بايدن يُلحق هزيمة أخلاقية بأميركا

29 يونيو 2024
+ الخط -

بعيداً من المناظرة "التاريخية" بين دونالد ترامب وجو بايدن، فقد ألحق الأخير هزيمةً أخلاقيةً بأميركا، إذ شكّلت زيارة مجرم الحرب، الوزير الإسرائيلي يوآف غالانت، إلى واشنطن، أخيراً، فرصةً لتجديد المواقف الأميركية بخصوص الحرب على غزّة. وقد عبّر عن هذه المواقف كلٌّ من البيت الأبيض، ووزارة الدفاع (البنتاغون)، ووزارة الخارجية. ولئن كانت هناك فروق لفظية بين مواقف المؤسّسات الثلاث، غير أنّها تلتقي، كما هو مُنتظر ومفهوم، في مُحدّداتٍ أساسيةٍ تنبثق عنها مجمل سياسة إدارة بايدن تجاه حرب الإبادة، التي تقترب من إكمال شهرها التاسع.

أبرز هذه المُحدّدات أنّ واشنطن، وضمن رعايتها السياسية والعسكرية والدبلوماسية لهذه الحرب، تقوم بجهد تسليحي هائل لتلّ أبيب، بلغ، بناءً على ما يقوله مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، غيورا إيلاند، إلى أن سرّعت إدارة بايدن شحنات الذخيرة التي كان متوقّعاً تسليمها خلال عامَين تقريباً، لتسلّم في غضون شهرَين فقط، إلى القوات الإسرائيلية. فيما تفيد تقديرات بأنّ قيمة الأسلحة التي وُرّدت إلى تلّ أبيب، خلال الحرب، تزيد عن 23 مليار دولار، هذا فضلاً عن المساعدات والمنح الأخرى. ومغزى ذلك أنّه ما كان مُمكناً لنتنياهو ووزيره غالانت أن يشنّا هذه الحرب، وفي هذا المستوى من الوحشية والتدمير الشامل، لو لم تتوفّر الأسلحة والذخيرة الأميركيتان. وهو ما يُعزّز الاستخلاص بأنّ واشنطن ضالعة في هذه الحرب، وإلى درجة أنّ وزير الخارجية، بلينكن، لم يكن يتورّع عن المشاركة في اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلي في جولاته في المنطقة.

واشنطن، وضمن رعايتها السياسية والعسكرية والدبلوماسية هذه الحرب، تقوم بجهد تسليحي هائل لتلّ أبيب

الأمر الثاني، أنّ واشنطن كانت تُفضّل لو أنّ فترة الحرب استغرقت مدّة أقصر، غير أنّها لم تقف عقبة أمام نتنياهو وغالانت في إطالة أمد الحرب بدعوى القضاء على حركة حماس. مقترحات بايدن لوقف إطلاق النار وطريقة تقديمها ومتابعتها تثبت ذلك، فبينما رفضت تلّ أبيب هذه المقترحات، سارعت واشنطن إلى تحميل "حماس" مسؤولية عدم التجاوب مع المقترحات، وظلّ المسؤولون الأميركيون يُردّدون بصورة آلية أنّ "حماس" هي المسؤولة، من دون التطرّق إلى موقف حكومة نتنياهو السلبي. وحدث الشيء ذاته مع القرار الصادر من مجلس الأمن رقم 2735 (دعا إلى وقف إطلاق النار في غزّة وتبادل غير مشروط لصفقة تبادل الأسرى)، الذي سارعت تلّ أبيب إلى رفضه، ولم تتأخّر "حماس" في قبوله. ومع ذلك، حمّلت "حماس" المسؤولية. وما يثير السخرية أنّ واشنطن لا تُبالي بمقترحات رئيسها، ولا بالقرار الأممي الذي كانت قد تقدّمت بمشروعه للتصويت عليه، وذلك كلّه من أجل عدم تكدير صفوي نتنياهو وغالانت، ومن أجل تمكينهما من إطالة أمد الحرب. ومنذ شهور، يردّد الوزير بلينكن أنّه يسعى إلى التوصّل إلى وقف إطلاق النار، وهو بذلك يخاطب قواعد الحزب الديمقراطي والناخبين الأميركيين، لكنّ الوقائع تثبت أنّ الاستراتيجية التي يعمل عليها إرضاء نتنياهو وغالانت، وتمكينهما من مواصلة تدمير غزّة.

يتعلّق الأمر الثالث بالمدنيين. فقد اعترف بايدن بأنّ الأسلحة الأميركية قتلت مدنيين في غزّة، ولم يكن الوضع بحاجةٍ إلى هذا الاعتراف، فالقاصي والداني يعرف كيف وأين تستخدم هذه الأسلحة. والحرص اللفظي، الذي يبديه بايدن وأركان إدارته على المدنيين، هو كما تدّل الوقائع محض كلام فارغ ومعسول، فواشنطن لا تدين قتل المدنيين أبداً، ولم تطلب مرّة واحدةً من نتنياهو وغالانت التوقّف عن استهداف المدنيين والمرافق المدنية. وقد كان وزير الدفاع لويد أوستن الأكثر وضوحاً بين مسؤولي الإدارة، حين كرّر مطالبه بتقليل عدد الضحايا المدنيين، وقد استجاب نتنياهو له، وقلّص عدد الضحايا يوميّاً، من مائتين إلى مائة ضحيّة، أو أقلّ بقليل. يُقصَف المدنيون في مراكز الإيواء، ولدى تجمّعهم لاستقبال المساعدات، إضافة إلى قصف خيام النازحين، وتصمت واشنطن صمت القبور عن هذه الجرائم الدنيئة وشبه اليوميّة (في أثناء زيارة غالانت واشنطن قُصفَت خمسة مراكز لإيواء النازحين خلال أقلّ من 48 ساعة، مع استهداف المُسعِفين. ومع ذلك، واصل المسؤولون الأميركيون إبداء التوقير لضيفهم مجرم الحرب). يتزايد عدد القتلى المدنيين يوميّاً، ولا تجد واشنطن ما تقوله أو تفعله إزاء هذه الفظائع سوى إبداء الغرام المجنون بالدولة الإسرائيلية المارقة، التي تمارس الإرهاب بصورة منهجية واستعراضية. وبينما يُعلََن عن 21 ألف طفل مفقودين في غزّة (لم يختطفهم قطّاع طرق)، فإنّ البيت الأبيض لا يجد في الأثناء ما يقوله سوى "نقف في جانب إسرائيل وسنعمل على تزويدها بما تحتاجه من أجل الدفاع عن نفسها. المساعدات العسكرية الأميركية مستمرّة في الوصول إلى إسرائيل".

الحرص اللفظي، الذي يبديه بايدن وأركان إدارته على المدنيين، هو كما تدّل الوقائع محض كلام فارغ ومعسول، فواشنطن لا تدين قتل المدنيين أبداً

الأمر الرابع، المساعدات. يُردّد المسؤولون الأميركيون أنّ المعابر البرّية هي أفضل طريق لإيصال المساعدات. وفي الوقت نفسه، فإنّهم لا يزعجون حكومة نتنياهو بطلب واضح حازم بعدم عرقلة مرور المساعدات. يتركون المسألة لمروءة نتنياهو ولطفه وحرصه على سلامة البشر. وليس هناك من جهة دولية محايدة قد خرجت للقول إنّ واشنطن تساهم مساهمة مباشرة وملموسة في إيصال المساعدات وتوزيعها. هذا يقود إلى استخلاص أنّ واشنطن شريكةٌ في حرب التجويع، وأنّ ما يُصرّح به مسؤولوها هو لذرّ الرماد في الأعين. ولو كان لدى الإدارة الأميركية قدر من الشرف والأمانة لقامت، من جانبها، بتسيير 100 شاحنة أميركية يوميّاً، لإيصال الدواء والماء وحليب الأطفال، لكنّها لا تفعل ذلك، ولا تفكّر بذلك، بل تعمل على مضاعفة تدجيج الغزاة القتلة بالسلاح.

سبق للوزير أوستن أن قال، في تلّ أبيب وفي واشنطن، إنّ الإسرائيليين يُمنون بهزيمة استراتيجية وأخلاقية بإيقاع أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين. في واقع الحال، إنّ الهزيمة الاخلاقية النكراء لا تقتصر على حكومة نتنياهو وأركان حربه، بل تشمل إدارة بايدن، التي قامت وما زالت تقوم برعاية هذه الحرب التي تستهدف المدنيين أولاً، وقبل كلّ شيء، كما تستهدف كلّ موارد الحياة، ويقع خرقٌ جسيمٌ لقواعد الحروب ومواثيق جنيف والقانون الدولي والإنساني، بما يجعل منها حرباً بلا ضوابط، وذات طبيعة إرهابية مكشوفة، وبما يدين الفاعلين والشركاء والرعاة، فمن الأمم المتّحدة إلى محكمة العدل الدولية، إلى المحكمة الجنائية الدولية، إلى منظّمة العفو الدولية، إلى منظّمة هيومان رايتس ووتش، إلى الملايين من شبيبة الجامعات في أميركا وأوروبا، فإنّ إدانات هذه الفظائع تتواصل، فيما التبلّد الأميركي الرسمي على حاله، فيُستقبَل مجرم الحرب غالانت بحفاوة، ويُطمأن بأنّ هناك المزيد والمزيد من الأسلحة لضمان مواصلة حربه على النساء والأطفال.