09 نوفمبر 2024
القارّة "العجوز" تترنّح تحت الصدمة
فيما سمّيت القارّة "العجوز" لاشتمالها على أقدم الحضارات (اليونانية والرومانية والبيزنطية) ولارتفاع نسبة المسنين بين سكانها (يزيدون عن 740 مليون نسمة)، فإن صورة القارّة الأوروبية أخذت تفتقد في ظل جائحة كورونا الحيوية والنضارة، وخسرت خاصية الجذب والإلهام، مترافقا ذلك مع انكسارٍ لا سابق له في الاعتداد "الحضاري"، وذلك مع السرعة المأساوية في تفشي الوباء في مجتمعاتها، ومع إغلاق الحدود بين بلدانها، وفي اهتزاز صورة الاتحاد القارّي الذي يجمع27 من دولها، نتيجة العجز عن التنسيق اللازم لمواجهة الوباء، ولأن الدول الأعضاء، وقد قاومت منفردة الوباء، لم تتمتع، في الوقت ذاته، بالاستعدادات اللازمة والكافية لمواجهته، بما يجعل مجاز القارّة العجوز يقترب من الواقع، إذ تستحق بالفعل التعاطف معها.
ليس التقدّم العلمي والتقني والبحثي في مجال العلوم والطب، وكذلك أوجه الرعاية الصحية وصناعة الأدوية في دول القارّة الأكثر تقدّما، محل جدال، غير أن سرعة التقاط دول القارّة للوباء مقرونا بسرعة انتشاره قد أطاح قناعات قديمة ومستقرّة بأن أوروبا المتقدّمة والعصرية محصّنة على العموم ضد الأوبئة والأمراض المُعدية والسارية، وأن مثل هذه المخاطر الصحية قد تهدّد الدول الفقيرة والنامية، لكنها بالنسبة لأوروبا باتت مجرّد شبحٍ آفل من أشباح الماضي وذكرياته، وقد جعلت هذه الصدمة المُريعة الزعماء الأوروبيين، في الآونة الأخيرة، شاحبي الحضور، وغير مسموعي الصوت، وإذا تحدث أحدهم فلكي يبشّر بالأسوأ، كما فعلت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، حين توقعت إصابة ثلثي مواطني بلدها بالوباء، وحين قال رئيس الحكومة البريطانية، بوريس جونسون، إن الوباء سوف ينحسر بعد أن يكتسب المجتمع البريطاني مناعة القطيع، من غير أن يكتسب هو (غير المُسن.. 55 عاماً) هذه المناعة، إذ عرف الوباء الطريق إليه شخصيا، وحمله إلى غرفة عناية مركزة. أجل، كانت المفاجأة أن لدى الأوروبيين قابلية كبيرة لاستقبال الوباء والإصابة به، على الرغم من الوعي الصحي السائد، وجودة البيئة ومستوى النظافة والتعقيم.
وبينما يشكو إيطاليون وإسبان، على المستويين، الرسمي والشعبي، بصيغ مختلفة من "خذلان"
الاتحاد الأوروبي لهم، بما يهز الثقة بهذا التكتل الجماعي، قبل أن يتدارك الاتحاد أمره بمقترحات لتقديم دعم مالي، ودعم طبي جزئي، فإن منسوب الثقة الداخلية بالحكومات القائمة قد اهتز في بلدان فائقة التطور، مثل ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة. خلافاً لما هو عليه الحال في دول شرق القارّة التي عانت، بصورة أقل بكثير، من تفشّي الوباء وفقدان الضحايا. وقد كان الانطباع أن الاتحاد القارّي لا يروم التنافس مع الولايات المتحدة والصين وروسيا عسكرياً، على الرغم من القوة العسكرية التي يتمتع بها وعضويته في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وصناعاته العسكرية المتقدّمة، وأن التنافس يتجه إلى الميادين الاقتصادية والتجارية، وإلى الصناعات المتطورة والتقدم العلمي والجذب السياحي، غير أن هذه القناعات أصيبت بدورها بهزّة قوية، فقد شلت أوجه الإنتاج، وضعفت حركة التصدير، وتوقفت حركة السفر، وأغلقت الحدود بين دول الاتحاد، وذلك لأمر يتعلق بالقصور الشديد في مجال مكافحة الأوبئة، وليس لأي سبب آخر. ولكأن القارة عادت القهقرى إلى نحو نصف قرنٍ على الأقل، في مجال الرعاية الصحية والخدمات الطبية.
ولأن التطورات السلبية للوباء مرشّحة للاستمرار إلى فترة تزيد عن التي انتشر فيها الوباء إلى الآن، فإن نموذج الرفاه الاقتصادي الذي لطالما فاخرت به دول القارّة، في غربها وشمالها على الأخص، أخذت تحِفّ به علامات استفهام كبيرة، مع الخسائر الفلكية لعمليات الإنتاج وعمليات التصدير وانهيار الأسواق المالية وتبخّر العائدات السياحية (حجم مبيعات القطاع السياحي في إيطاليا وحدها عام 2019 بلغ 146 مليار يورو)، ما ينشر حالةً مفزعة من ركود اقتصادي، مع الحاجة إلى تعويض القطاعات المتضرّرة، بما يستنزف الاحتياطات النقدية.
وكانت الحكومة الفرنسية حذّرت، قبل أيام، أن فرنسا ستشهد خلال العام الحالي (2020) أسوأ ركود اقتصادي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، نتيجة فيروس كورونا المستجد. أما رئيسة المصرف المركزي، كريستين لاغارد، فعرضت، في القمة الأوروبية أخيرا، تقديرات بأن الأزمة، إذا استمرّت حتى الخريف، ستدفع منطقة اليورو إلى ركودٍ بنسبة تتجاوز 10%، وهو ما بات يخشى معه أن تلامس جائحة الفقر قطاعات مهمة من المجتمعات الأوروبية، مع تسريح أعداد هائلة من العاملين، والمقصود فقر بالمقاييس الأوروبية، لا معايير العالم الثالث. مع ما قد يرتبط بذلك من ارتدادات اجتماعية: اضطرابات، احتجاجات، وظهور أشكال جديدة من الجرائم واضطراب حبل الأمن. وقد وصف الفيلسوف الفرنسي اليساري، ميشال أونفراي، أوروبا، بهذه المناسبة بأنها "العالم الثالث الجديد".
ليس الوضع في بلدٍ كبير يشاطر أوروبا مفهوم "المركزية الغربية"، وهو الولايات المتحدة
الأميركية، بأحسن حالاً، بل هو أسوأ في حجم انتشار الوباء، وفي نمو أعداد ضحاياه، غير أن هذا الأمر لا يمثل "عزاء"، إذ يمثّل الجانبان، الأوروبي والأميركي، لكل منهما عمقاً استراتيجياً وتكاملاً حضارياً وثقافياً، ومرجعية رمزية في مناحي التقدّم والتفوق متعدّد الأوجه، وحين ينوء الطرفان، كما هو جارٍ حالياً، بتبعات الوباء ومفاعيله السلبية الخطيرة والممتدة، فإن حجم الإحباط يتزايد وتشتد فداحته، فيما يبدو الوضع أقل سوءا في بلد غربي، مثل كندا، وفي بلد آخر هو أستراليا.
وفي هذه الأثناء، فإن تضعضع الاتحاد القارّي نتيجة الانقسامات بين شمال وجنوب حول سندات كورونا المالية المقترحة، يجعل المخاوف من تجدّد السابقة البريطانية في الانفصال عن الاتحاد أكثر واقعية. ولا يتردد رئيس الوزراء الإيطالي، جوزيبّي كونتي، في القول إن الاتحاد الأوروبي ذاهب إلى الانهيار من غير سندات كورونا، فيما يؤكد نظيره الإسباني، بيدرو سانشيز، إن الفشل سيكون بداية نهاية الاتحاد.
وجملة القول هنا إن ما يرشح عن القارّة الأكثر تقدما شعورٌ مريرٌ بالهزيمة يخيم عليها، في حربٍ مفاجئة، فُرضت عليها في عقر دارها من عدو غير مرئي، يهدّد كل فرد فيها، وما زالت فصول هذه الحرب الطاحنة تتوالى. ولئن كانت غالبية الأسرة البشرية تتعرّض بالتزامن لهذه الحرب أيضا، إلا أن خسارة الأوروبيين تبدو أكبر في عدد الضحايا (من جميع الأعمار لا المسنين فقط)، وفي تقوّض الحلم الأوروبي والتهيؤ لخسارة مزايا كثيرة جمّة كانت تتوفر عليها بلدانهم حتى بداية العام الجاري 2020.
وبينما يشكو إيطاليون وإسبان، على المستويين، الرسمي والشعبي، بصيغ مختلفة من "خذلان"
ولأن التطورات السلبية للوباء مرشّحة للاستمرار إلى فترة تزيد عن التي انتشر فيها الوباء إلى الآن، فإن نموذج الرفاه الاقتصادي الذي لطالما فاخرت به دول القارّة، في غربها وشمالها على الأخص، أخذت تحِفّ به علامات استفهام كبيرة، مع الخسائر الفلكية لعمليات الإنتاج وعمليات التصدير وانهيار الأسواق المالية وتبخّر العائدات السياحية (حجم مبيعات القطاع السياحي في إيطاليا وحدها عام 2019 بلغ 146 مليار يورو)، ما ينشر حالةً مفزعة من ركود اقتصادي، مع الحاجة إلى تعويض القطاعات المتضرّرة، بما يستنزف الاحتياطات النقدية.
وكانت الحكومة الفرنسية حذّرت، قبل أيام، أن فرنسا ستشهد خلال العام الحالي (2020) أسوأ ركود اقتصادي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، نتيجة فيروس كورونا المستجد. أما رئيسة المصرف المركزي، كريستين لاغارد، فعرضت، في القمة الأوروبية أخيرا، تقديرات بأن الأزمة، إذا استمرّت حتى الخريف، ستدفع منطقة اليورو إلى ركودٍ بنسبة تتجاوز 10%، وهو ما بات يخشى معه أن تلامس جائحة الفقر قطاعات مهمة من المجتمعات الأوروبية، مع تسريح أعداد هائلة من العاملين، والمقصود فقر بالمقاييس الأوروبية، لا معايير العالم الثالث. مع ما قد يرتبط بذلك من ارتدادات اجتماعية: اضطرابات، احتجاجات، وظهور أشكال جديدة من الجرائم واضطراب حبل الأمن. وقد وصف الفيلسوف الفرنسي اليساري، ميشال أونفراي، أوروبا، بهذه المناسبة بأنها "العالم الثالث الجديد".
ليس الوضع في بلدٍ كبير يشاطر أوروبا مفهوم "المركزية الغربية"، وهو الولايات المتحدة
وفي هذه الأثناء، فإن تضعضع الاتحاد القارّي نتيجة الانقسامات بين شمال وجنوب حول سندات كورونا المالية المقترحة، يجعل المخاوف من تجدّد السابقة البريطانية في الانفصال عن الاتحاد أكثر واقعية. ولا يتردد رئيس الوزراء الإيطالي، جوزيبّي كونتي، في القول إن الاتحاد الأوروبي ذاهب إلى الانهيار من غير سندات كورونا، فيما يؤكد نظيره الإسباني، بيدرو سانشيز، إن الفشل سيكون بداية نهاية الاتحاد.
وجملة القول هنا إن ما يرشح عن القارّة الأكثر تقدما شعورٌ مريرٌ بالهزيمة يخيم عليها، في حربٍ مفاجئة، فُرضت عليها في عقر دارها من عدو غير مرئي، يهدّد كل فرد فيها، وما زالت فصول هذه الحرب الطاحنة تتوالى. ولئن كانت غالبية الأسرة البشرية تتعرّض بالتزامن لهذه الحرب أيضا، إلا أن خسارة الأوروبيين تبدو أكبر في عدد الضحايا (من جميع الأعمار لا المسنين فقط)، وفي تقوّض الحلم الأوروبي والتهيؤ لخسارة مزايا كثيرة جمّة كانت تتوفر عليها بلدانهم حتى بداية العام الجاري 2020.