الخريطة الحزبية في تونس بصدد التشكّل من جديد، بعد أن شتتتها مرحلة ما قبل 25 يوليو/تموز الماضي، وذلك بسبب ضعف أداء السلطة وعجزها عن تقديم الحلول والبدائل.
فبعد أشهر من التيه، تدبّ الحياة من جديد في الأحزاب والمجموعات السياسية، ليعود الحديث مجدداً عن احتمال تشكيل تحالفات من هذه الجهة أو تلك. ويدل ذلك على أن الأحزاب في تونس لم تتبخر كما ظن الرئيس قيس سعيّد بعد أن همّشها تماماً وأبعدها عن السلطة وعن مؤسسات الدولة، وبعد أن أدار التونسيون ظهورهم لها، ورفضوا الاستماع لكل محاولات التبرير أو الاعتذار عن أخطاء الماضي.
الأحزاب في تونس لم تتبخر كما ظن الرئيس قيس سعيّد
لكن بعد مرور تسعة أشهر على استيلاء قيس سعيّد على جميع مقاليد الدولة من دون أن يضع ذلك حداً لتراجع الحالة الاقتصادية والاجتماعية، إذ أصبحت البلاد على حافة الإفلاس، اضطر 54 في المائة من التونسيين أن يعلنوا في آخر سبر آراء قامت به مؤسسة "سيغما"، المثيرة للجدل، أن البلاد تسير في الطريق الخطأ، في حين قال 61 في المائة إنهم غير راضين عن الطريقة التي تدار بها الأمور.
أي أن السلطة الجديدة التي تتمتع بصلاحيات مطلقة وغير مسبوقة، لم تنجز شيئاً من وعودها، ولم تُحسن التصدي للمشكلات الحقيقية، وأن إقصاء الجميع من المشهد والتفرد بالحكم ليس هو الحل، كما ذهب إلى ذلك الكثيرون.
وفي محاولة لتحريك الوضع السياسي الذي عمل الرئيس على تجميده، مالت أغلب الأحزاب نحو البحث عن تشكيل تحالفات تكون قادرة على التجميع والصمود في وجه سياسات السلطة. بناءً عليه، يمكن الحديث اليوم عن جبهتين سياسيتين في حالة تبلور داخل صفوف المعارضة.
"جبهة الخلاص الوطني" في تونس
تضم الجبهة الأولى خمسة أحزاب حتى الآن، إلى جانب خمس مجموعات سياسية يمكن اعتبارها مجموعات ضغط، وهي تحمل اسم "جبهة الخلاص الوطني".
هذه الجبهة التي دعا إليها المعارض السياسي المخضرم أحمد نجيب الشابي، تعتبر الآن الأكثر وزناً بحكم انضمام حركة النهضة إليها، إلى جانب مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" التي تمكنت من تجميع عدد واسع من الناشطين المستقلين ضد الانقلاب، فضلاً عن اعتمادها بالأساس منذ نشأتها، القواعد النشطة للإسلاميين، من دون أن تصبح واجهة لحركة النهضة كما يدّعي خصومها.
تعتبر هذه الجبهة مفتوحة على نطاق واسع، وتعمل على إقناع بقية الأطراف السياسية المعارضة بالانضمام إليها، عسى أن تتمكن جميعها من تعديل موازين القوى في البلاد.
تعمل "جبهة الخلاص الوطني" على إقناع بقية الأطراف السياسية المعارضة بالانضمام إليها
"تنسيقية الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية"
أما الجبهة الثانية، وهي "تنسيقية الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية"، فتتشكل من ثلاثة أحزاب، هي "الجمهوري" و"التيار الديمقراطي" و"التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات". هذه الأحزاب صوتها عال وناقد بشكل قوي لسياسة الرئيس، لكنها تعتبر صغيرة ومحدودة العدد والتأثير.
ولا تزال هذه الأحزاب تتمسك بعدم التعاون والتنسيق مع الجبهة الأولى، نظراً لموقفها الرافض كلياً التقاطع من جديد مع حركة النهضة. لكن ما يميّز هذه الأحزاب الثلاثة حالياً، هو أنها بصدد البحث عن صيغة اندماجية قد تمكنها من أن تجعل من ضعفها قوة وصلابة. فإن نجحت في التغلب على عوائقها الداخلية، فذلك من شأنه أن يسمح لها بالتحول إلى رقم سياسي مهم نسبياً.
وتعتقد هذه الأحزاب أن ما يجمع بينها هو الانتماء إلى ما يسمى بـ"الديمقراطية الاجتماعية"، وترى في نفسها القدرة على توحيد صفوفها والتحرك مستقبلاً تحت قيادة موحدة وبرنامج سياسي بديل قبل أن ينفرط عقدها، كما حصل مع العشرات من الأحزاب الكثيرة التي ظهرت بعد الثورة، لكنها لم تكن تملك مقومات البقاء، فدفنتها الأحداث منذ البداية.
وحتى تتجنب الأحزاب الثلاثة هذا المصير، عجّلت بتشكيل تنسيقية، كمرحلة أولى، في انتظار الوصول إلى الاندماج الكامل بين تنظيماتها. وهي الآن تحاول إقناع حزب "آفاق تونس" بضرورة الانضمام إليها، في حين أن قيادة الأخير متمسكة باستقلالية كيانها التنظيمي، وتهيئ نفسها لخوض الانتخابات التشريعية المقبلة (في 17 ديسمبر/كانون الأول المقبل) بقطع النظر عن شكلها والقانون الانتخابي المنظم لها.
ومن بين العقبات الرئيسية التي تواجهها المرحلة الانتقالية التي طالت كثيراً، أن ما يسمى بقوى الوسط، تعرّضت إلى انفجار كبير بعد أن جمعها الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، وجعل منها حزباً حاكماً هو "نداء تونس".
إذ سرعان ما انهار هذا الحزب وهو في موقع السلطة، نتيجة الكتلوية البغيضة وتفشي الفساد، والانقسامات الهرمية، وغياب البرنامج والبديل، إلى جانب الخلاف الجوهري الذي شق صفوف "نداء تونس" بسبب التحالف مع حركة النهضة الذي فرضه السبسي على أنصاره من دون توافق في ما بينهم. فكانت الحصيلة ضعيفة وبائسة بعد خمس سنوات من الحكم.
يجب أن تكون لأي جبهة تُشكّل في تونس حزمة من الإجراءات العاجلة لإنقاذ البلاد من الانهيار
إنقاذ تونس من الانهيار والإفلاس
يتطلب البناء الجبهوي، أكثر من أي وقت مضى، ربط السياسي بالاقتصادي. يجب أن تكون لأي جبهة تُشكّل في تونس حزمة من الإجراءات العاجلة لإنقاذ البلاد من الانهيار والإفلاس والمجاعة، وهي المخاطر التي تهدد الدولة التونسية. لكن لن يحصل ذلك إلا بعد تغيير المشهد السياسي الراهن، أو بالتوازن معه.
فكل المؤشرات تدل على أن الحكومة الحالية مرشحة للسقوط في وقت قريب، وأن أخرى قد تكون بصدد البحث عن اختيار وزرائها، لكن ما لم تتغيّر الرؤية والمنهج، فإن التخبط سيستمر. لهذا السبب، رفع أصحاب "جبهة الخلاص الوطني" مطلب تشكيل "حكومة إنقاذ". لكن هل سيستمع الرئيس إلى ذلك؟ أم أن سياسة الهروب إلى الأمام ستتواصل مهما كانت النتائج؟