إسرائيل لن تتوقف عن مفاجأة الطرف اللبناني

14 أكتوبر 2020
شدد شطاينتس على أن المفاوضات ستكون مباشرة (أوزان كوز/فرانس برس)
+ الخط -

لا تغيّر دولة الاحتلال من طبيعتها ولا من ممارساتها وألاعيبها المختلفة، كلما خاضت في مفاوضات مباشرة، وبالأساس تحت رعاية وبوساطة الولايات المتحدة الأميركية، مع طرف عربي، أياً كان، منذ مفاوضات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل (عام 1978)، إذ أظهرت الوثائق بعد سنوات طويلة ومنها مذكرات الوزير المصري بطرس غالي، كيف لجأ الرئيس الأميركي جيمي كارتر إلى تهديد نظيره المصري أنور السادات بأن مغادرة منتجع كامب ديفيد، بعد تعثر المحادثات الأولية، ستعني نهاية العلاقات بين مصر والولايات المتحدة، وتقلّب الرأي العام العالمي ضد مصر.

تكرر هذا النهج في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية وخلال مراسم توقيع اتفاق القاهرة (1994)، عندما ظهر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات على الملأ وهو يرفض التوقيع وكادت المفاوضات تتفجر. ثم بشكل أوضح بعد فشل كامب ديفيد (عام 2000) ووقوف الرئيس الأميركي بيل كلينتون كلياً إلى جانب الطرف الإسرائيلي في محاولة إرغام عرفات على التوقيع على اتفاق ينصّ على نهاية المطالب الفلسطينية كلها، وهو ما عُرض لاحقاً أيضاً على أبو مازن من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت بعد مفاوضات أنابوليس (2007). وحدث الشيء نفسه على طول مسار المفاوضات مع سورية، وكل ما يتعلق بوديعة إسحاق رابين وحدود الانسحاب الإسرائيلي من هضبة الجولان.
ولم تنجُ المملكة الأردنية الهاشمية من الألاعيب الإسرائيلية نفسها في كل ما يتعلق بجدول استعادة الأردن لمنطقتي الغمر والباقورة، ومحاولات إسرائيل تمديد فترة "استئجار" المنطقتين لصالح المستوطنين والمزارعين الإسرائيليين بعد أن كان الأردن خلال مفاوضات وادي عربة وافق على تأجيل استرجاع هذه الأراضي لخمسة وعشرين عاماً.

وقف كلينتون كلياً إلى جانب الطرف الإسرائيلي بمفاوضات كامب ديفيد في محاولة إرغام عرفات على التوقيع على اتفاق ينصّ على نهاية المطالب الفلسطينية

وإذا كانت الألاعيب الإسرائيلية في الأمثلة السابقة، قد وقعت في أوج العملية التفاوضية، مع إحساس الإسرائيليين أن الطرف العربي قطع مسافة "اللاعودة"، مما يجعلهم يزيدون من الضغوط في المفاوضات، والاتجاه للهجة ضبابية (راجع ما حدث مع مصر والسادات في مسألة الحقوق الوطنية للفلسطينيين، مقابل رفض إدراج مصطلح حق تقرير المصير وانتهاء بمنع مصر من إدخال قوات إلى سيناء من دون إذن إسرائيلي)، فإن ما ينتظر لبنان في المفاوضات لا يبشر بخير، لجهة لجوء إسرائيل منذ اللحظة الأولى مثلاً إلى التشكيك في مصداقية إعلان رئيس مجلس النواب نبيه بري في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الحالي. فبعد ساعات من إعلان بري أن المفاوضات لن تكون مباشرة، أعلن وزير الطاقة الإسرائيلية يوفال شطاينتس العكس من ذلك تماماً، إذ قال إن هذه هي المرة الأولى منذ ثلاثين عاماً التي تُجرى فيها محادثات سياسية مدنية، بعد أن كانت حتى الآن تتم بشكل غير مباشر، ثم تكراره مطلع هذا الأسبوع مجدداً أن المفاوضات ستكون مباشرة.
إضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من الحديث عن أطقم مفاوضات مهنية وفنية وعسكرية، فقد اتضح أن إسرائيل زجت في الوفد الرسمي، مستشار الشؤون السياسية لرئيس الحكومة، رؤبان عازار، عدا عن تكرار الإعلان أن شطاينتس سينضم إلى جولات المفاوضات في المراحل اللاحقة إذا "اتضح أن اللبنانيين جادين في المفاوضات ولم يأتوا لتمضية الوقت".

هذه الخروقات الإسرائيلية، والإصرار كما انعكس في الإعلام الإسرائيلي على وصف المفاوضات مع لبنان بأنها مباشرة ولو بوساطة أميركية، تبيّن حجم الخطأ اللبناني الذي أتاح التقدم في المفاوضات غير المباشرة نحو الوضع الحالي، والذي تمثّل بتراجع لبنان، عملياً، عن مطلب التحكيم الدولي، والاتجاه "لطلب المساعدة الأميركية" بحسب إقرار بري في الأول من أكتوبر. في المقابل، أشارت الصحف الإسرائيلية إلى أن إسرائيل رفضت تحكيماً دولياً لعلمها أن لجنة تحكيم دولي ستعطي إسرائيل أقل مما يمكن أن تحصل عليه في مفاوضات بوساطة أميركية. والسؤال الأهم هو هل سيتمكن لبنان من تفادي ما حدث مع دولتين عربيتين، هما مصر والأردن، ومع منظمة التحرير، من الوقوع في مصيدة المفاوضات من دون قدرة على الرجوع عنها في حال خرقت إسرائيل التفاهمات الأولية، واختلقت الأزمات، ثم عرضت عبر الوسيط الأميركي تسويات تنطوي على تنازلات لبنانية ولو على شكل تأجيل نقاط الخلاف إلى مراحل لاحقة، كي لا يتم تحميل لبنان دولياً مسؤولية فشلها، خصوصاً أن إسرائيل وعلى الرغم من ترحيبها الرسمي باتفاق الإطار، أبقت على "تحفظ" من ألا يتم تعطيل التوصل إلى الاتفاق في حال قرر "حزب الله" عرقلة المفاوضات.

ويبدو من تصريحات شطاينتس الاستعلائية، الخط التفاوضي الإسرائيلي الذي سيعتمد على الوضع الاقتصادي في لبنان، فقد قال شطاينتس قبل عدة أيام: "لقد طوّرنا حقول الغاز التابعة لنا، ووفرنا على الدولة 150 مليار شيقل (نحو 44 مليار دولار). المداخيل هي نحو 20 ملياراً، وقللنا بنحو 60 في المائة نسبة التلوث في الجو. لقد انخفضت أثمان الكهرباء وستواصل الانخفاض". وفي المقابل، أوضح أن "لبنان في أزمة اقتصادية، وبالتالي فالأمر بالنسبة لهم أكثر إلحاحاً، ولكن نحن مستعدون للتسوية في القضايا المختلف عليها".

إلى ذلك، من الواضح أن دولة الاحتلال ستوظّف الوضع الراهن في لبنان والمساندة الأميركية لفرض تنازلات على لبنان، وربما جرّه أيضاً لفتح ملف الحدود البرية كجزء مكمّل للمفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية، وربط الأمرين معاً، علماً بأن التفاهمات التي تم التوصل إليها لا تربط بالضرورة بين المسارين.
ويشكّل الوضع السائد في لبنان مع تشابك عملية تشكيل حكومة جديدة، ومبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أرضية خصبة للتلويح بالعصا الأميركية، لا سيما في ظل حقيقة الدعم الأميركي للجيش اللبناني، من جهة، مقابل عصا العقوبات المالية على مسؤولين في "حزب الله"، من جهة أخرى.

من الواضح أن دولة الاحتلال ستوظّف الوضع الراهن في لبنان والمساندة الأميركية لفرض تنازلات على لبنان
 


ولا حاجة عملياً للذهاب بعيداً أو العودة للوراء كثيراً، فمع إعلان الإمارات عن تحالفها مع دولة الاحتلال مقابل ادعاء أبوظبي أن تل أبيب وافقت على وقف عملية الضم، سارع كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والسفير الأميركي لدى دولة الاحتلال ديفيد فريدمان إلى التأكيد أن الحديث هو فقط عن تعليق الضم، وهو ما كان من نصيب جيمي كارتر في مفاوضات كامب ديفيد عندما فاجأه رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن في 17 سبتمبر/أيلول 1978 عندما أعلن أن تجميد الاستيطان يكون فقط لثلاثة أشهر.

لن تكون المفاوضات اللبنانية-الإسرائيلية خالية إذاً من الألاعيب الإسرائيلية، ولا من الضغوط الأميركية الثقيلة، وربما تصحبها أيضاً ضغوط أوروبية لإبداء مرونة وتقديم تنازلات "طفيفة"، لا سيما أن لبنان يبدو في حالة ضعف لا يملك فيها أوراق ضغط قوية مقابل إسرائيل، خصوصاً في ظل أزمة الثقة بين الشعب اللبناني والدولة، وسيحتاج المفاوض اللبناني إلى "أعصاب حديدية" والأهم من ذلك طول نفس كي لا يقع في مصيدة بلوغ "نقطة اللا عودة".

المساهمون