شكّلت الانتفاضة الشعبية اليمنية في العام 2011، أرضاً خصبة لولادة المكونات الثورية الشبابية من مختلف التيارات السياسية والمدنية، والتي نشأت كلسان حال لساحات الثورة وتنظيم صفوفها ومطالبها في مقارعة نظام علي عبد الله صالح خلال احتجاجات الربيع العربي. وعلى الرغم من أن الهدف الرئيسي لتلك المكونات كان ضبط إيقاع العمل الثوري، إلا أن لجوء البعض لممارسة دور الوصاية، والخوض في صراعات حزبية داخل ساحات الثورة، قادها للاندثار تباعاً، ولم ينجح أي مكوّن في التحوّل إلى حزب أو تنظيم سياسي.
ومنذ اجتياح الحوثيين لصنعاء، أواخر العام 2014 واندلاع الحرب، انقسم قادة المكونات الثورية بناء على التوجهات الحزبية، ففي حين تمسكت الغالبية بمبدأ مناهضة الانقلاب الحوثي، جعل البعض من مواجهة التحالف السعودي الإماراتي هدفاً رئيسياً لنشاطهم المحصور على مواقع التواصل الاجتماعي.
والتحق عدد من روّاد التغيير بمناصب عليا في الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، فيما انضم آخرون لجماعة الحوثيين، بينما كان الشتات مصير الغالبية العظمى منهم، الذين قادتهم الظروف إلى دول أوروبا كلاجئين، أو للعمل في تركيا وعواصم عربية مختلفة.
وتسبّب الانقلاب الحوثي في اندثار العمل الثوري المناهض للسلطات بشكل تام، وباستثناء تظاهرات معدودة شهدتها صنعاء بعد العام 2015، كانت الجماعة تصف أي دعوات للتظاهر ضد القمع أو أي مطالب حقوقية بأنها ترفع أجندات مشبوهة وتعمل لصالح دول التحالف، وهو ما جعل كافة المسيرات التي تشهدها العاصمة اليمنية بلون واحد، وغالباً ما تكون موجّهة ضد السعودية أو أميركا كشركاء في شنّ الحرب ضد الحوثيين منذ 26 مارس/ آذار 2015.
صنعاء الحاضنة الأكبر
كما كانت تعز مسرحاً لأول ميادين الثورة وأكبر المسيرات الجماهيرية، تميّزت العاصمة صنعاء باحتضان الرقم الأكبر من المكونات الثورية، باعتبارها مركز القرار للعمل السياسي والمدني ووسائل الإعلام، إضافة إلى وجود هدف رئيسي، وهو مقارعة النظام عن قرب. وعلى الرغم من اتخاذ المكونات الثورية مخيمات أو شققاً سكنية متواضعة في أحسن الأحوال مقرات رسمية لها، إلا أنها اعتمدت بشكل رئيسي على الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي، مثل "فيسبوك" و"تويتر"، في مقارعة نظام صالح وتحفيز الجماهير على المشاركة في المسيرات، والتحضير للتظاهرات الضخمة التي كانت تحمل مسميات مختلفة كل جمعة.
كانت صفحات "تعز سيتي" و"عين اليمن الإخبارية"، من أهم المنصات الثورية التي قضّت مضاجع النظام في العام 2011 من مدينتي تعز وصنعاء، ومواكبة التظاهرات اليومية والأنشطة الثورية بالمعلومة الخبرية والصور والفيديو، وهو ما جعلها حينذاك مصدراً لعدد من وسائل الإعلام العربية والدولية.
تميّزت صنعاء باحتضان العدد الأكبر من المكونات الثورية، باعتبارها مركز القرار للعمل السياسي والمدني ووسائل الإعلام
في ساحة التغيير في صنعاء، لعبت "اللجنة التنظيمة"، التي شكّلتها أحزاب اللقاء المشترك (تضم عدداً من الأحزاب بينها الاشتراكي والإصلاح)، دوراً بارزاً في الحراك الثوري ضد نظام صالح، وخصوصاً في الأسابيع الأولى التي تم فيها حشد الدعم الإعلامي والمادي وترتيب مهام الحراسات الأمنية من أي اختراقات للنظام السابق، إلا أن الصراعات الحزبية، والاتهامات لحزب "التجمّع اليمني للإصلاح" بالسيطرة على قرارها، جعل بعض المكوّنات تنشق عنها وتتجه لتشكيل ائتلافات ثورية جديدة.
كما احتضنت ساحة صنعاء المنسقية العليا للثورة، والتي كانت من المكونات البارزة التي تمكنت من التنسيق مع مختلف الساحات اليمنية وتشكيل فروع لها، وكان ياسر الرعيني، وزير الدولة السابق، من أبرز القيادات الشابة التي برزت من هذا المكون.
ولجأ المستقلون إلى تشكيل مكونات منفردة بعيدة عن المكونات الكبرى التي استحوذت عليها الأحزاب، مثل "التحالف المدني" للثورة، الذي شارك في أولى التظاهرات الاحتجاجية وتصدّره البرلماني أحمد سيف حاشد، والصحافي عبد الباري طاهر. وقام هذا المكون بزيارات ميدانية إلى عدد من ساحات الثورة البعيدة عن صنعاء، وخصوصاً ساحة الحرية في تعز وكذلك ساحة عدن.
وإضافة للتحالف المدني، كان المجلس التنسيقي لشباب الثورة، والذي عُرف باسم "تنوع"، واحداً من أبرز المكونات المستقلة في ساحة التغيير، واحتضن عدداً من المكونات في صنعاء وتعز، وكان من أبرز التكتلات الرافضة للمبادرة الخليجية.
اللجنة التحضيرية لمجلس شباب الثورة، والتي تصدرتها الناشطة الفائزة بجائزة نوبل توكل كرمان، كان لها حضور بارز في ساحة التغيير في صنعاء، وذلك من خلال الدعوات المتواصلة للتصعيد ضد نظام صالح، لكن هذا المكوّن فشل في أولى خطواته الثورية، وهي تأسيس أول مجلس انتقالي يضم شخصيات وطنية، ويكون بديلاً عن نظام صالح، منتصف العام 2011.
جماعة الحوثيين قامت أيضاً بتأسيس أحد المكونات التي نشطت بشكل كبير في ساحة التغيير في صنعاء، والذي عُرف باسم "ائتلاف شباب الصمود". ووفقاً لخبراء، فقد استطاعت الجماعة من خلال هذا المكوّن، التغلغل في الأوساط السياسية والمدنية، واستقطاب شخصيات مدنية ويسارية، وخصوصاً من النساء، لتأييد توجهاتها، وكان له دور رافض للمبادرة الخليجية.
وفي تعز، فرض عدد من المكونات الثورية حضورها على ساحة الحرية، وخصوصاً "حركة شباب نحو التغيير"، والتي ضمت عدداً من الكتّاب والصحافيين والناشطين، تصدّرتهم الكاتبة بشرى المقطري. أما في عدن، فكانت "حركة شباب 16 فبراير"، والتي تم تأسيسها بالتزامن مع تاريخ سقوط أول ضحايا الثورة في المدينة، محمد العلواني، وكانت تضم الشباب المستقل، لكنها انخرطت بعد ذلك في صفوف الحراك الجنوبي، و"المجلس الانتقالي الجنوبي" في وقت لاحق.
المبادرة الخليجية: أولى الطعنات
أجمع عدد من شباب الثورة وروّاد التغيير في اليمن، في أحاديث منفصلة لـ"العربي الجديد"، على أن المبادرة الخليجية التي طرحتها السعودية لاحتواء الغضب الشعبي المتصاعد ضد نظام صالح، كانت أولى الطلقات التي وأدت الثورة وأصابت المكونات الثورية في مقتل، وذلك بعدما نجحت في تحويل الانتفاضة إلى مجرد صراع سياسي بين أحزاب.
نجحت المبادرة في إزاحة صالح عن هرم السلطة في اليمن، لكن نظام حكمه الذي خرج الثوار لإسقاطه والمطالبة بدولة مدنية عادلة، أصبح شريكاً في أول حكومة توافقية بناء على الاتفاق الخليجي، والتي ترأسها حينذاك السياسي المخضرم محمد سالم باسندوة.
أصيبت ساحة الثورة بخيبة أمل، بعد إصرار مهندسي المبادرة الخليجية على منح صالح وأسرته وأفراد نظامه الحصانة من أي محاكمات
أصيبت ساحة الثورة بخيبة أمل واسعة، بعد إصرار مهندسي المبادرة الخليجية على منح صالح وأسرته وأفراد نظام حكمه الحصانة من أي محاكمات، على الرغم من السجل الأسود لانتهاكات حقوق الإنسان. ففي حين أذعنت الغالبية للأمر، وخصوصاً الملتزمين بتوجهات أحزابهم السياسية، وقاموا بالانسحاب من ميادين الثورة ورفع المخيمات، اعتبر لفيف واسع من غير المؤدلجين سياسياً أن ما جرى هو "احتيال وسرقة واضحة لأحلام الثوار".
وألقى عدد من شباب الثورة اللوم على الأحزاب السياسية التي شاركت في وأد الثورة وعدم تحقيق كامل أهدافها، وسط اتهامات لتلك الأحزاب بعدم الرغبة في إصلاح فساد النظام السابق، بل وراثته، والحصول على امتيازات جديدة من خلال الشراكة بالحكم، وهو ما تحقق لها في أول حكومة مناصفة بعد الثورة وحتى الآن.
يتفق الصحافي والمحلل السياسي اليمني رشاد الشرعبي مع الرأي القائل إن غالبية المكونات الثورية كانت تخضع لسيطرة الأحزاب أو تأتمر بتوجيهاتها، وهو ما أدى إلى موتها بعد توقيع المبادرة، وعدم التفكير بتحويلها إلى أحزاب جديدة. ويقول الشرعبي في حديث لـ"العربي الجديد": "أغلب المكونات تنازعتها الأحزاب، وتشكّلت من شباب منتمين حزبياً أو ممن كان لديهم دعم وعلاقات مع المنظمات الخارجية، ولأنهم كانوا مرتهنين للأحزاب وتديرهم الأحزاب، فمن الصعب عليهم التفكير بتشكيل أحزاب أو مكونات جديدة تكون ملبية لمطالب الشباب المعلنة".
ويضيف الشرعبي، الذي شارك في فعاليات الثورة ضمن مكوّن خاص بالإعلاميين في ساحة التغيير في صنعاء، أن الأحزاب أظهرت سيطرتها على المكونات الثورية وشباب الساحة عموماً، وقامت بتشكيل اللجنة التنظيمية وتوزيع حصصها، وحينما خرج الشباب، شبه المستقلين أو الحزبيين المتمردين، كانوا قلة، ورفدتهم الأحزاب أيضاً، ولذلك سيطرت عليهم ودخلت في مساومات ومفاوضات باسمهم.