29 سبتمبر 2024
عن المعارضين اليساريين لنظام حافظ الأسد
يوجد فارق مهم بين سجين زمن الاستقرار وسجين زمن الثورة، للثاني سندٌ معنويٌّ عميق، يتمثل في خروج الشعب على النظام، أي في انتمائه إلى حركة شعبٍ راهنة، أما الأول فيكون في عزلةٍ شبه تامة عن هذا السند، لأنه خرج يعارض النظام و"يعارض" الشعب الغافل أيضاً. ذات يوم، دخل أحد عناصر الشرطة إلى مهجعنا في سجن عدرا، بينما كان التلفزيون السوري يعرض مسيرات التأييد وصراخ التمجيد في إحدى مناسبات نظام الأسد، فسأل ساخراً: إذا قلنا لهذا الشعب، الذي تقولون إنكم تناضلون من أجله، إنكم أعداء الرئيس، ماذا يمكن أن يفعل بكم؟ كانت مسيرات التأييد يومها اللون الوحيد في الشارع، ولم تكن رداً على مظاهرات واسعة تطالب بإسقاط النظام، كما صار الحال بعد مارس/ آذار 2011.
لاستيعاب الزمن، أو بدافع الفضول ورغبة الاستكشاف، انشغلت في السجن بالسؤال عن القاسم المشترك بيننا، نحن السجناء السياسيين المعارضين لنظام حكم حافظ الأسد في فترة استقراره الأهم بعد مجزرة حماة 1982، الاستقرار الذي جعل قضية هؤلاء السجناء غير ملحوظة، على الرغم من طول فترات سجنهم. كان السؤال يتعلق بصورة خاصة بالسجناء اليساريين، ذلك أن اتساع جماهيرية الأحزاب اليمينية (الإسلامية خصوصاً) جعل المسجونين على اسم هذه الأحزاب خليطاً متنوعاً لا ينفع معه البحث عن قاسم "شخصي" مشترك بينهم، في حين لم تتعدّ الأحزاب اليسارية المعارضة دائرة النخبة، بالمعنى العددي على الأقل، الأمر الذي يبرّر البحث عن مواصفاتٍ شخصية مشتركة لهذه النخبة.
انتبهت مثلاً إلى أن النسبة الغالبة من هؤلاء السجناء هم المواليد البكر في عائلاتهم، وصادف أن
وصل إلينا إلى السجن كتابٌ يتكلم عن شخصية المولود البكر، ويعتبر أن الطفل الأول، بعد انقطاع خمس سنوات عن الولادة، هو بكر أيضاً، الأمر الذي زاد من النسبة. هذا مشتركٌ خارجي لا يُركن إليه، وإنْ كان يثير الاهتمام.
لا بد أن هناك سمة أو سمات شخصية مشتركة بين سجناء الاستقرار لا تدفع صاحبها إلى الإقدام على هذا النوع من المواجهة الخطيرة فقط، بل أيضاً إلى الإصرار على ثبات الموقف، على الرغم من أن الواقع السياسي كان يقول، بكل لسان، إنه موقف انتحاري، أو لنقل إنه موقفٌ ينطوي على خسارة شخصية صافية، تزداد فداحة مع زيادة سنوات السجن. كان من المقبول والدارج بيننا اعتبار أنفسنا "خميرة" لمستقبل قادم، أو أصحاب موقفٍ تاريخي شبيه بموقف يوسف العظمة في مواجهة جيش الجنرال الفرنسي، هنري غورو، في ميسلون. في الحالتين، هناك قبول بالهزيمة المباشرة، ورهان على مستقبلٍ غير منظور، قد يملأ فعلهم، أو تضحيتهم، بالقيمة المستحقة.
غير أن إقرار هؤلاء الأفراد بالهزيمة المباشرة كان يجاوره ويتعايش معه عنفوان شخصي يستمد نسغه من تفوق أخلاقي، لا يستطيع أحد أن ينكره عليهم، بمن في ذلك جلادوهم. أفراد يخرجون من التيار العام المنقاد (عن خوف أو عن قناعة أو عن استسلام)، ويغامرون بالخروج على "النظام"، يغامرون بكل شيء، يصبح كل ما يخصّهم مهدّداً، لا تستثنى حياتهم من ذلك. ويتجاوز أذى أجهزة النظام شخوصهم، ليطاول محيطهم العائلي وأصدقاءهم. هذا النمط من الأشخاص لديه مقاومة للتدجين والاندماج بالتيار العام، مع جرأة الإقدام على الفعل. يمكن أن نقول مبدئياً إن لدى هؤلاء عقلاً نقدياً لا يميل إلى التسليم، مع اهتمام بالشأن العام واستعداد للمخاطرة التي تمليها عليهم قناعاتهم، حتى لو أدى ذلك إلى خساراتٍ شخصيةٍ كبيرة. وغالباً ما كان لدى هؤلاء ما يخسرونه، فهم في الغالب طلابٌ متميزون، وفي فروع جامعية مرموقة، أو أشخاصٌ نشيطون لهم قدرة على الترقي في مجال عملهم، وتحسين شروط حياتهم الشخصية، لو سايروا التيار السياسي العام.
من الصعب إنكار هذا الجانب "البطولي" لدى هؤلاء. ولكن إذا مضينا أبعد على الخط نفسه، سنقع على مفارقةٍ تستوجب التأمل، هي أن الخروج عن التيار العام المنقاد، أفضى، من جهة أخرى، إلى تسليمٍ بتيار عام آخر، وإنْ أقلّ سطوة. العقل النقدي النشيط تجاه سلطة سياسية محددة تحول إلى عقل تسليمي، أو أقل نقديةً تجاه سلطة سياسية أخرى. احتقار التمجيد حيال قيادات معينة، ترافق مع تمجيد وإيمان "بحكمة" قياداتٍ أخرى. النتيجة أن التشكيلات المعارضة التي أنشأها هؤلاء "المختلفون" كانت تعيد إنتاج العقلية السياسية التي يثورون عليها. الثائر في علاقته بنظام الأسد يتحول إلى "رجل سلطة" في علاقته بتنظيمه المعارض، من دون وعي منه بأنه يعيد بذلك رسم حركة "الموالين" نفسها، ولكن حول مركزية أخرى.
في السجن، للدلالة على النزعة المحافظة التي قد تصل إلى حدود القمع عند سجينٍ ما، كان يُقال
بسخريةٍ إن فلان جدير بأن يكون علي دوبا الحزب. كان هناك دائماً علي دوبا الجلاد وعلي دوبا المسجون. داخل كل تشكيل معارض سوف تجد "نظاماً" يحاكي استبداد النظام الذي ثار عليه، وداخل كل ثائرٍ سوف تجد برعم رجل سلطة محافظ. ليس في هذا الكلام انتقاص أو إدانة، إنه إقرار بواقع "طبيعي"، وتأكيد على أن الخروج من دائرة الاستبداد السياسي لا يتم على يد أنبياء لا وجود واقعياً لهم، وما التدليل على سوء المعارضة بالإشارة إلى عيوب شخصية عند هذا المعارض أو ذاك إلا تعبير عن فهم مغلوط للتحرّر بوصفه استبدال أشرار بأخيار، في حين أنه فعل جماعي تشاركي، وليس فعل استبدال. تأسيس آليات فعالة للرقابة الجماعية هو السبيل الوحيد لقمع ميول السيطرة عند الأفراد أينما كانوا. لا تنبع قيمة العمل السياسي المعارض من إسقاط نظامٍ وإحلال نظام، بل من التأسيس لآليات رقابة جماعية (دولة قانون تصونه المؤسسات الرسمية ويحرسه المجتمع المدني)، يمكن أن تشلّ "سوء" الأشخاص الذين يتولون إدارة الشأن العام.
على هذا، فإن خروج معارضي النظام عن التيار العام ينطوي على دفاع مهم وضروري عن حق الجميع بالوجود السياسي. وفق هذا المنظور، يكون للفعل السياسي المعارض دور "تقدمي" في تاريخ المجتمعات المحكومة بالاستبداد السياسي، قياساً على التسليم والانضواء المنساق مع التيار العام التسليمي، حتى لو انطوى العمل السياسي المعارض على تسليم وانقياد في دائرته الخاصة.
في موت سجن تدمر، كانت نفوسنا تقاوم بالضحك، بالتضامن، بالتأمل، بالصمت .. إلخ. كنا أيضاً نقاوم بابتكار وسائل ترفع ثقل الزمن قليلاً عن نفوسنا. كان من هذه الوسائل طرح سؤال شخصي، والإنصات إلى إجابة كل منا: أول علاقة حب، إحراج لا تنساه، ندم، موقف تخجل منه، موقف تفخر به، الرضى عن النفس، وصف العلاقة مع الأب .. إلخ. اغتنمت الفرصة مرة لإدارة الجلسة حول السؤال: هل تعتبر نفسك إنساناً عادياً؟ كانت خلاصة الأجوبة واحدة، قليل من المتحدّثين يعتبر نفسه عادياً. هناك شعور غالب بالتميز، هناك إذن بحثٌ عن دور يكافئ هذا التميز.
النفور من القطيعية، المبادرة وشجاعة الإقدام على الفعل، الاهتمام بالشأن العام، الشعور بالتميز الذي يدفع صاحبه إلى التكرس لتحقيق تميّزه بعصامية، إضافة إلى أخلاقية "فروسية" تكابر وتخجل من الانكسار أو الانحناء، هل يكون هذا المزيج هو القاسم المشترك لهؤلاء "الأبطال" الذين وقفوا ضد واحدٍ من أشد أنواع الأنظمة عدائيةً في أكثر لحظاته استقراراً.
مثل أي ملاحظة، لا يشمل الكلام السابق كل الطيف المعارض الذي تتناوله، وإنْ كان يحيط، كما نعتقد، بالجزء الأكبر منه.
انتبهت مثلاً إلى أن النسبة الغالبة من هؤلاء السجناء هم المواليد البكر في عائلاتهم، وصادف أن
لا بد أن هناك سمة أو سمات شخصية مشتركة بين سجناء الاستقرار لا تدفع صاحبها إلى الإقدام على هذا النوع من المواجهة الخطيرة فقط، بل أيضاً إلى الإصرار على ثبات الموقف، على الرغم من أن الواقع السياسي كان يقول، بكل لسان، إنه موقف انتحاري، أو لنقل إنه موقفٌ ينطوي على خسارة شخصية صافية، تزداد فداحة مع زيادة سنوات السجن. كان من المقبول والدارج بيننا اعتبار أنفسنا "خميرة" لمستقبل قادم، أو أصحاب موقفٍ تاريخي شبيه بموقف يوسف العظمة في مواجهة جيش الجنرال الفرنسي، هنري غورو، في ميسلون. في الحالتين، هناك قبول بالهزيمة المباشرة، ورهان على مستقبلٍ غير منظور، قد يملأ فعلهم، أو تضحيتهم، بالقيمة المستحقة.
غير أن إقرار هؤلاء الأفراد بالهزيمة المباشرة كان يجاوره ويتعايش معه عنفوان شخصي يستمد نسغه من تفوق أخلاقي، لا يستطيع أحد أن ينكره عليهم، بمن في ذلك جلادوهم. أفراد يخرجون من التيار العام المنقاد (عن خوف أو عن قناعة أو عن استسلام)، ويغامرون بالخروج على "النظام"، يغامرون بكل شيء، يصبح كل ما يخصّهم مهدّداً، لا تستثنى حياتهم من ذلك. ويتجاوز أذى أجهزة النظام شخوصهم، ليطاول محيطهم العائلي وأصدقاءهم. هذا النمط من الأشخاص لديه مقاومة للتدجين والاندماج بالتيار العام، مع جرأة الإقدام على الفعل. يمكن أن نقول مبدئياً إن لدى هؤلاء عقلاً نقدياً لا يميل إلى التسليم، مع اهتمام بالشأن العام واستعداد للمخاطرة التي تمليها عليهم قناعاتهم، حتى لو أدى ذلك إلى خساراتٍ شخصيةٍ كبيرة. وغالباً ما كان لدى هؤلاء ما يخسرونه، فهم في الغالب طلابٌ متميزون، وفي فروع جامعية مرموقة، أو أشخاصٌ نشيطون لهم قدرة على الترقي في مجال عملهم، وتحسين شروط حياتهم الشخصية، لو سايروا التيار السياسي العام.
من الصعب إنكار هذا الجانب "البطولي" لدى هؤلاء. ولكن إذا مضينا أبعد على الخط نفسه، سنقع على مفارقةٍ تستوجب التأمل، هي أن الخروج عن التيار العام المنقاد، أفضى، من جهة أخرى، إلى تسليمٍ بتيار عام آخر، وإنْ أقلّ سطوة. العقل النقدي النشيط تجاه سلطة سياسية محددة تحول إلى عقل تسليمي، أو أقل نقديةً تجاه سلطة سياسية أخرى. احتقار التمجيد حيال قيادات معينة، ترافق مع تمجيد وإيمان "بحكمة" قياداتٍ أخرى. النتيجة أن التشكيلات المعارضة التي أنشأها هؤلاء "المختلفون" كانت تعيد إنتاج العقلية السياسية التي يثورون عليها. الثائر في علاقته بنظام الأسد يتحول إلى "رجل سلطة" في علاقته بتنظيمه المعارض، من دون وعي منه بأنه يعيد بذلك رسم حركة "الموالين" نفسها، ولكن حول مركزية أخرى.
في السجن، للدلالة على النزعة المحافظة التي قد تصل إلى حدود القمع عند سجينٍ ما، كان يُقال
على هذا، فإن خروج معارضي النظام عن التيار العام ينطوي على دفاع مهم وضروري عن حق الجميع بالوجود السياسي. وفق هذا المنظور، يكون للفعل السياسي المعارض دور "تقدمي" في تاريخ المجتمعات المحكومة بالاستبداد السياسي، قياساً على التسليم والانضواء المنساق مع التيار العام التسليمي، حتى لو انطوى العمل السياسي المعارض على تسليم وانقياد في دائرته الخاصة.
في موت سجن تدمر، كانت نفوسنا تقاوم بالضحك، بالتضامن، بالتأمل، بالصمت .. إلخ. كنا أيضاً نقاوم بابتكار وسائل ترفع ثقل الزمن قليلاً عن نفوسنا. كان من هذه الوسائل طرح سؤال شخصي، والإنصات إلى إجابة كل منا: أول علاقة حب، إحراج لا تنساه، ندم، موقف تخجل منه، موقف تفخر به، الرضى عن النفس، وصف العلاقة مع الأب .. إلخ. اغتنمت الفرصة مرة لإدارة الجلسة حول السؤال: هل تعتبر نفسك إنساناً عادياً؟ كانت خلاصة الأجوبة واحدة، قليل من المتحدّثين يعتبر نفسه عادياً. هناك شعور غالب بالتميز، هناك إذن بحثٌ عن دور يكافئ هذا التميز.
النفور من القطيعية، المبادرة وشجاعة الإقدام على الفعل، الاهتمام بالشأن العام، الشعور بالتميز الذي يدفع صاحبه إلى التكرس لتحقيق تميّزه بعصامية، إضافة إلى أخلاقية "فروسية" تكابر وتخجل من الانكسار أو الانحناء، هل يكون هذا المزيج هو القاسم المشترك لهؤلاء "الأبطال" الذين وقفوا ضد واحدٍ من أشد أنواع الأنظمة عدائيةً في أكثر لحظاته استقراراً.
مثل أي ملاحظة، لا يشمل الكلام السابق كل الطيف المعارض الذي تتناوله، وإنْ كان يحيط، كما نعتقد، بالجزء الأكبر منه.