جاءت مظاهرات الغضب في أم الفحم ضد العنف والجريمة وتواطؤ الشرطة مع عصابات الإجرام، بعد سنوات طويلة لم يشهد فيها الداخل الفلسطيني حشدا شعبياً بهذا الزخم، منذ المظاهرات ضد مخطط بيغن- برافر الممتدة حتى ديسمبر/كانون الأول 2013. حيث بين حراك أم الفحم اليوم عن قدرته المتجاوزة هذه المرة للمحدودات الذاتية والموضوعية؛ دون تجارب أخرى سابقة؛ على استنهاض شعبيّ محليّ متنوع وواسع، لم يكن ليلتئم خارج هذا " الحشد " الموجه حصرا نحو الخارج؛ الشرطة؛ لتقاعسها بل تواطؤها مع منظمات الجريمة، وما تمثله من دور أوسع تمارسه المؤسسة الإسرائيلية بحقنا كفلسطينيين في هذه البلاد.
عرت هذه التجربة اللافتة والممتدة على مدار أسابيع، يقودها الحراك الشبابي الفحماويّ، بؤس المحاولات الفاشلة التي أرادت سحق المجتمع بحجة مصلحته، والتي ظنت أن القفز عن الهوية الوطنية وتقويض المنجزات الوطنية من شأنها؛ مصحوبة بالفهلوية السياسية؛ أن تحمي المجتمع من شبح الجريمة، وأن تحقق بمسميات أخرى أوسع " منجزات يومية مدنية ". علاوة على ذلك، أبرز الحراك أفضليته عن النموذج الآخر الذي يتكئ على هموم الناس عبر إعادة إضعافهم وتصويرهم كرعية جاهزة لقبول أثمان سياسية مفرطة، يقدمها وكلاء أمام السلطة للحد من ظاهرة صنعتها هي، في حين يمثل الحراك بأصالته نموذجا آخر يجترح القوة والمقدرة والجمعيّ المشترك من أوسط هذه الهموم. ومذكرا بدور كنا نتوخاه من قيادة الحركة الوطنية، عبر التماس الخوف والغضب لدى الناس، وتسييس هذه المشاعر والحاجات، وتنظيمها وتوجيهها نحو المؤسسة، بما يخدم المصلحة المباشرة المتمثلة بمجابهة الجريمة والمطالب العينية من جهة، والمصلحة المجتمعية المتصلة في إعادة بناء ما تقوض من مجتمع، عبر ما يُمكنه هذا " الحشد " من فرص في إعادة تعريف المشترك وشعور المقدرة والفاعلية لدى الناس.
استعاد شباب أم الفحم تعريف السياسة التي نريد، سياسة نديرها نحن مدفوعين بقوة وحصانة مستمدة من الناس، ولا نكون ضمنها عاملاً سالباً مفرغ الإرادة والشروط. سياسة لا انفصام ضمنها بين اليومي والوطني، وأعادوا ممارسة متلازمة تسعى السلطة الى إعادة توضيحها حين تقمعنا وترفع أيديها عن أرواحنا التي تُزهق كفلسطينيين، موضحين بذلك أن تواطؤ الشرطة مع عصابات الجريمة ليست سقطة سياسات عابرة، وإنما ممارسة منهجية تعكس طابع علاقة ممتدة مع الدولة.
لم ترفع المظاهرات في أم الفحم شعار تحرير فلسطين، بل وضعتها عنواناً وسياقا تفهم عبرها الممارسات الواقعة بحقنا، دون أن يحد ذلك من تحديد مطالب وخطوات عمل عينية- إقالة قائد شرطة أم الفحم، تجميد عمل الشرطة الجماهيرية، جمع السلاح غير المرخص، وغيرها. موضحة بذلك أن " التأثير " في السياسة ممكن ووارد وليس منوطاً حتماً بالشعبوية والفهلوية، إذا ما شهدنا ردود فعل المؤسسة إزاء الحراك الجاري، وقارناها على سبيل المثال لا الحصر، مع الإهانة الجمعيّة الحاصلة في كل مرة نمارس فيها لعبة "العربي الجيد " من جديد.
لم تنضج الحالة في أم الفحم لتصل الى التصاعد الذي هي عليه الآن، بفعل قرار سياسي من أية هيئة عليا، بل بفعل معطيات وتجارب محليّة، أولها حالة الاحتقان والغضب الشعبيّ جراء حالات القتل الحاصلة، واخرها مقتل الشاب محمد ناصر إغبارية، وقمع الشرطة للمظاهرات الخارجة ضد العنف والجريمة وحالة الفراغ واليتم السياسيّ التي نعانيها كمجتمع. ومع ذلك، إن هذه المعطيات المحليّة وإن لم تكن حصرية لأم الفحم بالذات- اذ تعاني العديد من البلدات العربية الأخرى واقعا مشابهاً إن لم يكن أشد وطأة-، ليست ضمانا حتمياً لخط مسار شعبيّ جماهيري على النحو الحاصل في أم الفحم. وهنا، يستوجب القول من باب الواقعية والإنصاف، إن النموذج الجاري لا يدور بمعزل عن الحالة السياسية العامة وما تولده من ثقافة وديناميكيات سياسية مرادفة، ولا يشكل حالة فرز عنها، بل إنه يدور ضمنها، فهو ليس نقيضها المجرد والمطلق، بل واحد من مخرجات التفاعل معها. وبذلك فان المحصلة النهائية ليست تحصيل حاصل حتميّا لواقع نعانيه بالضرورة، بل أيضا وبالأساس لعمل تنظيمي محليّ ولكيفية التعاطي مع الكثير من التفصيلات، التي قد تكون هي بالذات المحك الذي قد يحدد امكانية الخلاص من جرف التجاذبات والتوترات المرشحة للحصول من عدمه، وبالتالي من نجاح وتوسع التحركات الشعبية ومدى تأثيرها.
هذا الارتكاز على أهمية العمل التنظيمي المحليّ وكيفيته، منطلق بالأساس من ادعاء عدم طهرانية التحركات الشعبيّة تحديداً الشبابيّة منها، التي كثيرا ما يجري التعامل معها على أنها فضيلة لذاتها، وفرزها على أنها البقعة المثالية الأخرى المغايرة لما نعيه ونرفضه في العمل السياسيّ التقليدي والمؤسسي. هذا التعاطي المجرد المدفوع بفرط الإحباطات والأحلام، يتجاهل أن الأفراد والمجموعات الفاعلة في التحركات الشعبية والشبابية في حالة تفاعل دائم مع المعطيات السياسية المحيطة، فهم جزء منها بفرض هوياتهم الفرديّة أو التنظيمية، في غياب برنامج ومشروع سياسي ناظم، تظل هذه الهويات في حالة تفاعل ونقاش وتجاذب مع المجريات، فلا تكون الأمور محسومة أو مغلفة بل قيد الصياغة الدائمة، وتظل من مسؤولية المجموعة والأفراد المنظمين ( في حال وجدوا) محاولة توسيع رقعة المشترك والمتفق وتحييد الفردانية والخلافات في كل لحظة من جديد. هنا، يجدر السؤال حول مشاركة النساء مثلا، دور الخطاب الديني، مدى الاتصال والانفصال عن المؤسسة، التي ستظل أسئلة خلافية وحية تراود التحرك، وقد تحدد استمراريته من عدمها، إلا أنها في هذه المرة إن لم يتم قمعها مسبقاً لصالح خلق " المشترك "، ستحظى بفرصة نقاش وتعاط أفضل في سياق نضالي أرجح لأن يكون منزوع الانتهازية.
من هذا الباب، ورداً على سؤال جاهزية فلسطينيي الداخل لحراك شبابي قطري قاطع للأحزاب ضد العنف والجريمة. فان غياب المد النضالي والثوري على المستوى الفلسطينيّ والعام، يعيق من إمكانية نشوء حراك شبابيّ قطري على شاكلة ما شهدناه في حراك برافر على سبيل المثال، من ضمنه بسبب ترهل الأذرع الشبابيّة المنبثقة عن الأحزاب والحركات السياسية، أفول دورها الجماهيري لصالح العمل البرلماني الذي ابتلع المشهد السياسيّ بالمجمل، تحديداً منذ تشكيل القائمة المشتركة عام 2015، كما بسبب الهوة التي ولدتها السجالات على أثر الثورات العربية. هكذا، ينحصر ثقل إمكانيات التحرك بالبعد المحلي بشكل أكبر، ويبقى ضمنه السؤال معلقاً في مدى الانفجار المحليّ من تفاقم الجريمة من جهة، ومدى القدرة التنظيمية المحليّة على دفع وحمل وحفظ استمرارية الحركات الناشئة، وهو سؤال لا يمكن فكه بالكامل عن الوضع السياسي والتنظيمي المترهل العام. إن هذه الحالة، بتردداتها المختلفة، إن لم تلتئم لحراك قطري سياسي شامل، وطالما حافظت إسرائيل على إمساك العصا من الوسط، مستخدمة سياسات الاحتواء والتنفيس عبر وكلائها
في المجتمع، فإنها وعلى الرغم من ذلك ستظل تطرح نفسها بما تحمله من دلالات سياسية تعيد إنتاج الوعي الوطني والمقدرة الجماعية، إزاء الخطاب والمشاريع الأخرى التي تريد مقايضة الهوية بالحقوق.
على ذلك، تبقى التجارب الحراكية الشعبية ضد العنف والجريمة، تجارب ناجحة فيما لو لم نحملها ثقلاً لم تدّعه، ولو أدركنا أنها الحاضنة وليست البديل لمسارات عمل أخرى مهنية علينا خوضها، ولو كففنا عن التعامل معها بمنطق خلاصيّ تام.