30 مارس 2020
مواجهة في كربلاء
رافد جبوري
كاتب وصحفي عراقي، مراسل تلفزيون العربي في واشنطن، له مقالات وبحوث منشورة باللغتين العربية والانكليزية، ماجستير في التاريخ المعاصر والسياسة من جامعة لندن.
كشفت مواقف عديدة أخيرا، أهمها ما حدث في حفل افتتاح بطولة غرب آسيا بكرة القدم في ملعب كربلاء، عن أن الأحزاب والقوى السياسية الطائفية في العراق تمر بأزمة في ما يخص علاقاتها بالشعب وبتوجهات الرأي العام. أثار ظهور نساء جميلات أنيقات ومحترمات بلا حجاب في الحفل جدلا كبيرا، وقد تصدرت صورة عازفة الكمان اللبنانية جويل سعادة، وهي تعزف النشيد الوطني العراقي "نشيد موطني"، ذلك الجدل. هاجم قادة أحزاب تتبنّى الإسلام السياسي نهجا مفترضا ما حدث، مدعين أنه كان انتهاكا لقدسية مدينة كربلاء التي تضم، كما هو معروف، مزاراتٍ شيعية كبرى، وقد كانت في قلب أحداث كبرى في التاريخ الإسلامي. ولكن تلك الانتقادات التي صدرت ممن يوصفون بأنهم إسلاميون شيعة تعرّضت لموجة نقد شديد مقابلة من كثيرين، يتبنون نهجا غير متشدّد في النظر إلى طبيعة كربلاء، وغيرها من المدن التي تضم مزارات ومشاهد ورموزا إسلامية. وبان واضحا، على الأقل في سياق التغطيات الإعلامية، أن "الإسلاميين" أصبحوا بسرعة في موقف المدافع في هذه القضية، ما يعكس أزمة في علاقتهم بالجمهور.
وصف الأزمة الحالية بأزمة الطائفيين هو أدق من وصفها بأزمة الإسلاميين، لأن العامل الأساسي المفرق في العراق حاليا هو العامل الطائفي، وهو المنظار الأدق لتقييم تلك الأحزاب والجماعات وتصنيفها. فما يجمعها فعلا هو النهج الطائفي، أما الأيدولوجيا الإسلامية فقد كان واضحا، منذ الأيام الأولى لغزو العراق، أنهم غادروها عمليا نحو نهج أكثر براغماتية، تمثل في التعاون مع الولايات المتحدة الأميركية، في سبيل الوصول إلى السيطرة على الحكم، بعد أن كانت عقيدتهم المعلنة أيام المعارضة تعادي أميركا، وتصفها بالأوصاف نفسها التي تأتي من
إيران التي كانت تدعم تلك الأحزاب. حتى في التطبيق بعد السيطرة على الحكم، دعمت تلك الأحزاب وأنصارها النهج الطائفي في الممارسات الدينية، ودعمت هيمنته وهيمنة رموزه على الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية. في المقابل، لم تنتهج نهجا إسلاميا تقليديا في تطبيقات القوانين في العاصمة بغداد تحديدا. أما في الجنوب، ذي الغالبية الشيعية، فقد تناغمت تلك الأحزاب مع بيئةٍ محافظةٍ فقدت معظم معالم التحديث الاجتماعي، بسبب سنوات الحصار والحروب. ولكن السنوات الأخيرة أفرزت ظواهر غريبة، تمثلت في تربح مليشيات ترفع الشعارات الإسلامية من عمولات وإتاوات تفرض على تجار الخمور وأصحاب أماكن لعب القمار وغير ذلك.
وإذا كنا نتحدث عن الطائفية، فهي لا تقتصر طبعا على الأحزاب الشيعية المتحدث عنها أعلاه، ولكن أيضا القوى الموجودة في المناطق ذات الغالبية السنية، لكن تلك المنطقة تعاني تشتّتا كبيرا في البيئة السياسية، لأسباب معروفة، تجعل من الصعب تصنيف القوى السياسية هناك، إضافة إلى أنها كلها تقريبا، عدا الحزب الإسلامي، قوى جديدة، أو مصطنعة، لا يعرف لها نهج أيديولوجي أو تاريخي واضح. في تلك البيئة أيضا، نقلت لنا الأخبار أن شرطة محافظة الأنبار بدأت تطارد الشبان الذين يرتدون السراويل القصيرة التي تمتد إلى الركبة، وتعرف بتسميتها الأجنبية "برمودا"، وهي سراويل مريحة في الجو الحار، لكنها ليست مريحة للأوصياء على الناس، ممن يعتقدون أنهم يفرضون الالتزام بالأخلاق والتقاليد بهذه الطريقة. وقد تعرّضت تلك الإجراءات للإدانة أيضا من كثيرين، وانتشر بسرعة وصفها بأربعة برمودا، في إشارة إلى الفقرة الرابعة سيئة الصيت من قانون مكافحة الإرهاب المدان في تلك المناطق، بسبب استخدامه أداة للقمع والاعتقال الجماعي.
شهدت الأزمة الجديدة إذن انتصارا للطروحات التي يتبناها المعتدلون والمؤمنون بعدم وصاية الحكومة، أو الدولة، حتى أو أي طرف، مهما كان متنفذا على خيارات الناس وحرياتهم الشخصية. لكن هذه الأزمة لا تصح قراءتها أنها أزمة ذات بعد سياسي بين التيار المدني والإسلاميين، لأن التيار المدني لم يتبلور بعد إلى قوة سياسية متمايزة مؤثرة، فهو ليس موحدا سياسيا، على الرغم من وضوح قوته وتأثيره في مجال الإعلام التقليدي، والإعلام الجديد. ولكن هذا هو اتجاه للرأي العام، وليس رصيدا سياسيا مضمونا، فقد يكون من بين من دانوا
تصريحات الأحزاب الطائفية بشأن ما حصل في ملعب كربلاء أناس ممن يصوّتون لها، أو لا يؤيدون التيارات المدنية في كل طروحاتها، بل هم محافظون معتدلون. كما أن التجسد السياسي العملي الأهم للتيار المدني تمثل في التحالف مع التيار الصدري، وهو تيار إسلامي شيعي معروف بوجهة نظره في ما يخص الحجاب والمرأة. وعلى الرغم من أن زعيم التيار مقتدى الصدر اتخذ موقفا معتدلا في الأزمة أخيرا، ولم يؤيد الأصوات الناقدة للحفل الذي جرى في ملعب كربلاء، فإن ذلك يأتي أيضا كتحرك ذكي، يستثمر في رأي عام خسرته قوى إسلامية منافسه له، ولكنه ليس مراجعة سياسية أيديولوجية.
من غير تغيير في قواعد العمل السياسي، صعب على العلمانيين في العراق أن يترجموا حنق الرأي العام من تصريحات القادة الطائفيين المسيطرين ضد ما حدث في ملعب كربلاء إلى تغيير سياسي. أزمة الطائفيين مستمرة، وهم يخسرون كل يوم، وكانت نسبة المشاركة المتدنية في انتخابات العام الماضي مؤشرا واضحا على ذلك. تشير أحداث كربلاء والأنبار إلى استمرار الفجوة بين من يُحكمون السيطرة على النظام السياسي في العراق وجماهير تكبر كل يوم تريد إصلاحا حقيقيا لم يتحقق، على الرغم من الوعود والشعارات التي أتت من أطراف عديدة.
وصف الأزمة الحالية بأزمة الطائفيين هو أدق من وصفها بأزمة الإسلاميين، لأن العامل الأساسي المفرق في العراق حاليا هو العامل الطائفي، وهو المنظار الأدق لتقييم تلك الأحزاب والجماعات وتصنيفها. فما يجمعها فعلا هو النهج الطائفي، أما الأيدولوجيا الإسلامية فقد كان واضحا، منذ الأيام الأولى لغزو العراق، أنهم غادروها عمليا نحو نهج أكثر براغماتية، تمثل في التعاون مع الولايات المتحدة الأميركية، في سبيل الوصول إلى السيطرة على الحكم، بعد أن كانت عقيدتهم المعلنة أيام المعارضة تعادي أميركا، وتصفها بالأوصاف نفسها التي تأتي من
وإذا كنا نتحدث عن الطائفية، فهي لا تقتصر طبعا على الأحزاب الشيعية المتحدث عنها أعلاه، ولكن أيضا القوى الموجودة في المناطق ذات الغالبية السنية، لكن تلك المنطقة تعاني تشتّتا كبيرا في البيئة السياسية، لأسباب معروفة، تجعل من الصعب تصنيف القوى السياسية هناك، إضافة إلى أنها كلها تقريبا، عدا الحزب الإسلامي، قوى جديدة، أو مصطنعة، لا يعرف لها نهج أيديولوجي أو تاريخي واضح. في تلك البيئة أيضا، نقلت لنا الأخبار أن شرطة محافظة الأنبار بدأت تطارد الشبان الذين يرتدون السراويل القصيرة التي تمتد إلى الركبة، وتعرف بتسميتها الأجنبية "برمودا"، وهي سراويل مريحة في الجو الحار، لكنها ليست مريحة للأوصياء على الناس، ممن يعتقدون أنهم يفرضون الالتزام بالأخلاق والتقاليد بهذه الطريقة. وقد تعرّضت تلك الإجراءات للإدانة أيضا من كثيرين، وانتشر بسرعة وصفها بأربعة برمودا، في إشارة إلى الفقرة الرابعة سيئة الصيت من قانون مكافحة الإرهاب المدان في تلك المناطق، بسبب استخدامه أداة للقمع والاعتقال الجماعي.
شهدت الأزمة الجديدة إذن انتصارا للطروحات التي يتبناها المعتدلون والمؤمنون بعدم وصاية الحكومة، أو الدولة، حتى أو أي طرف، مهما كان متنفذا على خيارات الناس وحرياتهم الشخصية. لكن هذه الأزمة لا تصح قراءتها أنها أزمة ذات بعد سياسي بين التيار المدني والإسلاميين، لأن التيار المدني لم يتبلور بعد إلى قوة سياسية متمايزة مؤثرة، فهو ليس موحدا سياسيا، على الرغم من وضوح قوته وتأثيره في مجال الإعلام التقليدي، والإعلام الجديد. ولكن هذا هو اتجاه للرأي العام، وليس رصيدا سياسيا مضمونا، فقد يكون من بين من دانوا
من غير تغيير في قواعد العمل السياسي، صعب على العلمانيين في العراق أن يترجموا حنق الرأي العام من تصريحات القادة الطائفيين المسيطرين ضد ما حدث في ملعب كربلاء إلى تغيير سياسي. أزمة الطائفيين مستمرة، وهم يخسرون كل يوم، وكانت نسبة المشاركة المتدنية في انتخابات العام الماضي مؤشرا واضحا على ذلك. تشير أحداث كربلاء والأنبار إلى استمرار الفجوة بين من يُحكمون السيطرة على النظام السياسي في العراق وجماهير تكبر كل يوم تريد إصلاحا حقيقيا لم يتحقق، على الرغم من الوعود والشعارات التي أتت من أطراف عديدة.
دلالات
رافد جبوري
كاتب وصحفي عراقي، مراسل تلفزيون العربي في واشنطن، له مقالات وبحوث منشورة باللغتين العربية والانكليزية، ماجستير في التاريخ المعاصر والسياسة من جامعة لندن.
رافد جبوري
مقالات أخرى
20 مارس 2020
12 مارس 2020
05 مارس 2020