04 نوفمبر 2024
ليس بالتطبيع مع إسرائيل ينجو السودان
بكشفه عن اجتماعه برئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، في 3 الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، عزّز رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، فرص فوزه النسبي على منافسيه في انتخابات البرلمان (الكنيست) التي انتظمت الأسبوع الماضي، حين قدّم نفسه للناخب الإسرائيلي بوصفه السياسي القادر على تحييد المزيد من أعداء إسرائيل، واعدا بإعادة آلاف اللاجئين السودانيين (يفتقدون للخدمات والحقوق الأساسية، ويعانون من التمييز العنصري) يشكلون حوالي خمس العمال "غير الشرعيين" في إسرائيل. وتحت ضغط الحرج، صرّح البرهان في 13 فبراير أنه هَدُفَ من اجتماعه بنتنياهو صيانة المصالح "الوطنية والقومية"، معتبرا ذلك مفتاحا ضروريا لباب رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب الأميركية. وبذلك ينضم مجلس السيادة (الانتقالي) في السودان إلى عواصم عربية ترى أن السبيل الأكثر فعالية لتغيير السياسة الأميركية لصالحها هو دعم "صفقة القرن"، والتطبيع مع إسرائيل.
علاوة على خسائر السودان نتيجة سوء الإدارة، والفساد الحكومي، 30 عاما من استبداد نظام عمر البشير، تكبّد السودان جرّاء العقوبات التي فرضت عليه 26 عاما خسائر بقيمة 350 مليار دولار. وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2017، أعلنت الولايات المتحدة عن إنهاء الحظر التجاري المفروض على السودان، لكنها أبقت البلد على قائمة الدول الراعية للإرهاب، ما
عرقل رفع العقوبات، وحرم السودان من فرص التفاوض مع الأسرة الدولية بشأن ديونه، وتلقي المساعدات والقروض الدولية. بكل الأحوال، كان ذلك أكثر العلامات الدالّة على انفراج بين الخرطوم وواشنطن، بعد أن أدركت الولايات المتحدة ديمومة نظام حزب المؤتمر الوطني؛ ووجدت فيه فائدة تتناسب وجدول أعمال سياستها الخارجية؛ من اعتراض المهاجرين عبر الصحراء، مرورا بالتعاون الاستخباراتي لمكافحة الإرهاب، وصولا إلى توفير قواتٍ قليلة التكلفة يمكن استهلاكها في الحرب التي تقودها السعودية في اليمن. وخاضت إدارة الرئيس ترامب في مناقشات مع نظام البشير بشأن تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وحذف السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، لكنها علقتها عندما تدخل الجيش في 11 أبريل/ نيسان لإقالة البشير، تحت ضغط الثورة الشعبية، وطالبت العسكر بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية.
ترأس عبد الله حمدوك الحكومة الانتقالية في السودان، وبدأ مبكّرا جهوده لتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية، فزار، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، واشنطن محاولا إقناع المسؤولين الأميركيين بانتهاء مبرّرات الاستمرار في وضع السودان على القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، بعد إطاحة البشير، متسلحا بإجراءات حكومية، هدفت إلى تعزيز الحريات، وحقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب. لم يكن قرار البيت الأبيض وحده كفيلا برفع العقوبات (إضافة إلى عقوبات أقرّها البيت الأبيض هناك عقوبات أقرّها الكونغرس)، واصطدمت مساعي حمدوك بقلق أميركي حيال نجاح السودان في تفكيك نظام البشير بالكامل،
ولاحقا، لمس إصرارا أميركيا على أن يدفع السودان اليوم ثمن جرائم السودان بالأمس، سيما في القضايا القانونية المتعلقة بالهجمات الإرهابية في نيروبي ودار السلام (1998) والمدمرة الأميركية كول (2000)، وأن التعويضات التي تبلغ مليارات الدولارات لا تزال أولوية بالنسبة للإدارة الأميركية. واستيفاءً للشروط الأميركية، على طريق ربما ما زالت طويلة أمام رفع السودان من قائمة الإرهاب، وقّعت الحكومة السودانية برئاسة حمدوك في 7 فبراير/ شباط الماضي اتفاق تسوية مع أسر ضحايا حادث تفجير المدمرة كول، من دون الإعلان عن حجم الأموال التي يتوجب على السودان دفعها تعويضا.
وفي الرابع من مارس/ آذار الحالي، أعلن محافظ بنك السودان المركزي، أن البنك تلقى خطاباً من مدير مكتب العقوبات في وزارة الخارجية الأميركية، يؤكد انتهاء كل أشكال العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان، ليتبين لاحقا أن لا جديد في الخطاب الأميركي الذي بقي تكرارا لما أعلنته الولايات المتحدة الأميركية في 2017، وأن ما أثير حوله مجرّد ضجّة سياسية، ومحاولة من حكومة عاجزة لتضليل الشعب السوداني، في غمرة مساعيها لتوفير فرص للبقاء الاقتصادي عبر مزيد من الارتهان للإدارة الأميركية، التي تتلاعب في دول المنطقة، وفق مصالحها السياسية والاقتصادية، ما يعمق ضائقة السودان المالية والمعيشية، بدل أن يحقق لها انفراجا.
خلافا لمسار مهين للسودان وتضحيات شعبه، هناك خطوات متاحة أمام الحكومة السودانية، فبدل تسوياتٍ تسبق استكمال الإجراءات القانونية، وتكلّف السودان مليارات الدولارات، في وسع السودان خوض معارك قضائية أمام المحاكم الأميركية نفسها، ففي قضية تعويضات ضحايا دار السلام ونيروبي، يطالب المدّعون بتعويضات بناء على قانون صادر في العام 2008، بينما
وقعت الهجمات قبل ذلك بعشر سنوات، وما زالت المحكمة الدستورية العليا الأميركية تنظر ما إذا كان من الممكن تطبيق القانون بمفعول رجعي. هناك ثغرات قانونية قد تنصف السودان الجديد. أما التعجيل في تقديم البشير ليحاكم عن جرائمه في إقليم دارفور أمام محكمة الجنايات الدولية فيحسّن علاقة السودان بالأسرة الدولية التي على السودان مطالبتها بمساعدته في استعادة أمواله التي سرقها البشير وبطانته، والمودعة في المصارف والبنوك الأجنبية. وفي وسع الحكومة السودانية التحالف مع الدول ذات المصلحة في إحداث انتقال ديمقراطي حقيقي في السودان، ودعم الحكم المدني فيه، بدل الدعم المشروط الذي تقدمه دول خليجية لعسكر السودان الذي قد ينتهي بتحويل الجيش إلى قواتٍ غير نظاميةٍ من مرتزقة تخدم أجندات خارجية. وكما حققت جيبوتي مكاسب من تعاونها استخباراتيا مع الغرب، بإمكان السودان أن يجعل من هذا الملف ورقة ضغط على الإدارة الأميركية. كما يحتاج السودان لفتح حوار مع أعضاء الكونغرس لشرح الموقف السوداني.
لن ينقذ رفع العقوبات السودان ما لم ترافقه إصلاحات هيكلية وبنيوية للاقتصاد السوداني، فلم يكف رفع العقوبات عن طهران، بعد توقيعها على الاتفاق النووي مع الإدارة الأميركية العام 2015، لدفع عجلة الاقتصاد الإيراني الراكد سنوات، وتحرّكت الشركات متعدّدة الجنسيات والاستثمارات هناك ببطء، وحين كانت إدارة ترامب تستعد للانسحاب من الصفقة النووية في أوائل عام 2018، كانت دوائر أميركية ترى أن على ترامب أن يحافظ على الاتفاق النووي، ويتجنب الخلاف السياسي مع الحلفاء الأوروبيين، على أساس أن إيران كانت تتلقى فائدةً اقتصاديةً قليلة من رفع الحظر عنها بموجب الاتفاق النووي.
رفض الشعب السوداني في معظمه، وكذا أحزابه وتياراته الوطنية الكبرى، توجهات البرهان إلى التطبيع مع إسرائيل، ولا يحتاج قادة السودان، عسكريين ومدنيين، لتذكيرهم بأن تطبيع دول عربية مع الكيان الصهيوني، وحتى توقيعها اتفاقيات للسلام معها، لم يوفر لها سوى مكاسب ديبلوماسية مؤقتة، وأنها لم تصبح مع تلك الاتفاقيات في حال سياسية واقتصادية وأمنية أفضل، ولم يمنح ذلك نظمها الحاكمة أي حصانة أمام شعوبها. وقد تعاون الرئيس السوداني الأسبق، جعفر النميري، مع مسؤولين إسرائيليين، وسمح لليهود الإثيوبيين بالهجرة عبر السودان، في إطار عملية موسى في أواخر عام 1984، في سعيه إلى تعزيز علاقات السودان مع الولايات المتحدة، ومحاولة لضمان بقائه السياسي، إلا أنه، في الوقت الذي جلبت له هذه الخطوة، بعض الفوائد المالية، فإنها أسهمت، في النهاية، بسقوط نظامه عبر ثورة شعبية. وعلى مجلس السيادة السوداني، أن يدرك أن الاستمرار في التطبيع سيعرّضه لخطر فقدانه دعم الشارع السوداني. وعليه أن يسعى إلى الخروج من الأزمة بخطواتٍ لا تضر بالقضية الفلسطينية، ولا تتعارض مع إرادة السودانيين التي هي اليوم أقوى من أي وقت مضى.
ترأس عبد الله حمدوك الحكومة الانتقالية في السودان، وبدأ مبكّرا جهوده لتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية، فزار، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، واشنطن محاولا إقناع المسؤولين الأميركيين بانتهاء مبرّرات الاستمرار في وضع السودان على القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، بعد إطاحة البشير، متسلحا بإجراءات حكومية، هدفت إلى تعزيز الحريات، وحقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب. لم يكن قرار البيت الأبيض وحده كفيلا برفع العقوبات (إضافة إلى عقوبات أقرّها البيت الأبيض هناك عقوبات أقرّها الكونغرس)، واصطدمت مساعي حمدوك بقلق أميركي حيال نجاح السودان في تفكيك نظام البشير بالكامل،
وفي الرابع من مارس/ آذار الحالي، أعلن محافظ بنك السودان المركزي، أن البنك تلقى خطاباً من مدير مكتب العقوبات في وزارة الخارجية الأميركية، يؤكد انتهاء كل أشكال العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان، ليتبين لاحقا أن لا جديد في الخطاب الأميركي الذي بقي تكرارا لما أعلنته الولايات المتحدة الأميركية في 2017، وأن ما أثير حوله مجرّد ضجّة سياسية، ومحاولة من حكومة عاجزة لتضليل الشعب السوداني، في غمرة مساعيها لتوفير فرص للبقاء الاقتصادي عبر مزيد من الارتهان للإدارة الأميركية، التي تتلاعب في دول المنطقة، وفق مصالحها السياسية والاقتصادية، ما يعمق ضائقة السودان المالية والمعيشية، بدل أن يحقق لها انفراجا.
خلافا لمسار مهين للسودان وتضحيات شعبه، هناك خطوات متاحة أمام الحكومة السودانية، فبدل تسوياتٍ تسبق استكمال الإجراءات القانونية، وتكلّف السودان مليارات الدولارات، في وسع السودان خوض معارك قضائية أمام المحاكم الأميركية نفسها، ففي قضية تعويضات ضحايا دار السلام ونيروبي، يطالب المدّعون بتعويضات بناء على قانون صادر في العام 2008، بينما
لن ينقذ رفع العقوبات السودان ما لم ترافقه إصلاحات هيكلية وبنيوية للاقتصاد السوداني، فلم يكف رفع العقوبات عن طهران، بعد توقيعها على الاتفاق النووي مع الإدارة الأميركية العام 2015، لدفع عجلة الاقتصاد الإيراني الراكد سنوات، وتحرّكت الشركات متعدّدة الجنسيات والاستثمارات هناك ببطء، وحين كانت إدارة ترامب تستعد للانسحاب من الصفقة النووية في أوائل عام 2018، كانت دوائر أميركية ترى أن على ترامب أن يحافظ على الاتفاق النووي، ويتجنب الخلاف السياسي مع الحلفاء الأوروبيين، على أساس أن إيران كانت تتلقى فائدةً اقتصاديةً قليلة من رفع الحظر عنها بموجب الاتفاق النووي.
رفض الشعب السوداني في معظمه، وكذا أحزابه وتياراته الوطنية الكبرى، توجهات البرهان إلى التطبيع مع إسرائيل، ولا يحتاج قادة السودان، عسكريين ومدنيين، لتذكيرهم بأن تطبيع دول عربية مع الكيان الصهيوني، وحتى توقيعها اتفاقيات للسلام معها، لم يوفر لها سوى مكاسب ديبلوماسية مؤقتة، وأنها لم تصبح مع تلك الاتفاقيات في حال سياسية واقتصادية وأمنية أفضل، ولم يمنح ذلك نظمها الحاكمة أي حصانة أمام شعوبها. وقد تعاون الرئيس السوداني الأسبق، جعفر النميري، مع مسؤولين إسرائيليين، وسمح لليهود الإثيوبيين بالهجرة عبر السودان، في إطار عملية موسى في أواخر عام 1984، في سعيه إلى تعزيز علاقات السودان مع الولايات المتحدة، ومحاولة لضمان بقائه السياسي، إلا أنه، في الوقت الذي جلبت له هذه الخطوة، بعض الفوائد المالية، فإنها أسهمت، في النهاية، بسقوط نظامه عبر ثورة شعبية. وعلى مجلس السيادة السوداني، أن يدرك أن الاستمرار في التطبيع سيعرّضه لخطر فقدانه دعم الشارع السوداني. وعليه أن يسعى إلى الخروج من الأزمة بخطواتٍ لا تضر بالقضية الفلسطينية، ولا تتعارض مع إرادة السودانيين التي هي اليوم أقوى من أي وقت مضى.