للمرء أن يتخيل وضع أوروبا، لو طاول قصف ما لوكسمبورغ أو ليتوانيا. فالعربي مضطر أحياناً لمقاربات موجعة، لأجل التثبت من أن سياسات "الأمة" الرسمية لا تشبه غير نفسها، في تنافسها على "اللامعقول" حتى في المصالح. ولو أن الأمر تعلق بغير عدوان صهيوني على عاصمة عربية، كما جرى في بيروت مساء الثلاثاء الماضي، لهرعت جامعة الدول العربية إلى فتح أدراج وصناديق لغة التفجع الكاذب على "سيادة" هذا وذاك.
90 يوماً وجرائم الإبادة في غزة متواصلة. ويتذكر العربي ما ساقه "المطبعون" من تبريرات الهرولة إلى حضن مجرم حرب بوزن بنيامين نتنياهو، باعتباره "سيخدم القضية". وبعد كل هذه الجرائم يسأل هذا العربي: ماذا يفعل ممثلو وسفراء الجريمة في عواصم العرب؟
السؤال ليس بمعزل عن مقارنة بسياسات بعض دول أميركا اللاتينية، غير العربية بالمناسبة، من مواقف وطرد لسفراء تل أبيب. فهؤلاء انطلقوا من مبدئية تتعلق بالعدالة، التي وجب، إن كنا نتذكر شيئاً من عروبتنا، أن تكون عربية، وبينها إغاثة الملهوف. بل لعل ذهاب جنوب أفريقيا، التي عانت الأبارتهايد، إلى محكمة العدل الدولية لمتابعة جرائم الإبادة بحق الفلسطينيين، تكشف تحول قيمة النظام الرسمي العربي إلى وزن الريشة. نظرياً وقّع كثيرون من العرب، والدول الإسلامية، على معاهدة مكافحة جرائم الإبادة، فتركوا جنوب أفريقيا (غير العربية أيضاً) وحيدة في دعوى هم أولى برفعها، لو صدقوا مرة مع شعوبهم.
لندع جانباً كل ذلك، فالتغني بصمود غزة، بتحويل الغزيين إلى كائنات حديدية في خطاب خذلانهم، وظهور 57 دولة (عربية وإسلامية) بلا وزن و"عاجزة" عن "كسر الحصار"، كما قرروا في قمة الرياض قبل شهرين، ليس أقل كارثية على الشعب المُحاصَر. فكيف يُترك عربياً لدولة الجرائم الصهيونية تحديد عدد السعرات الحرارية لـ"الأشقاء" الفلسطينيين؟
التجويع بهدف الترحيل القسري جريمة حرب، وجزء من جريمة الإبادة، حتى لو أفلت منها مؤقتاً، بفرجة عربية، نظام الاستبداد في دمشق حين مارسها بحق "الأشقاء" السوريين. من لا يريد "التهجير"، ولا تطبيق سياسات "الترانسفير"، لا يتغنى فقط بحديدية "صمود الغزيين"، إذ حتى انتهازياً عليه أن يطبق ما قرره لكسر الحصار.
في جردة التاريخ للأجيال القادمة تتأسس سيرة مُخجلة، تشبه ما تلقيناه نحن عن أبو رغال أبرهة الحبشي وابن علقمي في غزو المغول. الحرب على غزة ستتوقف يوماً، وسيذكر الشارع العربي كيف مُنع عن مساندة أهلها، ومحاولة حكامه تحويله إلى جمهور فرجة، وشاهد زور على المذبحة، وكيف بكل وقاحة تحول البعض من على شاشات "إعلامه" إلى زوائد في طابور الكذب الذي قاده المتحدث باسم دولة الأبارتهايد وجرائم الحرب دانيال هاغاري.
حتى وإن كانت الأنظمة خائفة من "حليفتها" الاستراتيجية الولايات المتحدة، المشاركة في ذبح "الأشقاء الفلسطينيين"، أما كان أولى لها تطهير نفسها، مرة وإلى الأبد، بترك شوارعها تُعلي صوتها وتُسمعه لواشنطن والغرب؟
ذلك بدل السقوط الأخلاقي في سرية تأييد البعض حرب الإبادة، والتفجع والتعهد اللفظي لمنع مشاريع "ما بعد الترانسفير"، الذي راح الأوروبيون أنفسهم يرفضونه فزعاً من عواقبه الوخيمة، بعد أن غرقوا في أفخاخ الانجرار إلى مذبحة مريعة ومفضوحة في غزة، وعموم فلسطين. بالتأكيد، التاريخ مستمر في تسجيل هذه التراكمات المخزية.