- الاشتباكات تأتي بعد إعلان خطة لإخلاء طرابلس من التشكيلات المسلحة، لكنها اندلعت بسبب اعتقالات متبادلة بين الجهازين، ما استدعى تدخل مسؤولين لإنهاء الصراع بتبادل المعتقلين.
- سكان طرابلس يعبرون عن استيائهم من تكرار الاشتباكات وينتقدون الحكومة لدعمها التشكيلات المسلحة، مما يعقد عملية السيطرة عليها ويزيد من تغولها داخل الأحياء.
عاش سكان أحياء طريق المطار وشارعي المدار والجرابة في العاصمة الليبية طرابلس، مساء ثاني أيام عيد الفطر، الخميس الماضي، على وقع تفجر اشتباكات مفاجئة بين جهاز الردع وجهاز دعم الاستقرار، استخدمت فيها الأسلحة المتوسطة.
وتخلل الاشتباكات إغلاق الطرق المؤدية إلى هذه الأحياء، وارتباك في حركة السير في الأحياء المحاذية، خصوصاً بالقرب من أحد ملاهي الأطفال، الذي كانت أعداد من الأسر تقضي فيه العيد، قبل أن يختفي صوت الاشتباكات وتنسحب العربات المسلحة فجأة أيضاً بعد نحو ساعة.
وجاءت اشتباكات الخميس الماضي، بعد شهر من إعلان وزير الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية عماد الطرابلسي عزم الحكومة إخلاء طرابلس من جميع التشكيلات المسلحة بعد شهر رمضان الذي انتهى يوم الثلاثاء الماضي. وأكد الطرابلسي، خلال مؤتمر صحافي وقتها، أنه لن يكون في طرقات طرابلس "إلا البحث الجنائي والنجدة والمرور ومراكز الشرطة".
كما ذكر المجموعات المسلحة المستهدفة بالإخلاء، وهي جهاز الأمن العام، واللواء 444، واللواء 111، وجهاز الردع، وجهاز دعم الاستقرار. والأخيران هما من اندلعت بينهما الاشتباكات مساء الخميس الماضي.
وفيما لم تعلن الوزارة ولا الحكومة في طرابلس أسباب الاشتباكات الأخيرة، أفاد مصدر أمني تابع لمديرية أمن طرابلس، في حديث لـ"العربي الجديد"، بأن السبب هو قيام مسلحي الشرطة القضائية التابعين لجهاز الردع باعتقال عنصرين تابعين لجهاز دعم الاستقرار، ورد الأخير باختطاف عنصرين تابعين للأول، قبل أن يتدخل مسؤولون في وزارة الداخلية لإقناع الطرفين بتبادل المعتقلين وإنهاء الاشتباكات.
أبرز المجاميع المسلحة في طرابلس
وبدأت المجموعات المسلحة في التشكل مطلع العام 2012 من قوام المسلحين الذين شاركوا في الانتفاضة ضد نظام معمر القذافي. وبمرور الوقت أصبحت هذه المجموعات تُذوّب بعضها جراء الصدامات بينها، أو بسبب توحدها في مجموعات كبرى، إلى أن أصبحت تشكل البنية الأساسية لهياكل قطاع الأمن في طرابلس وتضطلع بأدوار أمنية وشرطية، بعد أن شرعنتها الحكومات المتعاقبة على البلاد وصارت تعمل تحت مظلتها بأسماء رسمية، لكن باستقلالية في قرارها.
شهدت طرابلس خلال نحو عام أربع مواجهات بين الفصائل
وأبرز هذه المجاميع المسلحة في مشهد طرابلس اليوم، هي جهاز الأمن العام، الذي كان الطرابلسي وزير الداخلية الحالي يترأسه، ويسيطر على مناطق غرب العاصمة، وجهاز دعم الاستقرار الذي يسيطر على مناطق وسط العاصمة، ويترأسه العميد اغنيوة الككلي، ويتكون من كتيبة أبو سليم برئاسة الككلي الذي كان مدنياً قبل أن يصبح ضابطاً.
كما أن هناك جهاز الردع الذي يترأسه الملازم عبد الرؤوف كاره، وهو تشكيل ذو توجهات سلفية، ويسيطر على مناطق شمال العاصمة، بالإضافة إلى اللواء 444 الذي يترأسه العقيد محمود حمزة، والذي تكون من قوة منشقة عن جهاز الردع، قبل أن يصبح من القوى المسلحة الكبرى ويسيطر على مناطق جنوب العاصمة.
استياء بين سكان العاصمة طرابلس
واعتاد سكان طرابلس مشاهد الاشتباكات المسلحة بينهم. وقال فؤاد الخويلدي، وهو أحد سكان حي شارع المدار، لـ"العربي الجديد"، إن ما حدث الخميس الماضي "ليس الأول، فقد عشنا حروباً ليوم كامل وأحياناً لعدة أيام، ولن تصدق أننا خرجنا لارتياد مقهى بالحي (شارع المدار) بعد انسحاب العربات والمسلحين مباشرة، وفتحت المحال أبوابها بصورة اعتيادية"، لكن الخويلدي استدرك معبراً عن استيائه من تكرر مشاهد الحرب، التي قال إنها "تهدد أرزاقنا، فسياراتنا وشققنا مهددة بالرصاص والقواذف في أي لحظة، وأول ما نفكر فيه هو اصطحاب ما خف من لوازم شخصية وأي طريق نسلك للفرار".
وحمّل الخويلدي الحكومات المتعاقبة على البلاد مسؤولية تعزيز التشكيلات المسلحة نفوذها في طرابلس، مشيراً الى أن وزارة هيئة شؤون الجرحى ومبتوري الحرب تتولى رعاية مصابي الحروب، وتضمهم تباعاً عقب كل حرب، وتقدم لهم العلاج في الخارج والرواتب المجزية "بدون أي اعتبار لنتائج حروبهم على المواطنين وأرواحهم".
وتساءل الخويلدي باستياء: "هل سمعتم يوماً أن حكومة عاقبت هؤلاء المسلحين حيال انتهاكاتهم. بالعكس يُسوّى الإشكال بين المتحاربين وينتهي الأمر وتستمر الحكومات في دفع رواتبهم واحتضانهم".
وتتفق نجوى الباشا، وهي مواطنة من سكان حي باب بن غشير وسط العاصمة، مع شهادة الخويلدي. وذكّرت بالحرب التي دامت ليومين بين فصائل موالية لحكومة الوحدة الوطنية وأخرى موالية لحكومة مجلس النواب، إبّان محاولات الأخيرة، بقيادة رئيسها السابق فتحي باشاغا، دخول طرابلس.
وأكدت أن ملفات تعويض أصحاب الشقق المتضررة جراء الاشتباكات التي شهدها الحي يومها لا تزال منظورة أمام محكمة عسكرية، أوكل إليها مهمة النظر في تعويضات الاشتباكات، من دون أن تُنجز حتى الآن.
ومنذ نحو عام شهدت طرابلس أربع مواجهات مسلحة بين فصائلها المختلفة. ففي مايو/أيار الماضي دار قتال عنيف لعدة ساعات بين فصيلي جهاز الردع واللواء 444 على خلفية اعتقال الأخير عناصر من جهاز الردع، قبل الوصول إلى اتفاق تم خلاله إطلاق سراح المعتقلين. وفي أغسطس/آب الماضي تجدد القتال بين الطرفين ليومين وسط حي الفرناج الذي يعد من أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان على خلفية اعتقال آمر اللواء 444 العقيد محمود حمزة من جهاز الردع.
عبد الحفيظ: لا إمكانية لضبط سلوك التشكيلات المسلحة
وفي مظهر يؤكد العجز عن السيطرة على قرار التشكيلات المسلحة، ظهر رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة يومها في اجتماع قادة المجلس الاجتماعي لمنطقة سوق الجمعة بطرابلس، الذي ينحدر منه آمر جهاز الردع، وطلب تدخله لوقف الاشتباكات. وهو ما تم بالفعل، إذ أعلن المجلس الاجتماعي اتفاقه مع الدبيبة على إطلاق سراح آمر اللواء 444 على أن ينسحب عناصر الأخير من مقار في مناطق تدخل في نفوذ جهاز الردع قاموا باقتحامها والسيطرة عليها.
وفي حين أسفرت الاشتباكات التي دارت في أغسطس الماضي عن سقوط أكثر من 50 قتيلاً و150 جريحاً، لم تصرح السلطات بأعداد القتلى والجرحى من المدنيين من بين هذه الأرقام، كما لم تصرح بأي إجراءات عقابية حيال الفصيلين المتناحرين اللذين استمرا في أداء مهامها الأمنية وتبعيتهما للحكومة. وفي فبراير/شباط الماضي اندلع اشتباك لعدة ساعات بين جهاز الأمن العام وقوة فرسان جنزور التابعة لجهاز دعم الاستقرار، بالإضافة إلى اشتباكات الخميس الماضي.
وفي تعبير عن سخطه واستيائه من تعاطي السلطات مع المجموعات المسلحة، قال مروان الزليطني، وهو أحد الذين تم إجلاء أسرته ضمن 870 أسرة عبر ممرات آمنة من حي الفرناج أثناء اشتباكات أغسطس الماضي، في حديث مع "العربي الجديد"، إنه رفض تقديم ملف لطلب التعويض عن شقة أخيه في الفرناج بعد أن توفي شقيقه متأثراً بجراحه، إثر إصابة تعرض لها خلال الاشتباكات.
لا إمكانية لضبط سلوك المسلحين
واعتبر الضابط الليبي المتقاعد، الخبير في الشأن الأمني، الصيد عبد الحفيظ، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه لا يوجد أي إمكانية قريبة لضبط سلوك التشكيلات المسلحة للعديد من الأسباب التي لا تتعلق إلا بعلاقتها بالحكومات فحسب، مشيراً إلى أن الظهير الاجتماعي أحد الأسباب التي تقف وراء قوة هذه التشكيلات.
وأوضح أن هناك "ازدواجية غريبة، فمن ناحية أضر السلاح بالمواطن، ومن ناحية يلجأ الأخير إليه للاحتماء به، ويمكن أن نستشهد بواقعة مفاوضة الدبيبة للمجلس الاجتماعي لسوق الجمعة لإنهاء الاشتباكات بين جهاز الردع واللواء 444، وتمكن المجلس الاجتماعي من الضغط على جهاز الردع وإقناعه بوقف القتال".
ولفت عبد الحفيظ إلى أن "الحزازات المناطقية القديمة جعلت بعض المناطق تتمسك بمليشياتها، كتاجوراء وسوق الجمعة". ورأى أن "الخصومة المعروفة بين المنطقتين ومخاوف إحداهما من الأخرى تقف وراء دعم كليهما لمسلحيه، وبدون توفر حد أدنى من الاطمئنان للمنطقتين لن يتخليا عن وقوفهما وراء مسلحيهما".
كما لفت إلى سبب آخر وراء وجود فكرة المجاميع المسلحة، موضحاً أن "الفكرة ليست جديدة ولها قبول من المجتمع، الذي تعود على غياب مؤسسة الجيش والشرطة، بعد أن قام النظام السابق بتفكيك الجيش الليبي منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي واستبداله بالكتائب الأمنية".
وأوضح أن "المجموعات المسلحة حالياً تشغل تقريباً المواقع ذاتها، وفيها من يقوم على إرث كتيبة أمنية سابقة، مثل اللواء 444 الذي يشكل مقاتلو لواء 32 معزز التابع للنظام السابق أغلبية مسلحيه". واعتبر أن الحكومات المتعاقبة "لم تملك استراتيجية واضحة للسيطرة على التشكيلات".
وأوضح أن "كل حكومة لها برنامجها، هذا من جانب، ومن جانب آخر تفشل الحكومات في تنفيذ برامجها للحد من نفوذ هذه التشكيلات، كما حدث في حكومة الوفاق الوطني والحكومة الحالية للسبب نفسه، وهو وجود طرف مسلح متحفز للانقضاض على طرابلس وهو معسكر خليفة حفتر، وتضطر الحكومات إلى تقويتها لحماية نفسها، ومن هنا نشأت العلاقة بين الحكومات والتشكيلات المسلحة".
وأشار إلى أن إخضاع أفراد هذه التشكيلات "لتدريب مهني نظامي قد يعزز المسؤولية لديهم ويشكل طريقاً لاختراقها، كما أن تحديد مهام هذه التشكيلات قد ينهي تضارب مصالحها وتنخفض حدة الصدامات بينها. مثل هذه الإجراءات يمكن أن تكون آلية للحد من تغول السلاح، خاصة إذا تم إبعاد مقارها عن المناطق الأكثر كثافة بالسكان".
وعدا عن الدعم المالي الذي تتلقاه التشكيلات المسلحة، أشار عبد الحفيظ إلى تمكنها من توفير موارد خاصة بها، عبر المشاركة في أنشطة تجارة البشر وتهريب الوقود والنفوذ داخل المؤسسات المالية للحصول على حصص كبيرة من أموال اعتمادات البنوك، فضلاً عن توفير الحراسة والحماية لمقار أعمال التجار الكبار وشركاتهم.
وفي رأيه فإن "تلك الموارد صعبت من عملية الضغط عليها من الحكومات والسيطرة عليها بوقف دفع رواتب مسلحيها مثلاً"، مشيراً إلى أن هذه الأسباب مجتمعة جعلت من دور الحكومات ضعيفاً وغير قادر على معاقبة التشكيلات المسلحة إزاء انتهاكاتها في حق المدنيين، وردع قراراتها المستقلة في تنفيذ بعضها على بعض هجمات مسلحة داخل الأحياء السكنية.
وكانت مجزرة حي غرغور، التي وقعت في نوفمبر/تشرين الثاني 2013، أدت إلى أول احتجاج شعبي في طرابلس ضد نفوذ التشكيلات المسلحة وتغولها. وأدى إطلاق مليشيا "نسور مصراتة" يومها النيران عشوائياً على المتظاهرين بعد يومين من اندلاع الاحتجاجات إلى مقتل 47 مدنياً وإصابة 518. وفي أغسطس 2020 خرج سكان العاصمة على مدار أربعة أيام احتجاجاً على تردي الخدمات المعيشية وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة، قبل أن ترتفع مطالبهم بضرورة مغادرة التشكيلات المسلحة العاصمة، ما أدى إلى اعتقالات واسعة في صفوفهم من مليشيات مقربة من حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج.
وأجهضت الاحتجاجات بسبب الاعتقالات وتبخرت معها وعود السراج بإجراء تعديل وزاري للتجاوب مع مطالب المحتجين في تحسين الوضع المعيشي. وفي يوليو/تموز الماضي، وعلى مدار يومين نظم حراك شبابي وسم نفسه بحراك "بالتريس الشبابي" أوسع احتجاج سلمي في البلاد انطلق من العاصمة، وكان من بين مطالبه إنهاء عسكرة المليشيات وتسلطها، لكنه أجهض بحملة اعتقالات واسعة نفذتها مليشيات العاصمة تحت ذرائع عديدة، منها عدم حصوله على الإذن بالتظاهر.