قالت مصادر دبلوماسية وحكومية مصرية على صلة بملف سد النهضة إن تحقيق أي إنجاز في مفاوضات السد بات مرتبطاً بتدخل أجنبي كبير ومؤثر، لعملية وساطة شاملة على المستويين السياسي والفني. واعتبرت أنه من الصعب تصور استكمال مسار المفاوضات تحت رعاية الاتحاد الأفريقي، حتى بعد انتهاء رئاسة جنوب أفريقيا وتسلم الكونغو الديمقراطية رئاسة الاتحاد رسمياً الشهر المقبل.
وأضافت المصادر، التي تحدثت لـ"العربي الجديد"، أن إصرار الحكومة السودانية، ممثلة في وزارتي الري والخارجية، على إسناد مهمة صياغة مسودة الاتفاق إلى الخبراء التابعين للاتحاد الأفريقي "نقل المفاوضات من حلقة مفرغة إلى طريق مسدود". وكشفت أن إثيوبيا، التي كانت مستفيدة من تضييع الوقت في هذه النقطة وأبدت موافقتها على المسودة الأولى التي وضعها الخبراء، فاجأت الجميع خلال الاجتماع السداسي، أمس الأول، بالتحفظ على إسناد صلاحيات واسعة للخبراء، باعتبار أن الحكومات والوفود الرسمية هي التي يجب أن تبت في تفاصيل بعض المسائل المهمة، وليس أي طرف آخر.
فاجأت إثيوبيا الجميع خلال الاجتماع السداسي بالتحفظ على إسناد صلاحيات واسعة للخبراء
وذكرت المصادر أن هناك إيماناً في القاهرة بأن حالة الضبابية التي تخيم على مصير المفاوضات حالياً لن تنتهي إلا باللجوء مرة أخرى لمجلس الأمن الدولي، ورفع شكوى جديدة، مع اقتراب إثيوبيا من تنفيذ عملية الملء الثاني للسد في الصيف المقبل، لربما يؤدي هذا الطريق إلى تدخل مختلف من أطراف غربية عدة. وأوضحت أن هذا يأتي بعد الإشارات التي تلقتها القاهرة خلال الزيارة الأخيرة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى باريس، ومن بعض القيادات الديمقراطية المقربة من دائرة الرئيس الأميركي الفائز جو بايدن، وأكدت أن القوى الأوروبية والولايات المتحدة لن تقبل بإيقاع أضرار بمصر أو السودان، وعرضت الاستعداد لاتخاذ خطوات جديدة خلال الشتاء الحالي، لتقديم رؤى وسيطة مغايرة لما هو مطروح الآن على طاولة المفاوضات المتعثرة برعاية الاتحاد الأفريقي.
لكن المصادر استدركت بأن السيسي متخوف من الاستجابة الكاملة للنصائح الغربية، والتي تضمنت عدم الإقدام على تدويل القضية مرة أخرى، نظراً لصعوبة الثقة في أن تتحرك دولة، أو أكثر، لحل الأزمة، من دون أن يحدث في الحقيقة خلاف في مجلس الأمن كما حدث الصيف الماضي. وأشارت إلى أن جزءاً من الاتصالات المصرية السودانية الحالية، على مستوى الرئاسة والمجلس السيادي، يدور حول ضمان التنسيق المصري السوداني حال الاتفاق على اتخاذ هذه الخطوة.
ووفقاً لما نشرته "العربي الجديد" سابقاً حول هذه القضية، فإن المسؤولين الفرنسيين نصحوا بعدم اتخاذ هذه الخطوة، من واقع خبرتهم الخاصة، عندما فشلوا في توفيق وجهات النظر بين واشنطن وبكين لإصدار بيان يطالب بعدم اتخاذ أي خطوات أحادية. في إشارة لضرورة امتناع إثيوبيا عن ملء السد للمرة الأولى، قبل التوصل إلى اتفاق، الأمر الذي لم يتم، وأفشل المساعي المصرية التي جرت في يونيو/حزيران الماضي، بل وألقى بالملف في جعبة الاتحاد الأفريقي، الذي سمحت وتيرة المفاوضات التي يرعاها لإثيوبيا بإتمام عملية الملء الأول للسد من دون إخطار.
السيسي متخوف من الاستجابة الكاملة للنصائح الغربية والتي تضمنت عدم الإقدام على تدويل القضية مرة أخرى
وفي ذلك الوقت، كانت مصر تسعى، مدعومة من الولايات المتحدة، لطرح مشروع قرار يتضمن ثلاثة أقسام. الأول يؤكد على دعوة كل من مصر وإثيوبيا والسودان إلى استئناف المفاوضات الفنية للتوصل إلى اتفاق بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة بشكل مستديم يضمن مصالح الجميع، ويمنع إلحاق الضرر بأي طرف. والقسم الثاني يتضمن دعوة الدول إلى الالتزام بمبادئ القانون الدولي في حماية الحقوق المائية لجميع الدول المشاطئة للنيل الأزرق، وأن يكون الاتفاق منظماً لآلية دائمة لفض النزاعات التي قد تنشأ بين الأطراف. أما القسم الثالث، فيدعو جميع الأطراف -والمقصود بذلك إثيوبيا بالطبع- إلى عدم اتخاذ أي خطوات أحادية الجانب بشأن السد إلا بعد التوصل إلى اتفاق.
وفي المقابل، استطاعت إثيوبيا، مدعومة من الاتحاد الأفريقي ودول أعضاء في مجلس الأمن، كالصين وجنوب أفريقيا، إبقاء النزاع محصوراً تحت رعاية الاتحاد الأفريقي، بحجة أن المنظمات القارية هي الأجدر بالنظر في النزاعات الداخلية. وهي النقطة التي ركز عليها ممثل عن إثيوبيا في مجلس الأمن، خلال طلبه، في جلسة عقدت أخيراً، عدم نظر الموضوع في مجلس الأمن، واعتباره غير مختص به. وتتمتع فرنسا بمصداقية عالية لدى الحكومة الإثيوبية، كونها إحدى الدول التي شارك مستثمروها في إنشاء السد، لكنها في الوقت ذاته لا تتصور أن يعود العمل بأي ضرر على القاهرة، وفقاً للحديث الذي "كانت له صبغة إيجابية أكثر من أي وقت مضى" بحسب المصادر المصرية. وقارنت المصادر بين لهجة المسؤولين الفرنسيين خلال زيارة السيسي الأخيرة إلى باريس، ومواقفهم المحايدة سلباً سابقاً، عندما كانت مصر تطلعهم على تطورات العمل بالسد، وتطلب منهم التدخل لوقف العمل به من خلال الضغط على الشركات الفرنسية، حيث أبلغوا وزارة الخارجية المصرية مراراً بأن الحكومة لا تستطيع الضغط على المستثمرين بهذه الصورة.
وسبق في مايو/أيار الماضي أن أبلغت إثيوبيا الدول الغربية بأنها لا ترى غضاضة في استكمال المفاوضات الفنية على أساس اتفاق المبادئ، من دون أية إشارة إلى مفاوضات واشنطن، وترحب بتدخل "الدول والمنظمات الصديقة". قبل أن تعود لتسعى إلى حصر المفاوضات برعاية الاتحاد الأفريقي، وبحضور الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كمراقبين فقط، ما تسبب في تعطيل المسار التفاوضي واقتراب إفشاله، خصوصاً مع رفض القاهرة اللجوء إلى خبراء الاتحاد الأفريقي لإعداد صياغات بديلة للاتفاق الذي رعته واشنطن في ربيع العام الماضي، وامتنعت أديس أبابا والخرطوم عن التوقيع عليه.