بالحقوق الفلسطينية والانفتاح على حركة تحرّرها الوطنية.
تاريخيا، لم تقم مملكة إسبانيا، البلد الأوروبي المتوسطي، علاقات دبلوماسية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي إلا في بدايات عام 1986، وبعد أن أصبحت عضوا في السوق الأوروبية المشتركة (الاتحاد الأوروبي لاحقا).
ويسجل لإسبانيا أنها في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، منعت استخدام الولايات المتحدة قواعدها العسكرية في إسبانيا لإرسال الأسلحة إلى إسرائيل. وفي وقت كانت فيه لوبيات صهيونية أوروبية تستثير المجتمعات الأوروبية ضد النضال الفلسطيني وضد منظمة التحرير الفلسطينية، كان رئيس حكومتها الأسبق أدولفو سواريث غونثاليث ينفتح على المنظمة وزعيمها الراحل ياسر عرفات، حيث اعتبرتها حكومة مدريد في 1974 ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني. ومع وصول الاشتراكيين برئاسة فيلبي غونثاليث إلى السلطة في 1982، تزايد تصدّر مدريد الدعوات الأوروبية، إلى جانب رئيس حكومة السويد الراحل أولف بالمه (قتل اغتيالا في فبراير/ شباط 1986)، إلى تطبيق قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بإنهاء الاحتلال وحق تقرير المصير للفلسطينيين.
وبرغم أنها أصبحت في 1986 عضواً في المعسكر الأوروبي، وأقامت علاقات دبلوماسية مع إسرائيل في أواسط يناير/ كانون الثاني من ذلك العام، أبقت مدريد على دعمها الحقوق الفلسطينية، ورفض كل سياسات الاحتلال في الأراضي العربية المحتلة، بما في ذلك تغيير طابع القدس المحتلة.
وفي موقع رئاستها الدورية الأولى للسوق الأوروبية المشتركة، فرضت إسبانيا صيغة أمام الأوروبيين "إعلان مدريد" في يونيو/ حزيران 1989، وشمل ذلك "بالاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، بما في ذلك حقّه في تقرير المصير، وعقد مؤتمر دولي للسلام تحت رعاية الأمم المتحدة، ليكون منتدى مناسبا للمفاوضات المباشرة بين الأطراف المعنية (بما فيها منظمّة التحرير الفلسطينية)، بهدف التوصل إلى حل شامل وعادل ودائم"، بحسب ما تشير الموسوعة التفاعلية الفلسطينية.
ومنذ مؤتمر مدريد في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 1991 برعاية أميركية - روسية، تطوّرت العلاقة الدبلوماسية الفلسطينية - الإسبانية إلى مستوى يجعل اليوم من إسبانيا مقرّا لتخريج عدد كبير من الدبلوماسيين الفلسطينيين الشبان، برغم التغيّرات التي طرأت على المواقف الرسمية الإسبانية في الشرق الأوسط بعد "هجمات 11 سبتمبر" 2001 ضد أميركا، ومشاركتها في حرب أميركا في العراق وأفغانستان.
وبعودة الاشتراكيين إلى الحكم في 2004 برئاسة خوسيه لويس رودريغيث ثاباتيرو، ووزير خارجيته ميغيل أنخيل موراتينوس (حتى 2010)، زادت إسبانيا دعمها الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى نحو مائة مليون يورو سنويا، وانخراط عديد من المؤسّسات الإسبانية والمنظمات غير الحكومية في مشاريع تحسين قطاعات الرعاية الصحية والتعليم والتنمية الاجتماعية في الضفة الغربية وقطاع غزّة.
اعتراف ينسجم مع الثوابت
ليس الموقف الإسباني الرافض دائما حروبَ إسرائيل على الفلسطينيين جديدا، بما في ذلك الموقف أخيراً بشأن غزّة، وتحميل الاحتلال مسؤولية تدمير البنية التحتية المدنية والتسبّب بأزمات إنسانية خطيرة.
ومنح القضاء الإسباني، وفق مبدأ "العدالة الكونية"، المحاكم الوطنية الحقّ في إقامة محاكم جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في الخارج، ما جعل المحاكم الإسبانية في سنة 2008 تقبل شكاوى ضد عسكريين إسرائيليين متهمين بارتكاب جرائم حرب. عُدل القانون بعد توتّر كبير في علاقة مدريد بتل أبيب على أساس أن يشترط في التطبيق ضحايا على صلة بإسبانيا.
والواضح، منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أن سياسات مدريد في عهد الاشتراكي بيدرو سانشيز قفزت عن السياسات التقليدية حول أن الاعتراف بدولة فلسطين يكون بالتوافق داخل الاتحاد الأوروبي. وقد وافق برلمانها أصلا في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014 على اقتراح الاشتراكيين الاعتراف بفلسطين دولة مستقلة.
ومع وجود سياسات أوروبية منقسمة، اختارت إسبانيا التوجه نحو خطوة برفقة النرويج وأيرلندا، وربما تتبعها دول أخرى، للتعبير عن رفض بقاء القضية الفلسطينية كما ظلت عليه طوال العقود التالية لمؤتمر مدريد 1991 الذي عقدت عليه آمالا، كما فعلت أوسلو منذ عام 1993. إذا، الاعتراف الإسباني الذي يدخل التنفيذ بدءا من الثلاثاء يعكس أيضا مجموعة من المواقف التي أسست له طوال الأشهر الماضية.
وفي 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، طالبت وزيرة الحقوق الاجتماعية إيوني بيلارا الدول الأوروبية بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل ومعاقبتها بسبب قتل المدنيين. وفي 15 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، تعهد سانشيز بالاعتراف بدولة فلسطين، داعيا إلى "وضع حد للقتل الأعمى للفلسطينيين في غزة".
وفي الـ25 من الشهر نفسه، قطعت برشلونة العلاقات بالجانب الإسرائيلي حتى تطبيق وقف إطلاق النار، كما عبر رئيس بلديتها آدا كولاو. إضافة إلى رفض رسوّ سفينة ماريان دانيكا المحمّلة بالأسلحة لدولة الاحتلال في ميناء قرطاجنة (جنوب شرق). واتهمت وزيرة المساواة الإسبانية إيرين مونتيرو الولايات المتحدة بالتواطؤ مع جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل.
كذلك، رفضت مدريد الانسياق وراء الرواية الإسرائيلية لوقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، واستمرّت التظاهرات والتحرّكات الجامعية في مختلف المدن رفضا لحرب الإبادة والداعية إلى عقوباتٍ على إسرائيل.
إجمالا، إعلان وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس أن اعتراف بلاده بدولة فلسطين "هو إحقاق للعدالة للشعب الفلسطيني" يعبّر عن ترجمة عملية لمواقف إسبانية كثيرة ممتدّة أكثر من نصف قرن. وذلك ليس بمعزل عن وجود تيار عام في مجتمع إسبانيا يحافظ تاريخيّا على فهم عدالة الحق الفلسطيني. وحين يعبّر وزراء إسبان عن دعم فلسطين، رافضين حرب الإبادة بشكل صريح، كما فعلت وزيرة الدفاع مارغريتا روبليس على شاشة التلفاز الرسمي "تي في إي" السبت الماضي، فهذا يعكس رسوخ ذلك التيار، بغضّ النظر عن لون الحكومات في مدريد.
وتصريح وزيرة العمل يولاندا دياز إن فلسطين ستكون "حرّة من النهر إلى البحر" يأتي ليتوّج جرأة التحوّلات المتعاظمة على مستويات متعدّدة في أوروبا المتأثرة والمؤثرة ببعضها. لذلك كله، تُبدي دولة الاحتلال الإسرائيلي كل هذا الغضب من جهة، ومن جهة أخرى، محاولة الاستخفاف بتلك التحوّلات، التي تدرك عمقها مع لوبياتها التي تواجه مشكلة لم تواجهها طوال العقود الماضية.