"حكومة صاحبة الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين". بجملة واحدة، سطّر وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور رسالة إلى رجل الأعمال اليهودي البريطاني والتر روتشيلد، تتويجاً لعدة ظروف وتطورات الحرب العالمية الأولى ومآلاتها، فبعد يومين من صدور وعد بلفور في الثاني من نوفمبر 1917، نجح الجنرال اللنبي في دحر الجيوش العثمانية والألمانية والنمساوية واجتاح بئر السبع ثم يافا. ونجح في انخراط الولايات المتحدة الأميركية في الحرب العالمية الأولى بعد رشوة الجاليات اليهودية بها التي كان لها باع في زج واشنطن في الحرب.
وعلى الجانب الآخر كان ذلك الوعد مرتبطا بما ألت إليه الأمور والمخططات الاستعمارية للتاج البريطاني في المشرق كله، وتحديدا في فلسطين.
مناصرة ذلك الوعد لم تقتصر على القوى الاستعمارية في تلك الحقبة، لكن كان لمجموعات الضغط الصهيوني نفوذ قوي آخذ في التوسع ليس على مستوى الدول الكبرى، ولكن على الدول المستعمَرة وحكوماتها والشركات والمؤسسات على مستوى الساسة والإعلاميين والصيارفة والصناعيين ورجال الدين.
خلال ما يزيد عن مئة عام انصرمت على وعد بلفور وأقصى ما خرجت به الحكومة البريطانية في سنة 1939، كان الإقرار بأن الواجب اقتضى منها مشاورة أصحاب الأرض من الفلسطينيين. لكنها استمرت مع القوى الاستعمارية الأخرى ومع العصابات الإرهابية الصهيونية في تشريد الفلسطينيين وتدمير قراهم وارتكاب المجازر وأعمال التطهير العرقي، ولا تزال تبصر وتمعن أكثر في إدامة تلك الخطيئة والذهاب إلى أقصى درجات الفاشية من قبل تلك الدويلة الاستيطانية العسكرية العنصرية.
ليس وعد بلفور وثيقة جرى تقديمها بناءً على إلحاح الحركة الصهيونية، بل هو الخطوة الأولى لتكريس المشروع، الذي هو صناعة إنكليزية، دولياً، وفتح الباب لتطبيقه عملياً. وبالتالي، ليست المسألة متعلقة بموظفٍ في الخارجية الإنكليزية، بل هي مسألة سياسة استعمارية بريطانية كانت بحاجة إلى هذا الوجود لليهود في فلسطين، بالضبط لأنها تريد منع توحّدها، الوحدة التي تعني التطور والاستقلال. حيث كانت تريد أن يبقى العرب في حالة تفكّك وتخلف، ومجال نهب من خلال السيطرة على الأسواق والمواد الأولية. وهذا ما كان قد تحقق قبل وعد بلفور في الاتفاقات التي فرضت تقاسم البلدان العربية بين الدول الاستعمارية. وبالتالي، المأساة الفلسطينية هي جزء من هذه المأساة الأكبر، مأساة منع الوحدة والتطور في الوطن العربي.
كانت فكرة إقامة "دولة يهودية" في فلسطين فكرة إنكليزية بحت وليست فكرة أي يهودي أو صهيوني من قبل، وعلى الرغم من كونها فكرة طرحها نابليون بونابرت خلال احتلاله لمصر لكنها كانت عابرة. لكن الرأسمالية الإنكليزية أنتجت وخلقت تلك الفكرة بعد أن تخلصت من خطر محمد علي باشا، عبر وضع حاجز في فلسطين يمنع أي تمدد له فيما بعد. وبالتزامن مع هزيمته وفرض استسلامه سنة 1840، أطلق بالمرستون الذي بات وزيراً للخارجية في "بريطانيا العظمى" تصريحه عن إقامة "وطن قومي" لليهود في فلسطين. تلك الفكرة هي لاستجلاب اليهود الذين باتوا "مشكلة أوروبية" إلى ذلك المشروع، فيتحقق من خلال ذلك هدفان: التخلص من اليهود، وبناء حاجز يمنع توحيد المنطقة العربية، ويشلّ مصر بما يُجهض كل إمكانية لميلها إلى تحقيق التطور.
لم تنشأ الحركة الصهيونية بشكل "عفوي" في الأوساط اليهودية، بل دُفعت الرأسمالية الإنكليزية إلى أن تبرز نخبا "يهودية" تطرح الفكرة، وأن يتولى رأسماليون "يهود" تمويل مشروع بناء حركةٍ تدعو إلى "العودة" إلى "الوطن القومي". وكل محاولات اندماجهم في المجتمعات الأوروبية التي حاول اليهود العمل عليها عبر الانخراط في كل الحركات والثورات الأوروبية للمواطنة والمساواة، قوبلت بالرفض من قبل الرأسمالية الإنكليزية عبر ترحيلهم، والتمييز ضدهم واعتقالاتهم والتضييق عليهم في كافة المجالات، فكان الهولوكوست ضرورة ملحة لنجاح الرأسمالية الأوروبية في خلق الوطن البديل لهم.
اختارت الحركة الصهيونية قبل قيام إسرائيل تركيز استعمارها ومفاوضاتها مع بريطانيا على المنطقة الغربية الساحلية من فلسطين، لأهميتها الاستراتيجية، وليس انطلاقاً من ادعاءاتها الدينية أو التاريخية، والتي ترتكز في الأساس على المناطق الجبلية الوعرة وسط وشرق فلسطين. وبعد أن استكملت إسرائيل احتلالها لباقي المناطق الفلسطينية، والتي تدعي قدسيتها الدينية لها وارتباطها التاريخي بها، راعت تنفيذ مخططاتها الاستيطانية المكثفة للسيطرة على أكبر مساحة من الأرض وتغيير تركيبتها الديمغرافية وطبيعتها التاريخية، فشرعت بالبحث عن اتفاق مع الفلسطينيين، يضمن لها ذلك تدريجياً عبر السنوات.
استغلت الصهيونية والدولة العبرية معطيات عملية السلام واتفاق أوسلو مع الفلسطينيين، وعلى مدار الثلاثة عقود، وفي ظل حماية أميركية أوروبية تحتضن مشروعها، نجحت إسرائيل بنقل ما يقرب من مليون يهودي إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967، مغيرة الطبيعة الديمغرافية فيها، فتخطى عدد اليهود عدد الفلسطينيين في الجانب الشرقي من مدينة القدس، بعد أن تخطى عددهم 350 ألف يهودي، متفوقين في ذلك على عدد الفلسطينيين فيه لأول مرة في التاريخ.
وفي الضفة الغربية، تخطى عدد اليهود في المنطقة المصنفة "منطقة ج"، والتي تشكل ثلثي مساحة الضفة الغربية، حوالى 650 ألف مستوطن يهودي، متجاوزين بذلك عدد الفلسطينيين في تلك المنطقة بكثير.
ولا تعد تلك التحولات مفاجئة، فخلال ثمانينيات القرن الماضي كان عدد المستوطنين اليهود في الضفة والقدس 100 ألف مستوطن، ثم ارتفع خلال العام 2000 إلى 350 ألف مستوطن.
وينسجم ذلك التحول مع مطالبات إسرائيل المتدرجة بضم المناطق الفلسطينية المحتلة العام 1967 إليها، إذ بدأ إيهود باراك بالمطالبة بضم 9٪ فقط منها، وتحدثت صفقة القرن التي وضعت بالتناسب مع بنيامين نتنياهو عن ضم 30٪ منها، بينما وصلت في عهد بينت، وتصريحات وزيرة العدل الحالية شاكيد إلى ضم منطقة ج كلها.
لم تنتهِ معاناة الفلسطينيين بعد، رغم قبولهم بحل الدولتين، وتنازلهم عن 78٪ من أرضهم، واعترافهم بإسرائيل، والذي تجسد جميعه بالتوقيع على اتفاق أوسلو العام 1993، وبعد أكثر من ربع قرن على توقيع ذلك الاتفاق، فشلت مبادرة حل الدولتين، ولم تعد هناك معطيات تؤسس لقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود العام 1967. إذ تسعى إسرائيل لضمان السيطرة على أكبر مساحة من الأرض التي تضم أقل نسبة من الفلسطينيين، كما تفعل حالياً في القدس الشرقية ومنطقة "ج"، وموافقتها على الاستمرار بالعمل بفكرة حل الدولتين الذي يضمن حكما ذاتيا للفلسطينيين في الأراضي المكتظة بهم، والذي يعكس ما نشهده اليوم في الضفة الغربية، مع استمرار تأكيدها على أنها لن تمنح الفلسطينيين دولة مستقلة، في إطار تكبيل سيادتهم بادعاءاتها الأمنية، واستمرار سياستها بالسيطرة على مصادرهم الطبيعية ومتابعة حركتهم، وكلها قضايا إلى جانب أخرى، تضمن تبعيتهم والانتقاص من سيادتهم، ومن ثمة إمكانية لجوء إسرائيل إلى إجبار الفلسطينيين على الرحيل من وطنهم عبر التهجير الطوعي استكمالاً لهذه الخطة.
دعا نص إعلان بلفور إلى تأسيس دولة لليهود في فلسطين مع مراعاة الحقوق المدنية والدينية لسكان البلاد من غير اليهود، أي أن وعد بلفور دعا لحل الدولة الواحدة على أساس قومي "يهودي"، مع مراعاة القوميات الأخرى والحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية لهم أو ما يعرف بدولة ثنائية القومية. وهذا ما رفضه الكثير من الفلسطينيين لآن القضية بالنسبة لهم قضية وطن وحق، بجانب رفض الدولة العبرية لتلك المقاربة التي تعتمد لإنجاحها على أساس غير منطقي، فإسرائيل تمارس سياسة الفصل والتمييز العنصري منذ عقود ضد الفلسطينيين ليس فقط في المناطق المحتلة العام 1967 وإنما أيضاً في أراضي العام 1948، دون رادع أو مانع، وليس هناك أي مؤشرات لانحلالها. كما أن تلك الفكرة تساوي عدد الفلسطينيين واليهود على مجمل الأراضي الفلسطينية مما يقوض فكرة يهودية الدولة، التي أسست لها الحركة الصهيونية، وقامت إسرائيل على أساسها.
ولا يخفى في المقابل أن أدوار بعض الأنظمة العربية التي هرولت نحو التطبيع على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، إنما تستكمل النهج ذاته في توفير شرعية مجانية لدولة الاحتلال والاغتصاب، على نحو يجعل «اتفاقيات إبراهام» شقيقة شرعية لوعد 1917، لا تقل شؤماً وفداحة على الفلسطينيين وتكرس حاجة الرأسمالية الجديدة للدولة اليهودية كما فعلت في السابق.