"شهيد" المشروع الإيراني لا الفلسطيني

11 يناير 2020
+ الخط -
أثار اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، ردود فعل واسعة لدى الجانب الفلسطيني/ الفصائلي، بينما كانت الأصداء أقل لدى المجتمع الفلسطيني، والتي اقتصرت تقريبا على مساجلاتٍ على مواقع التواصل بين وجهات نظر متعارضة، فيما غابت أية مواقف معلنة لدى الجانب العربي الرسمي، باستثناء الدعوات إلى التهدئة، وتجنّب التصعيد بين إيران وأميركا، فيما نأت السلطة الوطنية في رام الله بالنفس عن هذا التطور. مواقف الفصائل، وخصوصا حركتي حماس والجهاد الإسلامي، اتجهت إلى اعتبار الأمر بمنزلة استهدافٍ لفلسطين وقضيتها، وجرت التعزية بسليماني في طهران من طرف رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، بينما أقامت الجهاد الإسلامي سرادق عزاء في قطاع غزة. وانبرت الجبهة الشعبية لاتخاذ موقف مشابه، وعبّرت منظمتا الصاعقة والجبهة الشعبية/ القيادة العامة عن موقفٍ مماثل، فيما صدرت عن الجبهة الديمقراطية مواقف مندّدة بالاغتيال واستهداف محور المقاومة. 
تثير جملة هذه المواقف تساؤلاتٍ جدّية ومتتابعة بشأن مسار القضية الفلسطينية وخياراتها الراهنة والمستقبلية، وكذا مواقف الفصائل والتنظيمات من القضايا القومية، وأيضا السياسات المتبعة حيال المعسكرات الإقليمية والدولية، وعن مآلات القرار الوطني المستقل، ومدى التقيد بخصوصية قضية فلسطين والدور التحرّري لطلائع شعبها. إذ تعاني القضية الوطنية من تراجع مكانتها، 
والانصراف القومي والإقليمي عنها بأولوياتٍ وأجنداتٍ أخرى، تخص الدول والشعوب في هذه المرحلة. كما تعاني من انحياز أميركي بلغ حد التطابق مع أجندة اليمين الإسرائيلي الأشد تطرّفا، فيما الدول الكبرى الأخرى، مثل روسيا والصين، منصرفة إلى تعظيم دور كل منها، الاقتصادي والعسكري، من غير أن تحظى قضايا الشعوب الساعية إلى التحرّر بأي انشغالٍ في أدبيات الدولتين، وفي السياسات المعتمدة لكليهما. بينما يتخذ الاتحاد الأوروبي، مجتمعا وبصورة مؤسسية، المواقف الأفضل في احترام الحقوق الفلسطينية، ورفض سياسات الاحتلال التوسعية والتنكيلية، من دون أن يقترن ذلك باتخاذ سياسة اعتراضية على الموقف الأميركي، وعلى السلبية الدولية تجاه تفعيل الحق بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي. بينما ينوء الواقع العربي بتصدّع الكيانات العراقية والليبية واليمنية والسورية، وانشطار المواقف العربية الرسمية، وحتى الشعبية، حيالها. الأمر الذي أدّى إلى تراجع قضية فلسطين إلى موقع متأخّر على الأجندات العربية، بل إن نظرة من الخارج إلى قضية فلسطين في العقد الأخير، وعلى الرغم من حجم المخاطرالوجودية والمعاناة الشديدة، فإنها تبدو أقل التهاباً من قضايا عربية أخرى.
في ضوء ذلك، يتساءل المرء ما إذا كانت هذه القضية قد أصبحت، وفق خطابات الفصائل وسلوكها، جزءا من المحور الإيراني ومن المشروع الإيراني في المنطقة، وإلى درجةٍ باتت معها درجات التصعيد الأميركي الإيراني تعني الفلسطينيين بصورة مباشرة؟ وهل بات لدى الفلسطينيين فائض قوة كي يوظّفوه في خدمة هذا المحور الإقليمي، مع ما يترتب على ذلك من أعباء سياسية ضخمة، ومن افتراقٍ عن أولويات الشعوب العربية الشقيقة التي تكافح سلمياً ضد الاستبداد والطغيان والفساد والإفقار، وضد مختلف أشكال التبعية لأي محور إقليمي أو دولي؟
تطرح هذه التساؤلات نفسها في ضوء سعي أغلبية الفصائل إلى إلحاق المشروع الوطني الفلسطيني بالمشروع الإيراني، مقابل دعم مالي وتسليحي من طهران. والعداء لأميركا لا يكفي أن يكون جامعا مشتركا بين المشروعين، فطهران تنازع واشنطن على بسط النفوذ في المنطقة، متوسلةً إنشاء أذرع طائفية ومذهبية لها، مع تعمّد تمزيق النسيج الاجتماعي والوطني، وتأليب المكونات على بعضها، والإسهام المباشر والكثيف في قمع الشعوب العربية، تحت يافطة: الموت لأميركا وإسرائيل، بينما تتفادى طهران أي رد على الاعتداءات الإسرائيلية في سورية. وبهذا يتبدّى التنافس المحموم على النفوذ، في هيئة عداء إيراني لأميركا، بينما واقع الحال يفيد من تتخذهم طهران أعداء لها، وتشن الحروب الفعلية عليهم في العراق وسورية واليمن، فيما تمطر إسرائيل بالخطابات النارية. أجل، يفيد واقع الحال بأن لا جوامع مشتركة مع طهران، حتى يتم الاندفاع إلى إقامة تحالف معها. ولو كانت طهران صافية النيات إلى تلك الدرجة في تقديم الدعم للفصائل، لكان دعمها غير مشروط، ولكانت أوقفت مثلا جرف المخيمات الفلسطينية في سورية، والتنكيل بسكانها وتشريدهم في العراء وفي المجهول المُدلهم، ولما زجّت الفصائل في مشروعها المذهبي/القومي (الفارسي). ولما أدّى ذلك إلى رفع الحواجز بين هذه الفصائل وشعوب ودول عربية شتّى، تدرك حجم الاختراق الإيراني وتلمس مخاطره الداهمة على المصير العربي، وتسعى إلى وقفه.
مهما كانت درجة إثارة الخطابات والبيانات المشاعر والعواطف، والمهرجانات الخطابية التي يتم
 خلالها التلفع بالكوفية الفلسطينية، ليست هي الفيصل في الحكم على السياسات وتقييمها، فالمحكّ هو السلوك الفعلي القائم، والمنظور العام الذي ينتظم السياسات الكلية.
كانت أقل مقتضيات المسؤولية الوطنية تملي أن تنأى تنظيماتٌ فلسطينيةٌ عن الانغماس في محور إقليمي أو حتى عربي، وأن تبتعد عن تداعيات التصعيد الأميركي الإيراني، فالمواجهات بين هذين الطرفين لا تتم في أميركا ولا في الداخل الإيراني، بل في أراضٍ عربية، وفي أجواء عربية، ومياه إقليمية عربية، والضحايا المرشحون للسقوط هم أشقاء عرب. ومن الطبيعي أن يُحتسب الجنرال قاسم سليماني شهيدا للمشروع الإيراني. ولكن ما شأن الفلسطينيين بذلك؟ وما هي المصلحة الفلسطينية بأن تتم المواجهة مع الاحتلال بأي شكلٍ كان، وفقاً لإيقاع أجندة خارجية: إيرانية أو سواها؟
تقضي المصلحة الوطنية العليا ببقاء شعلة الكفاح مضيئة، وتظهير مشروع الاستقلال الوطني وإنهاء الاحتلال الاستيطاني والعسكري، وليس طمس هذا المشروع أو تشويهه تحت دثار الالتحاق بالمشروع الإيراني، أو أي مشروع آخر يمسّ الأهداف الأصيلة للتحرّر الوطني، بما يُضعف خصوصية القضية، ويحرمها من دعم الأشقاء والأصدقاء، وتفهُّم أنصار العدل والحرية والسلام في كل مكان.